الاستشراق الروسي في عالم متعدد الأقطاب
صدرت الوثيقة عن مؤسستين أكاديميتين رائدتين في الدراسات الشرقية، هما معهد الدراسات الشرقية المشار إليه ومعهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية الروسية ضمن مشروع "أولوية 2030".
أبصرت النور قبل أيام في العاصمة الروسية موسكو وثيقة مرجعية في الدراسات الشرقية بعنوان "الاستشراق الروسي: التحديات وآفاق التطوير في الواقع الجديد"، بقلم نائب رئيس معهد الدراسات الشرقية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم الذي يشغل منصب رئيس مركز الدراسات العربية والإسلامية فاسيلي كوزنتسوف.
تأتي هذه الوثيقة على عتبة المؤتمر الثامن عشر للمستعربين "قراءات إيرينا سميليانسكايا"، الذي ينظمه المركز في موسكو بين 27 تشرين الثاني/نوفمبر و22 كانون الأول/ديسمبر، والذي يضم عدداً كبيراً من المحاضرات والندوات والطاولات المستديرة في جميع الموضوعات المتعلقة بالعالم العربي، من السياسة إلى الاقتصاد والاجتماع والآداب واللسانيات. ومن المتوقع أن تحتل هذه الوثيقة حيزاً من النقاش فيه، وأن تتصدر أوراق العمل المطروحة، لكونها تستشرف التحولات في الدراسات الشرقية في واقع جديد.
يلمس الكاتب "مرحلة جديدة في تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب وتعزيز الدول الآسيوية والأفريقية في الساحة الدولية والتحول نحو الشرق الذي أعلنته روسيا في سياق تزايد حاد في التوترات في العلاقات مع الغرب، ما يجبرنا على إثارة مسألة التحسين النوعي في الدعم القائم على الخبرة والتحليل للسياسة الخارجية الروسية في الاتجاه الشرقي، ويتطلب إعادة التفكير في مناهج الدراسات الشرقية الروسية والتحليل الشامل لحالتها الحالية وتحديد الاتجاهات الواعدة لتطورها".
لا يخفى أن مراكز الدراسات الشرقية ومعاهدها في الاتحاد الروسي تؤدي دوراً استشارياً مهماً في صياغة توجهات السياسة الخارجية الروسية، وتأتي مساهمة كوزنتسوف في تطوير مناهج البحوث والدراسات كخبير في هذا الشأن، وفي جعبته عشرات البحوث المنشورة التي خصصها للقضايا العربية، منها "روسيا والشرق الأدنى الكبير"، و"العالم الإسلامي والمنظمات الإسلامية في النظام السياسي العالمي الحديث"، و"مجازات تونس الخفية – أن تعيش الثورة وترويها"، وغيرها.
صدرت الوثيقة عن مؤسستين أكاديميتين رائدتين في الدراسات الشرقية، هما معهد الدراسات الشرقية المشار إليه ومعهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية الروسية ضمن مشروع "أولوية 2030" في 134 صفحة.
يحاول كاتبها تحديد الاتجاهات الرئيسة في عملية تطوير الدراسات الشرقية في روسيا، وهي تنضوي، في رأيه، ضمن ثلاث فئات: "السمات التاريخية والمنهجية الأساسية للمعارف الشرقية، وتفاصيل الوضع الحالي في روسيا في مجال العلوم الشرقية، والتحديات العامة التي تواجهها الدراسات الشرقية كمجال للمعرفة الاجتماعية والإنسانية في المستقبل المنظور".
بطبيعة الحال، إضافة إلى هذه الفئات الثلاث عند تحديد استراتيجية تطوير الدراسات الشرقية، "من الضروري أن تؤخذ في الاعتبار الظروف الخارجية لهذا المجال من المعرفة، وقبل كل شيء، تلك المتعلقة بالوضع السياسي الدولي وديناميات التنمية الاجتماعية والاقتصادية في روسيا".
حظيت الدراسة بعناية علمية رفيعة، إذ راجعها عالمان بارزان هما مدير معهد الدراسات الشرقية ألكبير أليكبيروف ونائبه فالنتين غولوفاتشيف، فيما كان محرراها المسؤولان المدير العلمي للمعهد فيتالين نعومكين وعميد البحث العلمي في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية أندريه بايكوف ومدير المعهد مكسيم سوتشكوف.
