الطحين الأحمر
أشار ثائر بيده الى السماء، والى كيس الطحين قبل أن يفارق الحياة. حمل نضال الجوال الأثقل منه وزناً والمتلون بدماء والده حتى أصبح الدقيق كعجينة حمراء.
لم يكن يعلم ثائر وابنه نضال أن هذه هي نهايته، عندما حاولا، في بداية شهر آذار/مارس، وفي صباح ملبد بالغيوم، أخذ نصيبهما من المساعدات الإنسانية قرب دوار النابلسي في شارع الرشيد في شمال غزة، حيث فاجأتهما دبابات الاحتلال بنيران رشاشاتها مباشرة في الرؤوس، والصدور العارية، فأصبح عشرات المدنيين يتساقطون على الأرض مُضَرّجين بدمائهم كأوراق الشجر على رصيف الشارع، أو قرب سيارات الإغاثة، ليكونوا بذلك شهداء لقمة العيش، بعد أن فتك بهم الجوع والعطش، وأسقطوا بذلك مقولة "ما في حدا بموت جوع"، لتصبح واقعاً ملموساً وحقيقياً، وعلى مرأى ومسمع العالم؛ ففي قطاع غزة تنقلب المعايير والمفاهيم.
كان ثائر يمشي مُحدِّثاً نفسه: "نحن لم نَخْترْ الحرب بل فرضت علينا. ليس أمامنا إلّا أن ندافع عن أنفسنا بعد 75 عاماً من الاحتلال، والتهجير والإبادة والصراع. جرّبنا مع العدو كافة الوسائل العسكرية والسلمية والسياسية، لكنّه استثمر وضع السكون ليبتلع الأراضي عن طريق المصادرة والتهويد وتوسعة مستوطناته. من حقّنا أن ندافع عن أنفسنا، و7 أكتوبر لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة هذا كله".
كان الظلام لا يزال يلفّ المكان، والكلّ ينتظر على أحرّ من الجمر وصول سيارات المساعدات التي سمح جيش الاحتلال بدخولها لشمال قطاع غزة، بعد 4 شهور من الحصار والإبادة الجماعيّة انتقاماً لفشله وهزيمته لأول مرة في التاريخ.
مرّ شريط الذكريات أمامه سريعاً. تذكر كيف كان ينعم وسكان غزة قبل الحرب بالطعام والشراب والوقود والكهرباء، رغم شحها، بسبب الحصار المفروض على القطاع منذ سنين. كيف كان يمشي رفقة زوجته وابنائه الخمسة في ساعات المساء على شاطئ البحر، واستنشاق هواء غزة العليل، وأحياناً يقيمون حفل شواء أو يستظلون بفيء أشجار الحديقة العامة ويفترشون الأرض فوق النجيل الأخضر.
في تلك اللحظة من بداية شهر آذار\مارس، كان ثائر يحمل جوالاً من الطحين استطاع انتزاعه من إحدى الشاحنات بعد تدافع، وتزاحم آلاف الجياع من الغزيين، المحاصرين بلا غذاء وماء ودواء وكهرباء ووقود. فجأةً، شعر بحرارة في صدره وبسائل أحمر دافىء يتدفق من صدره.
- هل أُصبت أم أنني أحلم؟ يبدو أنني لن أرى فلسطين محررة. لا بأس، فلينعم بذلك جيلنا القادم.
حضن جوال الطحين بكل قوته، وكأنه يحتضن فلسطين كلها، قبل أن يهوي أرضاً، وأخذ يتمتم بكلمات تكاد تكون همساً: أشهد أن لا إله …أخذ صوته يخفت تدريجياً. حاول أن يرفع رأسه، وأخذ ينادي ابنه نضال قبل أن يفارق الحياة.
- ننننضضضال ...نننضضضال، خُذْ الجوال، وعُد لأمك وإخوانك. أماننننننننة.. بسسسرعة لازم يوصل ...لاززززم ياكلوا، صارلهم شهر ما ذاقوا الأكل. القدس في أعناقكم. الأقصى ينادي.
