الشطرنج السوري والنّرد التركي

البوصلة هي فلسطين. من هو مع فلسطين فنحن معه، ومن هو ضدها أو يتآمر عليها، أو ينسج صفقات على حسابها، فنحن ضده. ليس في هذا مساومة أو مناورة.

في لعبة الشطرنج، العقل (أو الفكر) هو الملك الأكبر الذي يهيئ الطريق أمام الملك للتربّع على عرش الرقعة بعد إزالة كل العوائق أمامه، في حين أن لاعب النرد ليس أمامه غير المقامرة بكل شيء. بين الرئيس السوري، بشار الأسد، لاعب الشطرنج، ونظيره التركي، رجب طيب إردوغان، لاعب النرد، لا يمكن المقارنة بينهما، بل من الظلم تقديم مقارنة تجمع بين الرجلين.

لا يمكن الحكم على السياسة الانفعالية التي يتصف بها إردوغان إلا بكونه مغامراً، وهي لطالما كانت، أي السياسة الانفعالية، صفات الرجل الضعيف خلال مواجهته خصماً سيادياً كالرئيس الأسد. لذلك تتصف سياسته بأنها تشبه سياسة لاعب نرد يقامر ببلاده على مذبح شهواته، في حين يختار الأسد النقلات بـ"لغة الشطرنج" الملائمة كي يكون الرد على إردوغان وسياسته في مستوى الحدث الكبير، الذي سيتجه إليه الأسد صعوداً. 

وهنا ليس من الحكمة اعتماد مبدأ "العين بالعين والسن بالسن" القبَلي أساساً لتحديد الأسلوب الذي ستتّبعه روسيا وإيران في ردهما على إسقاط إردوغان ما اتفقت عليه الدول الضامنة في "آستانة".

من المعلوم أن منطق العلاقات وسياقها بين الدول لا يقومان على أساس سطحي لا يميز بين خرق إرهابي تكفيري يحمل نيّات العدوان، وخرق فرضته طبيعة المشروع الذي تنفذه تركيا وأدواتها في شمالي سوريا، وهو ما يؤكد أن لاعب النرد ينظر إلى قضية الربح والخسارة بعين المقامرة ليس إلا.

تهديد محور المقاومة بمعاقبة المنفذين للعدوان الارهابي يجب أن يتصف بالجِدّ، فـ "سوريا الكبرى هي مفتاح البيت الروسي"، كما رأت الامبراطورة كاترين الثانية. وهذا الحلم لم يمت عند الرّوس، وبقي متوارثاً، إلى أن أتى فلاديمير بوتين الذي يحمل في نفسه جينات العظمة والبطش الكاترينيَّين. والأسهل من معاقبة مَن يقيم بتركيا، فإن موسكو ومعها طهران، وبطبيعة الحال دمشق، قادرة على محاصرة المشروع الجهنمي للمنطقة الذي سيقفل بوابات المياه الدافئة أمام كل من روسيا وإيران إلى الأبد. وهذه الدول الثلاث مضطرة إلى توجيه ضربة قاصمة إلى المجموعات الإرهابية، التي وصلت إلى حماة، واستعادة منطقة الشمال السوري كاملاً.

لعلنا نتذكّر كيف أقرّ الكونغرس الأميركي، بالإجماع، في جلسة سرية، "مشروع برنارد لويس" في عام 1983، الذي يقوم على ضرورة تفكيك العراق وسوريا ولبنان على أسس عرقية ومذهبية لتبقى "إسرائيل الكبرى" قائمة على حساب ضياع فلسطين وتفتيت محيطها الطبيعي.

لن نحتاج إلى تصفّح مجلداتنا الحافلة بالنكبات والنكسات، ولا إلى تحليل تقلبات دواليب التاريخ، وأعاصيرها التي تعصف بنا منذ بدء الحرب الكونية على "الهلال السوري الخصيب"، والتي بدأت مع احتلال فلسطين منذ أربعينيات القرن الماضي، ولا تزال تردُّداتها مستمرة حتى الآن في غزة ولبنان وسوريا.

البوصلة هي فلسطين. من هو مع فلسطين فنحن معه، ومن هو ضدها أو يتآمر عليها، أو ينسج صفقات على حسابها، فنحن ضده. ليس في هذا مساومة أو مناورة. فانظروا كيف تاجر إردوغان بفلسطين وخان المقاومة الفلسطينية، وكيف بلغ التبادل التجاري بين تركيا و"إسرائيل" أكثر من 7 مليارات دولار منذ بداية العام. وكيف دعس "ثواره" على علم فلسطين وصورة المسجد الأقصى.

إننا في زمن الخيانة والسقوط الأخلاقي الكبير، وإلّا فكيف جاز أن يُشغَل تيار المقاومة في لبنان وسوريا والعراق عن هذا الجرح العميق، الذي يئن في خاصرة الأمة.. عن فلسطين؟

يبدو أن إردوغان راودته فكرة تغيير قواعد اللعبة في سوريا، والانقلاب على مخرجات "آستانة" ورعاتها، وقال مخاطباً نفسه: "لماذا لا أضع اليد على حلب؟"، مصدقاً نفسه بأنه سلطان عثماني آخر، وهو ما يذكّرنا بملاحظة "تيمورلنك"، ومفادها أن بعض حكام المسلمين اختاروا لأنفسهم أسماء قد لا تنطبق عليهم: الواثق بالله، المعتصم بالله، المتوكل على الله، المعتز بالله، المستنصر بالله. فسأل "جحا" أن يقترح عليه اسماً يُكنّى به!

فردّ جحا: أختار لك اسماً لا تقتلني به أو تسجنني بسببه؟ 

قال تيمورلنك: أعدك.

فردّ جحا: سأطلق عليك كنية: أعوذ بالله!

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.