الاقتران المرن بين حزب البعث العراقي والدين
لم يكن صدام حسين أول دكتاتور استغل الدين، فقد فعلَ هذا حكَّام من كلِّ المشارب طوال قرون متعدِّدة.
(كان ينظر إلى حياة الرسول من الخارج كصورة رائعة وُجِدت لنُعجَب بها، ونُقدّسها، فعلينا أن نبدأ بالنظر إليها من الداخل؛ لنحياها. كلّ عربيّ في الوقت الحاضر يستطيع أن يحيا حياة الرسول العربيّ، ولو بنسبة الحصاة إلى الجبل، والقطرة إلى البحر، طبيعي أن يعجز أيّ رجل مهما بلغت عظمته أن يعمل ما عمل محمد)، كاتب هذه الكلمات ليس كاتباً، أو داعية إسلاميّة، بل كتبها ميشيل عفلق (المسيحي) منظر حزب البعث.
بعيداً عن التفسيرات الجاهزة تبقى عمليّة الكشف عن العلاقات السِرِّيَّة التي تربط بين كيانين، أو اتجاهين مختلفين من حيث البنى الاجتماعيّة، والتنظيميّة، والفكريّة تعيش التباين، وتكون صعبة جدّاً، ورُبَّما مُستحيلة في سياق البحث العلميِّ، خُصُوصاً إذا كانت اتجاهات ترى أنَّ عمليَّة الاقتران شبه مُستحِيلة من حيث طبيعة الاتجاهات، والاختلافات، والمُيُول الفكريَّة، والعقديَّة، كالحالة بين الدين والديكتاتورية، أو بين فكر البعث القومي والفكر الإسلامي.
وفي هذا الموضوع المهم يقدم لنا الباحث صموئيل هيلفونت الباحث من جامعة أكسفورد كتابه (الإكراه في الدين: صدام حسين والإسلام وجذور التمردات في العراق) الذي صدر مؤخراً بالعربية عن دار عدنان للنشر والطباعة وبترجمة الدكتورة نور محمد الحبشي من جامعة الكويت، ومراجعة الدكتور نهار محمد نوري.
أهمية الكتاب تعود إلى اطلاع المؤلف على الأرشيف البعثي الذي استولى عليه الجيش الأميركي، فالمؤلف شارك في غزو العراق عام 2003 في البحرية الأميركية وكان أحد أهم دوافعه لكتابة هذا الموضوع كما يقول في مقدمته التي خصصها لطبعة الكتاب باللغة العربية (ما سبب وجودنا هناك، كيف سارت الأمور على نحو خاطئ؟). ثم يروي الكتاب كيف تسلل البعثيون الى المشهد الديني، وكيف وحاول البعثيون إخفاء الممارسات الدينية في العراق على مدى ثلاثين عاماً ثم السيطرة على الدين في العراق، وترك هذه السيطرة على المستوى الاجتماعي والديني لما بعد عام 2003.
استطاع نظام صدام حسين خلال حكمه من فرض تفسير حزب البعث للدين، حيث عمل بجد حزب البعث العربي القومي لسيطرة الدين على قطاع واسع من المجتمع العراقي، وكانت للعملية آثار عميقة في تاريخ البعثيين في العراق، وكان التمرد الذي ظهر بعد عام 2003 انعكاساً لتلك الفاعليه والسيطرة والتفسير الديني، رغم وجود العديد من التفسيرات حول النزعة الإسلاموية لنظام صدام بعد حرب الخليج الثانية، بحسب الكتاب. وفي حين اعتقد عددٌ من المراقبين أنَّ صدام تخلَّى عن جذوره القومية العربية لصالح النزعة الإسلاموية، نجد أنَّ الوثائق تكشف عن تزايد استغلال صدّام للإسلام أداةً، وهذا يجب ألَّا ينسب إلى تحوُّل إيديولوجي. وبدلًا من هذا يرى المؤلف أنه ناجمٌ من دمج المشهد الديني العراقي في النظام البعثي الاستبدادي، فضلاً عن سياسة التبعيث، فقد كوّن نظام البعث في أواخر عهده بالرئاسة جمهرةً من القادة الدينيين العراقيين، الذين يمكنهم الحديث عن الإسلام رسمياً والراغبين في ترويج صيغة للدين تمنح الشرعية للحكم البعثي.
