الاقتصاد الصهيونيّ الغاصب والاقتصاد الفلسطينيّ الأسير
إسرائيل دولة ريعية تعتمد على المساعدات الغربية وما يتم ترويجه عن التفوق اليهودي والمعجزة الاقتصادية الصهيونية هو زائف كلياً وأقرب إلى السخرية.
أدّى الاقتصاد دوراً بالغ الأهمية في مؤامرة اغتصاب فلسطين، وتكوين أسس الكيان الصهيوني، سواء قبل حرب عام 1948 أو بعدها. تم ذلك نتيجة تلاقي المصالح الغربية والصهيونية العنصرية وتراخي بعض البلدان العربية.
أي حل لهذه القضية سيتطلب نضالاً جبّاراً بكلّ الوسائل بلا استثناء في الصراع الوجودي؛ من أجل استيلاد الحق من أضلع المستحيل. هذا ما أكده الباحث الاقتصاديّ أحمد السيّد النجّار في كتابه "الاقتصاد الصهيونيّ الغاصب والاقتصاد الفلسطينيّ الأسير" الصادر عن "مركز دراسات الوحدة العربية -بيروت-ط1 2023".
يقدم هذا الكتاب قاعدة بيانات شاملة، وتحليلاً علمياً لتطوّر الاقتصادين الفلسطينيّ والصهيونيّ حتّى عام 2022. ويرصد التدفّق اللامحدود من المساعدات المالية والعينية التي تلقاها الكيان الصهيوني من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، قبل أن ينتقل إلى مرحلة جديدة بعد تأسيسه عام 1948، والتي استولى الكيان خلالها على كميات هائلة من الأصول الفلسطينية الخاصة والعامة بعد طرد أصحاب الأرض وتشريدهم. وتأتي أهمية الكتاب في وقت يتعرّض فيه الاقتصاد الفلسطيني لهجمة صهيونية شرسة بعد "طوفان الأقصى".
إقرأ ايضاً: الاقتصاد الإسرائيلي وبعض نقاط قوته وضعفه
لنسلّط الضَّوء على أهم ما تطرَّق إليه النجار في كتابه "أكذوبة بيع الفلسطينيين لأرضهم":
هنا يتحدَّث عن حَقيقة تمَّ إِخفاؤها وهي أنَّه "في ذكرى النّكبة، فِلسطيننا اغتُصبت ولم تُبع"، فمنذ اتفاقية "كامب ديفيد" الأولى بين الحكومة المصرية ونظيرتها الصهيونية، بدأ الحديث الدعائي وترديد الأكاذيب بالتصريح والإيحاء عن أن الفلسطينيين هم الذين باعوا أرضهم لليهود الصهاينة، وهم من شجع عودة اليهود من الكيان الصهيوني، على أساس أنهم مواطنون تم ترحيلهم من بلدهم وسلبهم ممتلكاتهم.
لكشف زيف هذه الادعاءات وتوضيح ما حدث في فلسطين المحتلة، وهل أُقيم هذا الكيان على أراضٍ اشتراها، أم على أراضٍ اغتصبها، يُعيدنا الكاتب إلى نقطة البداية عندما كانت البلدان العربيّة خاضعة لنير الاحتلال العثمانيّ، فإنّ الأوروبيّين والأتراك أصبح لهم الحقّ في تملّك الأراضي الزراعيّة وغير الزراعيّة في البلدان العربيّة التي تحتلّها تركيا العثمانيّة، وفقاً لفرمان عام 1876.
كما يعلم الجميع، إن أي بلد خاضع لاحتلال أجنبي، ولا يوجد فيه قانون يمنع بيع الأراضي للأجانب، يمكن أن يتعرض لاستنزاف أرضه إذا عرض الأجانب أسعاراً عالية بدرجة مبالغ فيها، تتجاوز أي عائد يمكن أن تدرّه الأرض لعشرات السنين. وفي هذه الحالة، يكون الهدف من عملية الشراء هو الوجود والسيطرة، لكن حتى في هذه الحالة، فإن عمليات بيع الأراضي يكون لها سقف لا تتجاوزه؛ لأنه عندما يتزايد وجود الأجانب، يستشعر سكان البلد أن ملكيتهم لبلدهم مهددة، وبالتالي تتوقف عمليات البيع لأسباب سياسية واجتماعية، وتتحول إلى قضية وطنية.
