"السجينة" .. قصة شهرزاد المغرب

أحاطت الحياة مليكة بالترف والحظوة وكان مستقبل أبيها المهني يسير صعوداً فيصبح أكثر فأكثر محل ثقة الملك والبلاط.

  • رواية
    رواية "السجينة" لمليكة أوفقير وميشال فيتوسي.

"السجينة"، حكاية مليئة بالظلم والبطولة والإرادة الباعثة للحياة من قاع الموت، من المغرب العربي، الساحر الغامض.

كتبت مقدمته الكاتبة التونسية الفرنسية ميشيل فيتوسي تروي لنا كيف جمعتها صدفة ببطلة الكتاب مليكة إبنة الجنرال الشهير محمد أوفقير، وعملا على إنجازه سويةً، فكانت مليكة شهرزاد الحكاية التي امتلكت موهبة القص الشهرزادي المشوق، ولو أنها حكاية قاسية، لكنها أيضاً مليئة بزخم التجربة وتنوع التفاصيل التي تبعث قوة الأمل، وتعلمنا إتقان الصبر ليغدو خياراً وعزماً أكثر من كونه فرضاً للضعفاء أمام قلة الحيلة وعسف الظروف.

لكن، هل حقاً نشفى من أوجاعنا بالكتابة؟ أم أن مشاركة الحزن والفرح مع الآخرين تجعل المرء يعلو فوق نقصه وخوفه وغربته؟

ها هي مليكة تبدأ الحكاية وتختار عنوانها الأول "شارع الأميرات"، منزل مترف تمور لياليه بصخب وضحك أهله وضيوفه المترفين والنساء المتبرجات وكأنهن أميرات خرجن من الحكايات وأجملهن أمها. كانت العائلة مقربة من الأسرة الحاكمة بحكم مركز أبيها المرموق في الجيش.

بعد خمس سنوات قضتها مليكة في أحضان أهلها، يقرر الملك محمد الخامس تبنيها لتكون صديقة ابنته الوحيدة.

تجد الفتاة في هذا الانتزاع من حضن الأم وأمان المنزل تشابهاً ما مع قدر والدتها إذ توفيت جدتها وهي في الرابعة من عمرها.

هذا الانسلاخ حفر عميقاً في قلب مليكة، كانت أمها تأتي كل عدة أيام لساعة واحدة ورويداً رويداً تباعدت زياراتها في الوقت الذي كانت فيه الطفلة تعاني آلام الشوق ومضاضة الحنين لرائحة أمها وعطفها وحنانها.

وهكذا قضت طفولتها متنقلة بين قصور الملك محمد الخامس 

قصر سيدي (1958- 1969):

أمر الملك ببناء فيلا خاصة (فيلا ياسمينة) لتقيم فيها ابنته للامينا وصديقاتها بطبيعة الحال، حيث كل شيء مصمم بشكل رائع ومنتهى الفخامة والكمال.

"الحلم هناك يصبح حقيقة وكأنك تعيش في بلاد العجائب أو إحدى قصص الخيال في تلك الأجواء السحرية الفاخرة تعلمت كيف أصبح أميرة".

تصف مليكة في هذا الفصل الحياة في الفيلا وكنف الملك.

"كانت للا مينا طفلة مدللة جداً في حياة أبيها فكان رؤساء العالم قاطبةً يخطبون ودها بكميات لا تعد ولا تحصى من الهدايا يتم تكديسها في صالات اللعب، وصممت شركة والت ديزني سيارة أميركية خصيصاً لها مزيّنة بصور رسوماتها المتحركة الشهيرة. وقد كانت أخبار الأميرة الصغيرة محط أنظار المجلات العالمية وصورها تملأ صفحاتها وتستقطب اهتمام قرائها".

توفي محمد الخامس فجأةً إثر عمل جراحي عن عمر الثانية والخمسين.

"لا تتوقف مسيرة الحياة عن الدوران: مات الملك، عاش الملك. مات محمد الخامس، عاش الحسن. حزن وفرح، موت وحياة، مراسم الحداد والتتويج".

من ضمن ما تصفه مليكه وتتذكره عن حياة القصر، جواري محمد الخامس الأربعون وما أضافه الحسن الثاني من الأخريات الصغيرات السن وكيف تتولى الجواري القديمات تعليم الصغيرات أصول الإتيكيت والتعامل وغير ذلك من سلوكيات يجب أن تلم بها الجارية ثم يجري تزويجهن للحسن الثاني أربعاً أربعاً في حفل مهيب في قصر فاس.