قبل الوصول إلى النتائج، أطل الكاتب على خصائص الاستشراق الروسي وما يميزه عن الغربي، إذ "تخلق مسألة تطوير الدراسات الاستشراقية الأجنبية سياقاً معيناً تتطور فيه الدراسات الشرقية الروسية أيضاً، على الرغم من أنها لا تشبه دائماً الدراسات الغربية".
منذ بدايته، اختلف الاستشراق الروسي عن الغربي، فقد عني في الوقت نفسه بدراسة الشرق داخل حدود الإمبراطورية الروسية وخارجها. في القرن العشرين، لم يعد يُنظر إلى الشرقي على أنه "آخر"، على الأقل بالمعنى الحضاري (لكون الأيديولوجية السوفياتية أنكرت النهج الحضاري نفسه). في المقابل، روسيا نفسها مدرجة في التاريخ والثقافة الأوروبية، لكنها تنتمي إلى عدد من "العوالم" الشرقية - الإسلامية والبوذية وغيرها. من الواضح أن تلك العوامل عززت إمكانات الدراسات الشرقية الروسية، وزادت أهمية المعرفة حول الشرق في المجتمع الروسي.
وقد رأى الكاتب أن "كل واحد من هذه العوالم ينتمي إلى المجتمع الروسي والمجتمع الثقافي والحضاري الأوسع في آن معاً". ومن الأمثلة على ذلك الأرستقراطية الروسية مطلع القرن التاسع عشر، وهي طبقة كانت تنظر إلى نفسها على أنها جزء من النخبة الأوروبية، وكان أبرز ممثليها ينتمون إلى الفكر التتاري، إذ كانوا مندمجين بعمق في الفضاء الثقافي الإسلامي الدولي، مفضلين الكتابة إما باللغة التتارية وإما بالعربية.
يضيف الكاتب إلى تلك الخصائص خصوصيات التاريخ الروسي وهيمنة الأيديولوجيا الماركسية اللينينية الرسمية لمدة 70 عاماً، ما أدى إلى تشكل مدارس علمية محددة ضمن الدراسات الشرقية الروسية. ولعل السمة الأهم بالنسبة إلى الشعوب خارج حدود روسيا القيصرية تتمثّل في أن روسيا لم تكن دولة استعمارية، سواء في الشرقين الأدنى والأوسط أو في شرق وجنوب وشرق آسيا وأفريقيا.
وقد أدّى ذلك في الحقبة السوفياتي إلى تشكيل مجالات فريدة من الدراسات الشرقية. وكانت نتيجة هذين العاملين ظهور مدارس علمية لم يكن لها مثيل في الغرب. ومن الأمثلة على ذلك ذكر المؤلف معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية الذي دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية باعتباره المؤسسة الجامعة التي تدرّس بأكبر عدد من اللغات.
يخوض الكاتب في تحليل جملة من العوامل والمحددات، ويدرس الموضوعات التي تعنى بها مدارس الاستشراق المختلفة في روسيا، ويخلص إلى عدد من الاستنتاجات، إذ يُظهر التحليل أن الدراسات الشرقية الروسية ستضطر مع مزيد من التطوير إلى الاستجابة لمجموعة رئيسة من التحديات، إذ يتعلق التحديان الأولان بتطور المعرفة الشرقية في العالم والتحديات الجديدة التي تواجه العلوم الاجتماعية والإنسانية في حد ذاتها.
ومن هذه التحديات التي تواجه المستشرقين:
1. الدفاع عن حقهم في الوجود في مواجهة تعميم التخصصات واستراتيجيات بناء العلاقات.
2. إيجاد طريقة للخروج من الانقسام الأساسي بين المنهج العلمي الوضعي والشروط الثقافية والأيديولوجية للمعرفة الاجتماعية.
3. ضرورة إيجاد حل وسط بين الرغبة في الحفاظ على البنية الكلاسيكية للدراسات الشرقية وإثرائها المنهجي والإشكالي.