إقرأ أيضاً: "لوموند": الاقتصاد الإسرائيلي يتضرر من الحرب على غزة
ويؤكد الكاتب: "أيّاً كان الأمر، فإن شراء الكيان أيّ أراضٍ حتّى في مساحات محدودة، لا يُعطيه أيّة شرعيّة في اغتصاب الوطن الفلسطينيّ لتنفيذ مشروعه الاستيطاني الاستعماري في فلسطين، والذي يعد الأكثر إجراماً بين كل أنماط الاستعمار".
يشير الكاتب إلى بداية عملية بناء الاقتصاد الصهيوني التي بوشرت مع بدء الهجرة الصهيونية لفلسطين خلال الحقبة 1904 – 1914 عندما هاجر نحو 40 ألف يهوديٍّ إلى فلسطين، واستقرّ بعضهم في المدن الفلسطينيّة، فيما استقرّ ربعهم في 47 مستعمرة أُقيمت على مساحة 420 ألف دونم. وقد موّل شراء معظمها البارون اليهوديّ أدموند دي روتشيلد.
كما يبيّن أن تلك المساحة مثّلت نواة الاقتصاد الزراعيّ الصهيونيّ في فلسطين. وقد توسّع ذلك الاقتصاد بصورة سريعة مع قدوم موجات جديدة من المهاجرين، في ظلّ الانتداب البريطانيّ ومنح سلطات الانتداب مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينيّة العامّة للصهاينة.
أيضاً، توسّعت الملكيّات الزراعيّة الصهيونيّة مع عمليّات شراء اليهود الصهاينة للأراضي الزراعيّة من المالكين العرب غير الفلسطينيّين بصورة أساسيّة، ومن المالكين الفلسطينيّين غير المقيمين بإغراءات المال أو تحت التهديد أو بسبب المذابح الصهيونيّة ضدّ الفلسطينيّين العرب، والّتي روّعت بعضهم، ودفعتهم إلى بيع أراضيهم للنجاة بأنفسهم وأسرهم.
إقرأ أيضاً: "طوفان الأقصى" يترك ندوباً كبيرة في الاقتصاد الإسرائيلي
وبشكل أكثر تفصيلاً، يقول الكاتب: "على الرغم من تواصل عمليّات الشراء الصهيونيّة للأراضي الزراعيّة في فلسطين بقوّة، فإنّ ملكيّات اليهود من الأراضي الزراعيّة الفلسطينيّة لم تتجاوز 1.6 مليون دونم (نحو 380 ألف فدّان)".
عند إعلان إنشاء الكيان الصهيونيّ دولة في عام 1948، وهي مساحة كانت توازي نحو 11.4% فقط من إجمال مساحة الأراضي الزراعيّة في فلسطين، البالغة 14.1 مليون دونم من أصل مساحة الدولة كلّها البالغة 26.2 مليون دونم، ورغم كلّ مبيعات الأراضي الزراعيّة الفلسطينيّة من كلّ المصادر، الّتي مكّنت الصهاينة من تأسيس القاعدة الأولى لاقتصادهم الزراعيّ، فإنّ النقلة الكبرى لذلك الاقتصاد الزراعيّ تمّت بالعدوان والاغتصاب عند إعلان الدولة وما عقبه من نشوب حرب عام 1948 حين تمكّن الكيان الصهيونيّ من السيطرة على 6.6 مليون دونم جديدة من الأراضي الزراعيّة الفلسطينيّة.
هذا يعني أنّ الصهاينة لم يشتروا فلسطين، بل اغتصبوها في حرب عام 1948، وما سبقها من اعتداءات على الفلسطينيّين ومن ارتكاب المذابح المروعة ضدّهم. هذه الحقائق قاطعة وكافية لنسف الأكذوبة الّتي يروّجها الصهاينة، ويردّدها بعض "العرب" عن جهل أو عن سوء قصد.
واختار الكاتب التركيز على المساعدات الكبيرة التي تلقاها الكيان من الأنظمة الغربية، بالتحديد الولايات المتحدة والجباية اليهودية وألمانيا ودورها في تطوره ومنحه شروط الاستمرار والمبررات العسكرية والاقتصادية والديمغرافية، التي فرضت حاجة الكيان الصهيوني لهذه المساعدات الأجنبية قبل حرب 1948 وبعدها، لكي يلفت نظر القارئ إلى أن الغرب هو الذي صنع الكيان الصّهيونيّ بالمساعدات، فلماذا لا يدعم العرب فلسطين؟!