ركض نضال صوب والده، وألقى بنفسه فوقه محاولاً إنقاذه.
- يابا ...يابا شو مالك؟ يا حول الله...يا ناس ساعدوني. أبي تصاوب في صدره.. إسعاف..إسعاف؟ استغفر الله العظيم.
في ظلّ هذا الازدحام الكبير، لم يسمعه أحد. فالكل يفرّ مذعوراً والعشرات سقطوا أرضاً مضرجين بدمائهم وكأنها ليلة الحشر، وبعد أن ذاع الخبر بدأت سيارات الإسعاف تحاول الوصول، لكن جنود الاحتلال منعوها من الوصول وقصفوا بعضها بلا رحمة.
الناس هائمة على وجهها، والكل يريد أن يعود بشيء لعائلته، لكن الاحتلال النازي يمنع عن الفلسطينيين كل شيء، متلذِّذاً بالقتل والهدم وممارسة أعمال أفظع من "الهولوكوست". بدأت السماء ترسل أمطارها بعد قصف الرعود وضوء البرق الساطع. اختلطت مياه الأمطار بالدماء النازفة من جروح الشهداء. أصبح الماء أحمر، والسيول تلوّنت به. كل ما حولنا أصبح أحمر.
أشار ثائر بيده الى السماء، والى كيس الطحين قبل أن يفارق الحياة. حمل نضال الجوال الأثقل منه وزناً والمتلون بدماء والده حتى أصبح الدقيق كعجينة حمراء.
نعم، خبزنا الفلسطيني مختلف عن باقي الشعوب. خبزنا أحمر. حكومات العالم كافة، والعربية خاصة، شاركت العدو في حصاد أرواحنا.
مشى نضال، وهو ابن العاشرة، حاملاً الكيس مسافة 5 كيلومترات وسط الأمطار الغزيرة، بعد أن ترك والده مضرجاً بدمائه على الأرض، لتأخذه سيارة الإسعاف الى مجمع ناصر الطبي.
وصل إلى أطراف مخيم جباليا المدمر، وجاهد حتى وصل منزلهم الآيل للسقوط. عندما رأت أمه جوال الطحين مصبوغاً بالأحمر، عرفت أن شيئاً ما قد حصل لأبو نضال.
أخذ نضال يبكي ويصرخ:
- أبوي استشهد يمّا، وهو حامل شوال الطحين. اليهود الجبناء أطلقوا نيران رشاشاتهم علينا، وهناك العشرات سقطوا في الطرقات، وهم يحاولون الحصول على المعونات. أبوي أصابه طلق في صدره، وفارق الحياة قبل أن تصل سيارة الإسعاف لإنقاذه. أنا تركته لأنفذ وصيته. أبي ناضل حتى آخر قطرة دم لتأمين لقمتنا.
لم تتمالك أم نضال نفسها فسقطت مغشياً عليها، وأخذ باقي أولادها بالصراخ. ألم يكفهم الجوع حتى يموت والدهم من أجل كيس من الطحين؟ اختلطت أصوات صراخهم بأصوات القصف وهدير الطائرات والرعود. لم تنته القصة بعد، فالعدو لا زال يمارس قصفه الجوي والبحري والبري ويطرب لمشهد الجثث وصراخ الثكالى، ويستحمّ بدماء الأطفال. لكن شعبنا وبعد مرور أكثر من 6 شهور لا يركع، ولا يستكين، ولا يخضع، ولا يستسلم، بل يقاوم وبشراسة رغم قلة الموارد، ونحن لا زلنا نبحث عما يطفىء ظمأنا، ويسدّ جوع معدتنا، حتى وإن كان طحيناً أحمر، مجبولاً بدماء شهدائنا، ونحن لن نستسلم ولن نركع "نحيا بكرامة أو نموت شهداء أو ننتصر".