4. تعزيز الأسس المنهجية للدراسات الشرقية.
5. البحث عن سبل زيادة الدراسات الشرقية في سياق الرقمنة.
6. استجابة الدراسات الشرقية للتطور السريع في تقنيات الترجمة الآلية.
7. البحث عن طرق جديدة للجمع بين المعرفة الأساسية والتطبيقية.
8. البحث عن نماذج جديدة للاتصال الخارجي مع المراكز العالمية الرئيسة للدراسات الشرقية، وفي المقام الأول في دول آسيا وأفريقيا.
كل هذه التحديات تواجه بالدرجة الأولى مجتمع المستشرقين والباحثين في العلوم الشرقية، وهو وحده القادر على الإجابة عنها.
ومع ذلك، هناك فئة أخرى من التحديات والمهام التي يرجّح الكاتب أن مجتمع المستشرقين نفسه غير قادر على حلها، مع أن هذه التحديات يمكن تذليلها، لكن ذلك لا يتطلب اعتماد تدابير إدارية في مجال إدارة العلوم والتعليم فحسب، بل زيادة تنسيق العمل بين مختلف مراكز الدراسات الشرقية أيضاً، إلا أن العقبة الرئيسة أمام ذلك تتمثل بالبيروقراطية.
وترتبط هذه التحديات والمهام بحالة الدراسات الشرقية في المؤسسات التعليمية الروسية، ومنها: اختفاء مجالات معينة من الدراسات الشرقية، والنقص العام في الموظفين، والحاجة في ظروف التوجه نحو الشرق إلى إعادة إنشاء المدارس في مناطق ومواضيع معينة، وضرورة إعادة بناء العلاقة بين المجتمع العلمي للمستشرقين والمتلقين المحتملين لنتائج الأنشطة البحثية (الهيئات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني).
يضاف إلى ذلك ضرورة تعزيز مؤسسات الاستشراق في المناطق التي توجد بها مدارس علمية في بعض مجالات الدراسات الاستشراقية، وضرورة تهيئة الظروف الملائمة لتكثيف التفاعل بين الدراسات الاستشراقية الأكاديمية والجامعية، وضرورة إنشاء نظام دائم لإجراء العمل الميداني للباحثين والتدريب العملي، وضرورة تحديث القاعدة التعليمية والمنهجية للتخصصات الشرقية، وضرورة زيادة تنوع برامج الماجستير في الدراسات الشرقية وتخصصاتها الدقيقة، وضرورة الحفاظ على تدريس اللغات الشرقية النادرة في الجامعات وتطويره.
لا يخفى أن استشعار النقص في هياكل المؤسسات الأكاديمية المعنية بالدراسات الشرقية وكل هذه الضرورات التي أوردها الكاتب يأتي بعد 3 عقود من انهيار الاتحاد السوفياتي، ويترافق مع المنعطف الراهن في السياسة الخارجية الروسية، سواء عبرت عنه بهدف عام واحد، وهو "التوجه شرقاً"، أو عبر جملة من الأهداف الاقتصادية المتعلقة برؤية روسيا إلى نفسها في عالم متعدد الأقطاب نحن قاب قوسين منه.
الوصول إلى هذا الهدف المعلن وتذليل كل العقبات التي رآها الكاتب "ضرورات" يستدعي ورشة عمل علمية ضخمة لا تهدأ، يشارك فيها المئات بل الآلاف من المتخصصين في مجالات مختلفة من الاستشراق، إلى جانب رؤساء المعاهد العلمية والجامعات وممثلي الهيئات الحكومية، إذ تعمل المؤسسات الأكاديمية العشرين المعنية بالدراسات الشرقية في الاتحاد الروسي ضمن تيار واحد ذي رؤية موحدة.
إن عملاً كهذا سيسد الفراغ الكبير كماً ونوعاً في أعداد الباحثين النظريين والميدانيين في الدراسات الشرقية وفي أعداد المترجمين في حقول الترجمة شتى. ومفتاح كل ذلك، كما يرى كوزنتسوف، هو الاهتمام المتزايد بالشرق في المجتمع الروسي ووعيه بالحاجة الحقيقية إلى فهم الشرق بشكل أكثر عمقاً.