الذكاء الصناعي: من عالم الخيال إلى قاعات المحاكم
تحوّل كثير مما كان يعدّ خيالاً علمياً إلى علم حقيقي، وفي مقدمته الذكاء الصناعي. كيف تم توظيف هذا العلم المتطور في حلّ القضايا العالقة والكشف عن الجرائم؟
يفيض عالمنا الرقمي اليوم بقدرٍ هائلٍ من البيانات والوثائق والمستندات القانونية، التي تُستخدم لتلقين وتغذية أحدث التكنولوجيات في عصرنا الحالي. ولهذه التطبيقات آثار مختلفة وأدوار متعدّدة في الحد من التحديات المعقدة في مختلف الصناعات والإنتاجات، وفي تقديم الخدمات، وحتى في المهن القانونية والأنظمة القضائية، بحيث أحدثت تغييراً جذرياً، خصوصاً مع بروز العدالة الرقمية والتقاضي عن بُعد واعتماد المحاكمات الإلكترونية، وتبيَّن أنَّ استخدام الذكاء الصناعي في المحاكمات والخدمات القضائية قد يساعد المحاكم على إنجاز المهام الاعتيادية المتكررة.
دفع الذكاء الصناعي عدداً من الدول إلى إعادة خلط الأوراق وترتيبها مجدداً لمواكبة هذه المتغيّرات، من خلال وضع استراتجيات وإعداد هيكليات تهيّئ لدمج الذكاء الصناعي في عمل الأنظمة القضائية، بعد أن أثبت محاكاته القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها.
تجدر الإشارة إلى أنَّ مفهوم الذكاء الصناعي مرتبطٌ بذكاء الأجهزة الرقمية أو الإلكترونية، مثل الكمبيوتر والأجهزة الخلوية والروبوتات، وينطبق مصطلح الذكاء الصناعي على الأنظمة التي تتمتع بالعمليات الفكرية للإنسان، مثل القدرة على التفكير، واكتشاف المعنى والتعلم من التجارب السابقة، ويعمل في البيئة الرقمية من خلال توافر الأجهزة الرقمية والبرامج المتخصصة لتحليل وتصميم الخوارزميات، والتعلّم الآلي.
يستوعب نظام الذكاء الصناعي على العموم قدراً كبيراً من البيانات التدريبية، التي تُستعمل في تكوين الارتباطات والأنماط، التي تدخل فيما بعد في بناء التنبّؤات المستقبلية، مثل الرد الآلي في الروبوتات الذكية، وتحديد الكائنات في الصور ووصفها، من خلال مراجعة ملايين الأمثلة المحفوظة لدى الجهاز الذكي.
تطبيقات الذكاء الصناعي
يُستخدم الذكاء الصناعي في عددٍ من التطبيقات التكنولوجية والحياتية المهمّة، التي سهّلت كثيراً من مناحي الحياة، وأدّت وظائف مختلفة كانت مقتصرةً على العقل البشري وحده.
من أهم تطبيقات الذكاء الصناعي ما يتّصل بالروبوتات، التي أصبحت مستخدمة في كثير من الصناعات، مثل الرعاية الصحية والتمويل والتسويق، إضافة إلى استكشاف الفضاء الخارجي، من خلال الآلات المرسلة إلى الفضاء والأقمار الصناعية، وبناء الخرائط، وتكنولوجيا تتبُّع المواقع.
ونجد الذكاء الصناعي أيضاً في أعمال خدمة الزبائن، كالروبوتات التي تُستخدم في عمليات الردّ على دردشات الزبائن، والروبوتات التي تقوم بوظائف خدمة العملاء والتسويق الإلكتروني.
كما نجد الذكاء الصناعي في سوق العمولات والتمويل، والمثال على ذلك الخوارزميات التي تستخدم في تحليل الأسهم في السوق المالية، وتحليل الأرباح والخسارات والتنبّؤ بها، وصولاً إلى وسائل الإعلام الرقمية، حيث تعرض الإعلانات التي تهمّ الشخص المستهدف من خلال تحليل بياناته، وفهم توجهاته من عمليات بحثه على الإنترنت.
أما في مجال قطاع الرعاية الصحية، فتتمكّن بفضله آلات الرعاية الصحية من تحليل حال المريض بناءً على بياناته، والتنبؤ بالأمراض التي يمكن أن يُصاب بها مستقبلاً، وتحديد نوع العلاج.
وفي الشركات المُصنِّعة للهواتف الذكية، يساعد الذكاء الصناعي في التعرّف على الوجه لفتح الهاتف وإقفاله، وفي بصمة إنجاز بعض المعاملات من خلال التطبيقات الرقمية على الهواتف.
وهو يساعد أيضاً في الحفاظ على اللياقة البدنية، من خلال تطبيقات مثل الساعات الذكية التي تعد الخطوات، وتطبيقات حساب السعرات الحرارية، وغيرها من التطبيقات التي تهتم باللياقة البدنية.