يرى هيلفونت أنه لم يكن صدام حسين أول دكتاتور استغل الدين، فقد فعلَ هذا حكَّام من كلِّ المشارب طوال قرون متعدِّدة، وعلى النحو الذي جاء في نصيحة ماكيافيللي لأميره: "من الجيِّد أن تبدو تقيًّا ومخلصًا وإنسانيًّا ومتديِّنًا ونزيهًا وأن تكون كذلك". كما أردف ماكيافيللي: "يجب على أيِّ حاكم عند الضرورة أن يكون قادرًا على التحوُّل عن هذه الصفات إلى ضدِّها"، ثم يقدم كشفًا للطبيعة الثنائية لعلاقة الدين بالدولة الاستبدادية.
خارطة الكتاب:
يناقش الفصل الأوَّل من الكتاب صعود صدَّام إلى السلطة، وآراءه بشأن الإسلام، ومحاولة النظام رسم خريطة للمشهد الديني في البلاد. ويناقش الفصل الثاني استراتيجية النظام في مأسسة المشهد الديني ولا سيما في سياق الحرب العراقية – الإيرانية، فيما يغطي الفصل الثالث الاستراتيجيات التي استخدمها النظام لاختراق المؤسَّسات الدينية الشيعية في العراق. ويشرح الفصل الرابع كيف استطاع النظام قمع المعارضة الإسلامية السنية والشيعية، فيما يناقش الفصل الخامس حدود سياسات النظام في الاستمالة والإكراه.
هذا في حدود القسم الأول، بينما تضمَّن القسم الثاني من الكتاب الفصلين السادس والسابع، الذي يغطِّي أزمة الخليج 1990-1991 وعواقبها، حيث يركز الفصل السادس عن استخدام النظام للدين أداةً خلال النزاع منبعُه البنى الاستبدادية، فيما يركز الفصل السابع على عواقب أزمة الخليج وتشكيل المشهد الديني في العراق، فيما ركز القسم الثالث على حملة صدَّام الإيمانية 1993- 2003، وإعادة تقييم علاقات مجتمع الحكم، فيما يغطي الفصل التاسع علاقات النظام بالشيعة في هذه المرحلة. ويقدم الفصل العاشر نبذة عن سيطرة النظام على مشهد العراق الديني خلال تسعينيات القرن العشرين، بينما يقدم الفصل الحادي عشر تصور عن تفعيل النظام أجهزته الاستبدادية للعمل على استغلال الإسلام.
أما القسم الرابع من الكتاب فيناقش إرث سياسات صدام الدينية عام 2003 وبعده، ويتحدث عن نقطة مهمة تتعلق بمساهمة طبيعة سياسات صدَّام في سوء التصوُّر الأميركي للعلاقة بين الدين والدولة في العراق، وكيف انبثقت عن سوء التصوُّر هذا خطط حربية فاشلة نجمت من تصوُّرات خاطئة مزَّقت كلًّا من نظام العراق الاستبدادي والمؤسَّسات الاجتماعية التي كان من المفترض أن يُبنى عليها عراق جديد، فيما يغطي الفصل الثالث عشر انبثاق التمرُّدات الدينية في عراق ما بعد 2003.
جذور الاقتران
اجتماعيّاً يعتقد الراحل الدكتور فالح عبد الجبار أنَّ البعثيّ اليتيم -شأن أغلبيَّة السكان- واقع بين الحزب والإسلام والقبيلة، بين العروبة والطائفية المتأسلمة والإسلام السلفيّ الجامح الخالي منها، والقبيلة الغارقة في أيديولوجيا النسب، وحمأة التنافس على الزعامة، والموارد في أوضاع الاحتلال حيث نشأت وحدة إزاء الخطر، أنظر: "فالح عبد الجبار، دولة الخلافة التقدّم إلى الماضي: داعش والمجتمع المحليّ في العراق"، (المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، بيروت، 2017).
يقول الصحافيّ عبد الباري عطوان: "لا نُبالِغ إذا ما قلنا إنَّ صدام حسين هو الذي ابتدأ في التمهيد العمليِّ، والعقائديِّ، واللوجستيِّ لتنظيم داعش، سواء جاء ذلك بمحض الصدفة، أم نتيجة خطة مُحكَمة. فعندما أدرك صدام أنَّ الولايات المتحدة الأميركيَّة تريد الإطاحة به وبنظامه من خلال إقامتها منطقة حظر جوّيّ شمال وجنوب العراق قرَّر التحوُّل إلى الله، وتبني الهويّة الإسلاميَّة، والجهاد الإسلاميّ. (عبد الباري عطوان، الدولة الإسلاميّة الجذور. التوحش، المستقبل، دار الساقي، بيروت، 2015، ص13).