"التوازن الهش".. عن إستراتيجية بايدن لمواجهة الصين
دراسة تتناول بالمعالجة إستراتيجية الرئيس الأميركي جو بايدن تجاه الصين، وموقف الصين من النفوذ الأميركي في آسيا والمحيط الهادئ.
صدر العدد 30 من سلسلة دراسات وتقارير وهي بعنوان: "التوازن الهشّ في عقد حاسم: قراءة في إستراتيجية إدارة بايدن لمواجهة الصين"، وقد أعد الدراسة حسام مطر.
تعتمد الدراسة على رؤية وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، التي أعلنها في 26 أيار/مايو 2022، في كلمة له في جامعة جورج واشنطن تحت عنوان "مقاربة الإدارة الأميركية تجاه جمهورية الصين الشعبية"، والتي تشرح إستراتيجية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لمواجهة الصين.
تهدف الدراسة، كما يقول مؤلفها، إلى تفكيك الإستراتيجية وقراءتها نقدياً، وذلك بالاستفادة من جملة واسعة من التعليقات الأميركية والصينية عليها، وكذلك بالرجوع إلى السياق التاريخي لعلاقات البلدين والواقع الحالي للنظام الدولي.
توضح الدراسة أنّ الخطاب الأميركي يسعى للرمي بعبء التصعيد على الجانب الصيني، باتهامه أنّه زاد عدائيته في الخارج والقمع في الداخل. ويجري الاستشهاد بخطاب للرئيس الصيني شي جين بينغ، عام 2021 في الذكرى المئوية للحزب الشيوعي الصيني، حين شدّد على "الحتمية التاريخية" لصعود الصين، وحذّر من أن أولئك الذين يتصورون أنّ بإمكانهم الاستمرار في التنمّر أو القهر أو إخضاع الصين "سوف تصطدم رؤوسهم بجدار كبير من الفولاذ من قِبل أكثر من 1.4 مليار نسمة".
تعتبر الدراسة أنّ خطاب بلينكن في جامعة جورج واشنطن أشمل تصريح عن إستراتيجية بايدن غير المعلنة تجاه الصين، التي جرت صياغتها في خريف 2021 وتأجّل إعلانها بسبب الوباء ثم الحرب الروسية الأوكرانية وربما لعدم اكتمال الإجماع بشأنها داخل الإدارة. والخطاب، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، هو نسخة عامة وأقصر من إستراتيجية إدارة بايدن المصنّفة حول الصين.
يعتبر بلينكن أنّ الصين هي "أخطر تحدٍ طويل الأمد يواجه النظام الدولي"، مقارناً إياها بالتحدي الروسي، فهي تتحدى القيم المزعومة للنظام الدولي من خلال بيع تكنولوجيا المراقبة الجماعية إلى أكثر من 80 دولة، وتقوّض السلام والأمن وحرية الملاحة والتجارة في بحر الصين الجنوبي، وتتحايل على قواعد التجارة أو خرقها، وتلحق الضرر بالعمال والشركات في الولايات المتحدة ومختلف أنحاء العالم، وتدعم انتهاكات حكومات أخرى للسيادة والسلامة الإقليمية في دول ثالثة.
تضمن خطاب بلينكن الإشارة إلى عدة قضايا صينية داخلية، وذلك بهدف وضع الصين في موقف دفاعي وتحفيز التوترات الداخلية على المدى البعيد، وأيضاً لتكريس الطابع الإيديولوجي للتنافس مع الصين (ديمقراطية في مقابل استبداد)، وضرب صورة التجربة الصينية. في هذا السياق، يتحدث بلينكن عما يسمّيه "الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية بوجه المسلمين في منطقة تشينجيانغ والقمع في التبت وهونغ كونغ بحجج الأمن القومي". ويرفض بلينكن اعتبار ذلك تدخلًا في الشؤون الداخلية للصين، كونها تمثّل انتهاكاً لمواثيق دولية، وذلك ليس وقوفاً ضد الصين بل "للدفاع عن السلام والأمن والكرامة الإنسانية".
دراسة لمؤسسة "راند" توصلّت عام 2021 إلى خلاصة مشابهة تقريباً لكلام بلينكن، إذ جادلت أن "استراتيجية الصين العظمى" منذ نهاية الحرب الباردة كانت موجّهة بهدف واحد طويل المدى هو بناء حضور آسيوي بارز وحضور عالمي متزايد في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والدبلوماسية والدفاعية. لتحقيق هذا الهدف، ترغب الصين حالياً في تحقيق ثلاث نتائج: تحقيق تكامل اقتصادي أكبر مع آسيا وبقية العالم، إدارة تنافسها مع الولايات المتحدة، وبناء قوة ناعمة عالمياً.