لا يحق للجواري الإنجاب، وحدها زوجة الملك يحق لها أن تنجب ولي العهد.

الوصف والمراسم والطقوس التي تسوقها الراوية تجعلك تحسب نفسك في القرون الأولى للخلافة الإسلامية. وكأن التاريخ توقف هناك وتطورت فقط بعض الشكليات والمظاهر، وكأن القصر عالم آخر منفصل عن واقع المغرب وحياة الناس العاديين وهمومهم ومسراتهم. في كنف العائلة المالكة، البهجة والترف والتسلية في الأعياد، المكائد، الموالد، المناسبات المسلية، الاستعراضات البهيجة، مرافقة الملك في سفرياته للخارج.

أحاطت الحياة مليكة بالترف والحظوة وكان مستقبل أبيها المهني في هذه الأثناء يسير صعوداً فيصبح أكثر فأكثر محل ثقة الملك والبلاط.

ولولا ذلك الحزن في أعماقها لبعدها عن أهلها وإخوتها وتفاصيلهم وتوقها لأمها لكانت سعادتها أكمل.

الرحيل من القصر الملكي

على إثر خلافات عائلية وانفصال مؤقت حدث بين أبوي مليكة ثم كلام النميمة من الجواري والاتهامات القاسية لأمها جعل مليكة تنفجر في فورة غضب طلبت على إثرها من الملك العودة إلى منزل عائلتها ولم يعترض الملك أمام تصميمها.

منزل عائلة أوفقير

كان منزل العائلة كما تصفه مليكة بعيداً عن مظاهر البذخ والتكلف والأولوية في تصميمه للراحة وليس للتصميمات الفاخرة والخالية من أي قيمة فنية أو جمالية. وكان يعج بالضيوف الذين يأتون إلى بيتهم بسبب مركز والدها ولا يذهبون إلا بساعة متأخرة. ومع ذلك كان الجو العائلي الدافئ والمحبة تسود مناخ المنزل إخوتها ووالديها والمربيات.

في هذه المرحلة تبدأ مليكة بالانخراط في الحياة الاجتماعية في المدرسة الثانوية وأقرانها من أولاد الأقارب وأصدقاء والديها وتأتي على ذكر كيف أشارت لها إحدى طالبات المدرسة الثانوية بيد الاتهام ووصفتها بـ"ابنة القاتل" بسبب تورط أبيها بقضية مقتل "المهدي بن بركة"، والتي منع على أثرها من دخول فرنسا.

عوضت مليكة جزئياً ما فاتها في القصر من اختبار الحرية، وتفرد الصفحات التي تصف فيها شخصيات والديها وإخوتها وسنوات دراستها بين المغرب وباريس وعلاقتها بوالدها القائمة على الصداقة والندية الطفولية في بعض الأحيان وهروبها من المنزل وسهراتها مع أصدقائها ليلاً.

كانت تحلم أن تدخل مجال السينما وتصبح ممثلة سينمائية أو مخرجة، وأتيح لها أن تجتمع بالعديد من ممثلي هوليوود والفنانين في فرنسا وبريطانيا ولوس أنجلوس، بدت الحياة سعيدة زاهية إلى أن بدأت تتصاعد الأحداث السياسية في المغرب والتي كان والدها في خضمها بل من أبرز رجالات تلك الأيام. وبدايةً كان:

انقلاب الصخيرات

قام عدد من الضباط والجنود بانقلاب على الملك الحسن الثاني عندما كان يقيم احتفالاً لثلاثة أيام في قصر الصخيرات بمناسبة بلوغه الثانية والأربعين من عمره.

سقط حوالى مئتي قتيل ثلثهم من بين مدعوي الملك وتم اعتقال عشرة ضباط أعدموا في الأيام التالية من دون محاكمة وجلهم من أصدقاء الجنرال أوفقير الذي ساعد في إفشال الانقلاب، لكنه حاول حث الملك على محاكمة الضباط ولكن لم ينجح في إقناعه.

ما بعد الصخيرات

تغيرت طبيعة العلاقة بين الملك والجنرال أوفقير وبدا عدم الانسجام يطغى شيئاً فشيئاً وبدأت مليكة تعاني من حجم الانتقادات والاتهامات من زميلاتها في المدرسة الثانوية استطاعت بسببها إقناع والديها بالالتحاق بمدرسة ثانوية في باريس.