إقرأ أيضاً: تقرير: فاتورة "إسرائيل" من حرب غزة قد تصل إلى 48 مليار دولار
قدم الكاتب تفصيلاً مالياً وافياً ودقيقاً، وبتسلسل زمني، عن مجمل المساعدات الغربية التي تم منحها بسخاء للكيان في كل مراحله، بدءاً من تأسيسه حتى اليوم، موضحاً أن الولايات المتحدة تمثل أكبر مانح ومقرض له وبصورة مستمرة حتى الآن، فهو ما زال يتلقى منحاً عسكرية تبلغ 3.8 مليارات دولار سنوياً، فضلاً عن التحويلات الضخمة التي لا تُرد من مختلف المصادر، والتي تصل إلى 9 مليارات دولار سنوياً.
بلغ إجمال الدعم الذي تلقاه الكيان من مختلف المصادر نحو 274 مليار دولار منذ تأسيسه عام 1948 وحتى عام 2022، منها نحو 158.6 مليار دولار مساعدات أميركية معلنة، منها 134.4 مليار دولار منحاً عسكرية واقتصادية، ونحو 2,1 مليار دولار قروضاً اقتصادية، ونحو 11,4 مليار دولار قروضاً عسكرية، ونحو 10,7 مليار دولار منحاً وضمانات وقروضاً لاستيعاب موجة الهجرة الهائلة من يهود الاتحاد السوفياتي السابق وبلدان شرق أوروبا في تسعينيات القرن الماضي.
يُشير ذلك إلى مكانة الكيان الخاصة جداً لدى الولايات المتحدة. تلك المكانة تجد مبررها في أن الكيان الصهيوني تأسّس كحلّ للمشكلة اليهودية في الغرب، وكمؤسسة عسكرية في خدمة الاستعمار وحماية المصالح الغربية والأميركية بالذات في المنطقة العربية، ومواجهة حركات التحرر وطموحات الدول العربية للاستقلال الوطني.
جسَد الكيان الصهيونيّ ذلك الدور في اعتدائه على مصر عام 1956، ثم اعتدائه على مصر وسوريا والأردن عام 1967 وعلى المفاعل النووي العراقي عام 1981، ثم اعتداءاته المتكررة على سوريا ولبنان حتى الآن.
يوضح الكاتب أن قيمة المساعدات الأجنبية تم احتسابها من خلال جمع المعونات بالأسعار الجارية في الأوقات التي تلقاها فيها ذلك الكيان. أما لو تمّ احتسابها بدولارات الوقت الراهن، فإنّ قيمتها لن تقل عن 1100 مليار دولار وفقاً لأدنى التقديرات لسعر الفائدة ومعدل التضخم. ولو حصلت فلسطين أو مصر أو لبنان أو سوريا أو أي دولة أخرى على مساعدات كتلك التي يتلقاها الكيان لأصبحت دولة صناعية متقدّمة شديدة الثراء.
ويمكن القول إجمالاً: "إن اقتصاد الكيان هو اقتصاد صُنعت قواعده وتم إمداده بأسباب الحياة والتطور من خلال المساعدات الخارجية، وهو بالأحرى كيان "تسليم مفتاح" جاء نتيجة التقاء حاجاته مع رغبات ومصالح صانعيه ومموّليه". أما ما يتم ترويجه عن التفوق اليهودي والمعجزة الاقتصادية الصهيونية، فهو زائف كلياً وأقرب إلى السخرية.
انتقل النجار إلى الحديث عن الاستراتيجية الاقتصادية الصهيونية وطموحات الهيمنة المتمثلة في نهش الجغرافيا الفلسطينية، وإنكار وجود الشعب الفلسطيني، ورفع رصيد الهجرة الصهيونية الداخلة لفلسطين المحتلة، والحق المطلق في إقامة المستعمرات الصهيونية التي تعد دليلاً دامغاً على النَّظرة الاستعماريّة، بما يقود في النهاية إلى إبقاء الوضع الراهن للظلم والقهر والاستعباد تحت السيطرة الصهيونية على ما هو عليه.