وتبيّن دراسة مطر أنّ بلينكن تعرض لنقدين من بول هيير، وهو ضابط استخباري أميركي سابق لشرق آسيا بين عامي 2007 و2015، حول مجال النفوذ والقوة الرائدة، وذلك بالعودة إلى خطابات القيادة الصينية، فقد أعلن الرئيس الصيني شي في خطاب له عام 2013 أن الصين تحتاج لأن تركّز على "بناء اشتراكية تكون متفوّقة على الرأسمالية وتضع الأسس لمستقبل نربح فيه المبادرة ونحصل على موقع المسيطر".
لكن بمراجعة لغوية دقيقة وترجمة سياقية، بحسب الباحث في هارفرد أليستر جوهانستون، يتبيّن أنّ الحديث عن تفوّق الاشتراكية وسيطرتها كان يقصد فيه داخل الصين وليس خارجها. وهناك خطاب ثان لـلرئيس شي عام 2017، قال فيه إنّ الصين تتحرك أقرب إلى المركز وإنّ من أهداف بكين حتى 2049 أن تصبح "قائداً عالمياً على مستوى القوة الوطنية والتأثير العالمي". لكن الصياغة هنا لا تقول "القائد العالمي" بل "قائداً"، أي إنها رؤية تعددية وليس أحادية، وهو دأب الخطاب الصيني، إذ إنّ بكين تدرك أنّ الهيمنة الأحادية ليست أمراً مستداماً ومكلفة ومزعزعة للاستقرار.
لذلك تركّز الصين، بحسب هيير، على شرعنة نموذجها وزيادة تأثيرها ونفوذها ودورها العالمي بشكل نسبي مع الولايات المتحدة، ولا تحاول فرض نموذجها وتقليد أميركا في محاولة إقامة عالم متمحور حول الصين. الصين تريد قيادة تشاركية للنظام الدولي، وإذا ما أصرّت أميركا على رفض ذلك فستزيد بكين من مساعيها لقيادة عالمية حصرية، فقيادة النظام الدولي بالنسبة إلى بكين لن تكون هدفاً إلاّ بحال توصلت إلى نتيجة أنّ الخيار الوحيد البديل هو الاستسلام للهيمنة الأميركية.
وفيما يخص مجال النفوذ الآسيوي، يشير هيير إلى أنّ عدداً من المعلّقين فسر كلام شي، خلال مؤتمر العام 2014، بقوله "إن من حق شعوب آسيا أن تدير شؤون آسيا" كإعلان لنوايا بكين لإقصاء التأثير الأميركي والدول الأخرى. لكن في ذلك الخطاب أضاف شي مباشرة أنّ "آسيا منفتحة على العالم" و"نحن نرحب بكل الأطراف لأداء دور إيجابي وبنّاء في تعزيز الأمن والتعاون الآسيوي". وأكثر من ذلك ما قاله شي بعد شهرين لبعثة أميركية من أنّ "المحيط الهادئ الشاسع لديه مساحة وافية لاستيعاب أمتينا العظيمتين".
هل تتوفر الشروط لقيادة الصين؟
يقول حسام مطر مؤلف الدراسة: "يوجد رأي أميركي مقابل يرى أنّ المسؤولين الأميركيين يبالغون في تقدير القوة الصينية. يجادل هؤلاء أنّ الصين تعاني من جملة متاعب اقتصادية حقيقية (مثل القدرة على الاستمرار بذات نسب النمو، شيخوخة السكان، معدل ولادات منخفض يعادل 1.63، تراجع نموّ الإنتاجية، التباين الاجتماعي الداخلي، نصيب الفرد من الدخل القومي، الفساد)، وكذلك لا تزال الصين خلف أميركا تكنولوجياً وعسكرياً بشكل كبير، فيما نظامها السياسي غير مرن بسبب طبيعته المغلقة، وأخيراً على مستوى القوة الناعمة لا تزال الصين بعيدة جداً عن أميركا. لا يقلل أصحاب هذا الرأي من جدّية التحدّي الصيني، ولكنهم يرون أنّ أميركا لا تزال تحافظ على أفضلية واضحة وعليها أن لا تتعامل مع الصين بهلع أو عدائية مفرطة.
وتشير الدراسة إلى "مبادرة الحزام والطريق" في البنى التحتية والتكنولوجيا والتبادل التجاري التي تسعى لجعل الصين القلب الجديد للعالم، لتكون مركزاً رئيسياً لعدد هائل من الشبكات. وقد دعا الرئيس الصيني الجهاز الدبلوماسي الصيني إلى تطوير "حلقة أصدقاء" في آسيا والعالم، لتصبح بلاده في مركز التفاعلات مع أوسع شبكة ممكنة من البلدان الشريكة.