استخدام الذكاء الصناعي في المحاكم
توجد في المحاكم عدد من التقنيات التي يجري استخدامها بواسطة الذكاء الصناعي، لتسهيل العمل الاعتيادي وتجنّب تضييع الوقت، والوصول إلى النتيجة بشكلٍ أسرع، ومن هذه التطبيقات:
- الإدراك البصري: وهو تقنية (FRT)، أي تعرّف الوجه والرادار واكتشاف الضوء وتحديد المدى. وتفيد هذه التقنية في تحديد القدرة على تلقي وتفسير وتحليل المؤثرات والمحفزات البصرية دماغياً، واتّخاذ القرارات بناءً على النتائج المفسَّرة. إذ يجري من خلال الإدارك البصري التعرّف على الأشكال، وتذكُّرها واستدعاؤها بترتيب نمطي معين، وتمييز التشابه والاختلاف بينها، وتعرّف الأشكال المجزّأة أو المنفصلة أو المموهة أو المكتملة جزيئاً.
أما في المحاكم فيستخدمها القضاة في التوقيع على أنظمة المحاكم، وفي التعرّف على الوجه. وهم يستخدمون أيضاً بعض التطبيقات التي تُجري مسحاً لآلاف الصور على مواقع التواصل الاجتماعي، لتحديد هوية الأفراد غير المعروفين، ما يساعد على التسريع في حل الألغاز وإلقاء القبض على المجرمين. بالإضافة أيضاً إلى أنَّ هذا التطبيق يساهم في إيجاد الأطفال المفقودين أو التائهين، من خلال الكاميرات المنشورة في الأماكن العامة والمزوَّدة بهذه التطبيقات.
- تعرف الحروف الضوئي: يشير تعرّف الحروف الضوئي (OCR) إلى برنامجٍ يقوم بإنشاء نسخة رقمية من مستند مطبوع أو مكتوب بخط اليد، تقرأه أجهزة الكمبيوتر من دون الحاجة إلى كتابة النص أو إدخاله يدوياً. ويُساهم هذا التطبيق في تعليم المكفوفين القراءة، وتستخدم هذه التقنية أيضاً في الهواتف الذكيّة لالتقاط المعلومات من الشبكات الورقية المودعة رقمياً.
أما في المحاكم فيستخدم تعرّف الحروف الضوئي لمسح المستندات الإلكترونية المقدَّمة إليها، أو الواردة لفحصها تلقائياً، ويتحقق النظام من رقم القضية، ويستخرج عنوان المستند ويلتقطه مع المعلومات المطلوبة الأخرى، التي يجري إمرارها تلقائياً بعد ذلك إلى نظام إدارة القضايا في المحكمة.
- معالجة اللغة الطبيعية: معالجة اللغات الطبيعية حقل فرعي من حقول الذكاء الصناعي، وهي تساعد الآلات على معالجة وفهم اللغة البشرية، حتى تتمكّن من أداء المهام المتكرّرة تلقائياً، وتشمل الأمثلة: الترجمة الآلية، والتلخيص، وتصنيف التذاكر، والتدقيق الإملائي.
من الأسباب الرئيسة التي تجعل معالجة اللغة الطبيعية أمراً بالغ الأهمية للشركات إمكانية استخدامها لتحليل كمياتٍ كبيرةٍ من البيانات النصية، مثل تعليقات وسائل التواصل الاجتماعي، وتذاكر دعم العملاء، والمراجعات عبر الإنترنت، والتقارير الإخبارية، وغيرها.
ويمكن أن تصبح روبوتات الدردشة النصية أدوات فعالة على نحو خاص للمحاكم، يستخدمها المساعدون الرقميون في واجهة المحادثات لاستخراج المعنى من الكلام البشري، وتصحيح الأخطاء الإملائية في كتابة الدعاوى، وترجمة النصوص القانونية، والإجابة عن الأسئلة المتكررة، وتحليل الأسئلة المعقدة، ومنها "google assistant" و"siri" و"alexa".
- الذكاء الصناعي الرمزي: الرموز هي أشياء نستخدمها لتمثيل أشياء أخرى. تؤدي الرموز دوراً حيوياً في عملية التفكير والاستدلال البشري. ونستخدم الرموز طوال الوقت لتعريف الأشياء (القط، السيارة، الطائرة...) والأشخاص (المعلم، الشرطة، مندوب المبيعات...). وتستخدم المحاكم الذكاء الصناعي الرمزي في الاستبيانات الموجهة لإنشاء المستندات، ومحركات سير العمل لأتمتة إدارة الحالات والاحتياجات القانونيّة.
- الذكاء الصناعي الاستنتاجي: تستخدم المحاكم هذه النوع من الذكاء الصناعي في فرز القضايا آلياً، وتقديم اقتراحات الوساطة لتسوية المنازعات عبر الإنترنت، وجمع البيانات اللازمة لحلِّ أيِّ نزاعٍ مهما كان معقداً بوسائل حديثة ومبتكرة.
تحوّل كثير مما كان يعدّ خيالاً علمياً إلى علم حقيقي، وفي مقدمته الذكاء الصناعي. ففي العقد الأخير، تطوّر هذا الذكاء على نحوٍ كبيرٍ بفضل تقنية تسمّى "التعلّم العميق" (Deep Learning)، وهي تقنية تعطي الذكاء الصناعي القدرة على الاستنباط والتفكير بصورةٍ مستقلةٍ، وتعليم نفسه بنفسه، وتحرِّرُه من أكبال "الذكاء الصناعي الضيق"، الذي يعني مجرد برمجة آلةٍ تؤدّي وظيفةً معينةً من دون تفكير.