يرى الكاتب أن الاقتصاد الصهيوني أقل من أن يلبي حاجة الكيان لتمويل تطوُّر قوّته العسكرية، والحفاظ على تفوّقه على جيوش دول المواجهة العربية المتاخمة لفلسطين، على الرغم من كل الجهود الصهيونية والمساعدات الخارجية التي تلقاها قبل حرب 1948، وأضعف من أن يموّل النفقات الضخمة لاستيعاب المهاجرين الجدد الذين يُعد تدفقهم ضرورة ديمغرافية وعسكرية قصوى للكيان في الحقبة التي تلت حرب 1948 مباشرة.
نتيجة لذلك، سعى إلى إحداث تغيرات اقتصادية هائلة وسريعة بالاعتماد على خط الحياة الأميركي والصهيوني والأوروبي، للعمل بشكل دائم ومنتظم على شلّ الاقتصاد الفلسطيني وتخريبه بكلّ السبل.
كانت سياسة الاحتلال الاقتصادية حمائية، وأقرب إلى نموذج التخطيط الأميركي، وتجسدت في تدمير الصناعة الفلسطينية وتقويض فرص تطورها من خلال تحكّمه في منح أو منع الموافقة على المشروعات الصناعية الفلسطينية، فضلاً عن فرضه رسوماً مضاعفة عليها.
لم تكن المياه والزراعة بمرتبة أفضل، فالكيان الصهيوني منذ احتلاله الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس عام 1967 قام بعملية سطو على موارد المياه في الضفة الغربية التي تحوي 60% من مصادر المياه الداخلية في فلسطين من البحر إلى النهر، وكانت النتيجة أن الضفة التي تعد خزّان المياه الرئيسي في فلسطين كلها لم تعد تزرع سوى 4 % من أراضيها الزراعية التي تعتمد على الري، في حين تتّكل في المساحة الباقية على المطر، فيما يزرع الكيان الأراضي الخاضعة لسيطرته بالاعتماد على المياه التي سرقها من الضفة ونهر الأردن والجولان، علماً أن كمية المياه العربية التي يسطو عليها الكيان من الضفة الغربية، ومعها نهر الأردن والجولان وجنوب لبنان، بلغت على الترتيب نحو 700، 200، 400 مليون م3 على أقل تقدير.
هذا الوضع أصبح واسع النطاق في عام 1967، ولم يتغير حتى بعد حرب أكتوبر 1973، وزاد الأمر تعقيداً منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي منذ اجتياح لبنان عام 1982 وبدء السطو اللصوصيّ على مياه نهر الليطاني.
في هذا السياق، يطرح الكاتب بعض الحلول الممكنة لدعم الاقتصاد الفلسطيني في الظروف الراهنة، من خلال تأسيس وتمويل الصندوق العربي لإنماء ودعم فلسطين، وإنهاء التبعية الاقتصادية الفلسطينية لاقتصاد الكيان وتأسيس روابط متكافئة مع الاقتصادات العربية، لأن من المستحيل على الاقتصاد الفلسطيني الخاضع للاحتلال على مدار قرن كامل أن يعتمد على موارده المحلية في بناء الأساس الاقتصادي للقوة الشاملة في فلسطين.
يختتم الكتاب بأن الاقتصاد الفلسطيني المحاصر تحت الوصاية الصهيونية لم يتلقَّ من البلدان العربية أي دعم فعال عقب حرب 1948، ولم تتخذ أي إجراءات عربية لبناء وتمويل اقتصاد فلسطيني قادر على الصمود ومواجهة العدوان، بل انصبّ الجهد الاقتصادي العربي على تعزيز إجراءات المقاطعة الاقتصادية لليهود بصورة أساسية، والتي لم تكن فعالة في ذلك الحين؛ لأن فلسطين كانت بحاجة للدعم العسكري والسياسي والمالي، عدا عن أن الكيان الصهيوني عوّض إغلاق الأسواق العربية أمامه بربط اقتصاده بالغرب.
ويقول النجار: "لو أرادت الدول العربية تقديم دعم حقيقي، فعليها أن تؤسس صندوق إنماء ودعم فلسطين، ومن دون أي شروط سياسية، لبناء اقتصاد فلسطيني فعال يشكّل قاعدة راسخة لقوة فلسطين الشاملة في صراعها الوجودي مع الكيان الصهيوني".