وتبيّن الدراسة أن الصين، بدورها، قرّرت أن تواجه العدائية الأميركية المتزايدة بإظهار القوة وليس بالتراجع، فخلال قمة ألاسكا (2021) بين وفدين رفعي المستوى من البلدين، قال كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيتشي للمسؤولين الأميركيين إنّهم "لا يملكون المؤهّلات للتحدّث إلى الصين من موقع القوة"، وقد رأت وسائل الإعلام الدولية في تصريح يانغ "انعكاساً لصين ما بعد الوباء: طَموحة وصريحة في مطالبتها بالقيادة العالمية".
وسبق وذكرت مجلة "فورين اَفيرز" الأميركية أنّ نجاح تجربة الصين مع فيروس كورونا يجعلها بديلاً عالمياً من أميركا، وشبهت تلك اللحظة بما حدث من تغيرات عام 1956، بعد هزيمة بريطانيا وفرنسا في العدوان على مصر، وولادة قوتين عظميين هما أميركا والاتحاد السوفياتي كبديلين عنهما.
يحاجج الصينيون بأنّ أميركا مسؤولة عن التوتّر في العلاقات نتيجة خوفها من التحوّل في بنية النظام الدولي واتجاهه نحو شكل من التعدّدية في ضوء صعود بلادهم، مقابل الأزمات في أميركا والغرب عموماً، فالصين هي دولة صاعدة في مقابل أميركا التي تريد حماية الأمر الواقع. ولذلك، قررت واشنطن المسارعة إلى احتواء الصعود الصيني قبل اكتماله، وهذا ما يُصطلح على تسميته في الأكاديميا بـ"فخ ثيوسيديدس".
التصادم بين بكين وواشنطن
في المقابل، ثمة رواية أميركية يعبّر عنها إيفان ميديريوس، الذي عمل في الملف الآسيوي داخل مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس باراك أوباما، مُفادها أنّ التفسير الصيني وربطه بـ"فخ ثيوسيديدس" غير صحيح، لكن يستخدمه الصينيون لأنه يمنحهم شعوراً بالقوة، ويلقي بعبء مسؤولية التصعيد على الولايات المتحدة ويُظهرها دولة لا تشعر بالأمان، في حين أنّ المشكلة هي الأفعال الصينية وليس مجرّد نمّو القدرات الصينية.
إنّ الحرب بين الصين وأميركا غير مستبعدة إذا ما أردنا ربطها بـ"فخ ثيوسيديدس"، الذي صاغه عالم السياسة الأميركي غراهام تي أليسون في مقال له نُشر سنة 2012 في صحيفة "فاينانشال تايمز"، إذ استند إلى اقتباس من المؤرخ الأثيني القديم ثوسيديدس عن أنّ "صعود أثينا والخوف الذي رسخ في أسبرطة جعل من الحرب أمراً لا مفرّ منه". شرح أليسون المصطلح بتوسّع في كتابه الصادر عام 2017 بعنوان Destined for War، حيث يجادل بأنّ الصين والولايات المتحدة في مسار تصادمي حالياً.
يقول مطر: "لن تكون أزمة كوبية جديدة أمراً مستبعداً في آسيا هذه المرّة. هناك مزيج خطير من الكبرياء الأميركي المخدوش بعد 500 عام من صعود الغرب، ومن الحنين الآسيوي للعودة العالمية نحو واقع أكثر عدالة واستقلالية وتنوع".
لكن يبقى المصدر الرئيسي للأزمة هو قرار شبه إجماعي في الولايات المتحدة بأنّ وقت التصدّي بحزم للصين حان، خلال العقد الحالي الحاسم، وإلا فإنّها تكون قد تجاوزت خط اللاعودة نحو القيادة العالمية.
تخلص دراسة مطر إلى أنّ العلاقات الصينية الأميركية تتجه إلى سباق طويل على حافة الهاوية. ستكون مسألتا تايوان والإبحار في بحر الصين الجنوبي الأكثر خطورة في احتمال حصول احتكاك عسكري يهدد بدفع المواجهة نحو مستوى جديد. يشتكي الأميركيون في الأشهر الأخيرة من زيادة كبيرة في حركة الاعتراض البحري والجوي الصينية تجاه التحركات التايوانية والأميركية والأسترالية واليابانية.
وبالتوازي، يشتكي الصينيون من تكثيف واشنطن لأنشطتها العسكرية الإستفزازية في المنطقة. وخلال شهر تموز/يوليو 2022، أمر رئيس هيئة الأركان الأميركية بإجراء مراجعة شاملة للتفاعلات العسكرية الأميركية مع القوات الصينية للسنوات الخمس الماضية، لفهم كيف تُطوّر الصين نمط سلوكها العسكري بما ينطوي على خطوات غير آمنة أو غير محترفة قد تؤدي إلى تصادم مع القوات الأميركية.