الانقلاب الثاني أودى بحياة والدها الذي قاد العملية هذه المرة ومنذئذ تغيرت الحال والأحوال للعائلة.

في السجن

فرضت على الأسرة في البداية الإقامة الجبرية في المنزل بعد ذلك نقلوا ما بين عدة سجون لعدة أعوام ليستقر الأمر في نهاية المطاف في سجن الأشغال الشاقة في منطقة بير حديد والذي طالت الإقامة به لأكثر من عشر سنوات.

وهكذا يكبر أخوها الصغير عبد اللطيف طفل الثلاث سنوات على حياة السجون، مليكة وأمها وأخوتها ومعهم سكينة وعاشورا قريبتا أمها اللتان شاركتا في تربيتها وإخوتها كانوا معاً في هذه المحنة الممتدة. 

بجرم الأب تجرّم وتعاقب عائلة بكاملها، عقاباً يمتد عشرين عاماً. 

عانت مليكة وعائلتها ويلات السجن وبرده وبؤس الموارد وويل وفظاظة السجانين وقسوتهم.

تصف الجوع والبيض الفاسد والماء العكر والخبز المبلل ببول الفئران وبعيرهم، أدركت كيف تدفع الظروف القاسية المرء نحو الوحشية والدرك الأسفل من الإنسانية. فالوقت الذي يود الإنسان الطبيعي لو يكون بحراً، يتحول إلى كابوس مرعب في السجن.

اليأس الذي سكن قلوبهم وأرواحهم في كثير من الأحيان، انتظار الموت البعيد، أحلام اليقظة التي لم تعد تحمل حتى متعة الوهم.

وبعد أن حرق الحراس الكتب التي كانت تدرّس إخوتها بهم، تحولت إلى شهرزاد تصف للصغار الحياة وتسمع همومهم وأحزانهم وتشد من أزرهم. تختلق القصص والأماكن وتروي لهم الحياة بالحب والكره والأحقاد والمكائد والبطولة.

أنفت روح مليكة الاستسلام وأرادت أن تعطي بعض الحياة لإخوتها الذين سرقت منهم حياتهم في طرفة ظلم.

الطفولة، المراهقة، الشباب، الكهولة اختبرت العائلة هذه المراحل في السجن وفقاً لتسلسل أعمارهم، البعض كعبد اللطيف تفتح على الجدران الرطبة والظلمة والبرد والوحشة فعاش طفولته، يفاعته ومراهقته في السجن زمنياً فقط، من دون تلك المواقف والاختبارات التي تجعلنا الحياة الحرة بمواجهتها لننضج ونتعلم وتتشكل ملامح شخصياتنا.

وما كان لهم الخروج ربما لو لم يوحدوا إراداتهم على استعادة حيواتهم المستلبة ويقرروا حفر نفق تحت الأرض بكل ما أوتوا من العزم والأمل والإيمان برغم قسوة الظروف والجوع والحزن والجرذان المقرفة.

أخيراً، تم لهم ما أرادوا ونجحوا بالهرب طالبين اللجوء السياسي عبر إذاعة فرنسا الدولية. لكن الملك فرض عليهم إقامة جبرية عدة سنوات ثم أعيدت لهم حريتهم مجدداً واختارت مليكة أن تكمل حياتها في فرنسا. ولعلها أن تكون أقل غربةً وحزناً إذ حكت لنا حكايتها.

الكتاب قصة حقيقية عن مواجهة الموت وجهاً لوجه واستنهاض إرادة الحياة من قيعان اليأس والظلم والهزائم النفسية والروحية، ويذكرنا في رسائله الخفية بقيمة العائلة وأهمية التماسك العائلي والمحبة والأخوة في الانتصار على أي مصيبة وانكسار بالغاَ ما بلغ.

يشار إلى أن الجنرال محمد أوفقير (ولد عام 1920،  توفي  عام 1972) وشغل منصبي وزير الدفاع ووزير الداخلية في المملكة المغربية وكان اليد اليمنى للملك محمد الخامس ثم للملك الحسن الثاني بين عامي 1940 - 1972. في 16 آب / أغسطس 1972 قام بمحاولة انقلاب فاشلة ضد الملك الحسن الثاني، تم إعدامه. يُتهم بأنه قام بمجازر عديدة ضد المعارضين، وأنه قام بخطف وتصفية المعارض الشهير المهدي بن بركة عام 1965.