إسرائيل تخطط لمحو غزة من الوجود منذ حرب 2005 (2 - 2)

يؤكد فينكلشتاين بأنه يجب التوقف عن توصيف الوضع بأنه "احتلال" فإسرائيل هي اساساً وبما لا يقبل الجدل، "دولة" فصل عنصري اغتصبت أرضاً ومضت تنكّل بشعبها من أجل إبادته".

  • كتاب: غزة... بحثٌ في استشهادها لنورمان فينكلشتاين
    كتاب: غزة... بحثٌ في استشهادها لنورمان فينكلشتاين

تقرير غولدستون

في كتابه الجديد: "غزة... بحثٌ في استشهادها" يسرد نورمان فينكلشتاين الكاتب والمؤرخ اليهودي المناهض لسياسة الكيان الصهيوني، وقائع متداخلة لكفاح الشعب الفلسطيني عموماً، مع التركيز على غزّة وما حلّ بها من مذابح متتالية وحصار خانق. يصف كيف ظل الإسرائيليون ينبذون عروض السلام، ويمارسون الضغوط بمعونة الراعي الأميركي على مختلف المحافل الدولية لإسكات الشهود، والنجاة من المساءلة، والإفلات من أي عقاب. 

في أحد فصول الكتاب، يهتم الباحث بتحليل تقرير غولدستون، الذي تراجع صاحب التقرير لاحقاً عن النتائج التي توصلت إليها اللجنة التي ترأّسها... وكذلك حادثة الهجوم على قافلة سفن المساعدات الإنسانية وتبعاتها السياسية والقانونية. لكن الأبرز فيه ذلك العرض المفصل للفظائع الإسرائيلية و"خيانة منظمات حقوق الإنسان، التي تعمل إمّا على تلميع صفحة الجرائم الإسرائيلية (منظمة العفو الدولية، مجلس حقوق الإنسان)، وإمّا على تجاهلها (هيومن رايتس ووتش). كان ذلك تخلّياً فاضحاً ومخزياً عن المسؤولية عن المحنة الأشد، التي كانت تمرّ فيها غزة".

ويورد الكاتب مقارنة فريدة في نوعها بين الوضع القانوني لاحتلال نظام جنوب أفريقيا العنصري لدولة ناميبيا، و"الوضع القانوني" للاحتلال الإسرائيلي. وينتهي إلى طرح سؤالٍ في غاية الأهمية، تحت عنوان: "هل الاحتلال قانوني؟!"، بحيث تحدث بشأن "قانونية" الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وفي معرض آخر يقول: "عندما أصدر "ريتشارد غولدستون" تقريره المدمّر والصادر عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة" في عام 2009، بدا كأن يوم الحساب حلّ أخيراً على "إسرائيل". وبما أن "غولدستون" كان يهودياً وصهيونياً على السواء، لم تستطع "إسرائيل" أن تُلصق به وبتقريره صبغة العداء لـ"إسرائيل" أو العداء للسامية. وانتاب المسؤولين الإسرائيليين خوفٌ من السفر إلى الخارج في تلك الفترة، لأن مذكرات توقيف كانت تنتظرهم في المطارات الأجنبية. ثم حشدت "إسرائيل" مواردها الهائلة في الداخل والشتات (والتي تضم كما يُفترَض أجهزتها الاستخبارية) من أجل كسر إرادة "غولدستون"، ونجحت هذه القوة الماحقة في تحقيق ذلك. فعمدَ "غولدستون" إلى سحب التقرير في ظروف لا يزال يكتنفها الغموض، وكانت هذه بمثابة رسالة واضحة موجَّهة إلى الناشطين في مجال حقوق الإنسان، ومفادها: إذا تخطّيتم "إسرائيل"، فسوف تلقون مصير غولدستون".

إقرأ أيضاً: الجرائم التي ارتُكبت بحقّ غزّة وأهلها (1 - 2)

يقول الكاتب إن "الاحتلال هو فعل موقت يجب ألا يستمر أبداً بحسب القانون الدولي الإنساني واتفاقيات حقوق الإنسان وغيرها من الوثائق والدلائل القانونية". وبالتالي، يدعو المجتمع الدولي إلى النظر في ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني للأراضي الفلسطينية. وبعد ان يكشف مزيداً من أكاذيب "إسرائيل" بشأن الاعتداءات الإسرائيلية على غزة وأهلها، يختم مطالعته باستنتاج بارز، مفاده أن "إسرائيل تخطط من أجل محو غزة من الوجود منذ حرب 2005".

يستشهد "فينكلشتاين" بكتاب "قرن من العار " (A Century of Dishonor)، والذي وثّقت فيه "هيلين هانت جاكسون"، في أواخر القرن التاسع عشر، تدمير الأميركيين الأصليين، عن طريق تطبيق سياسة حكومية مدروسة ومتعمّدة. يقول إنه "جرى، إلى حد كبير، تجاهُل الكتاب، ثم دخلَ طيّ النسيان، قبل أن يُعاد اكتشافه مؤخراً من جانب الأجيال اللاحقة التي أبدت استعداداً لسماع الحقيقة وتحمّلها. ويستنتج: "ليس هناك من سِجِلّ أشد قتامة من سجل غدرها [أي غدر الحكومة الأميركية] بهذه الأمة".

وبشأن مؤلَّفه يقول الكاتب: "استلهمتُ كتابي عن غزة من مرثاتها الحارِقة. كان لديّ أملٌ ضئيل خلال عملي على تأليفه في أن يلقى إقبالاً لدى مُعاصريّ. ومع أنه كان موضع استحسان من الخبراء الأكاديميين، الذين عدّوه حاسماً وريادياً، إلا أنه لم يحصل على مراجعة واحدة في وسائل الإعلام التقليدية".

ويتابع: "مع ذلك، يجب أن يثابر المرء على قول الحقيقة؛ هذا أقل ما ندين به للضحايا. لعله ذات يوم في المستقبل البعيد، عندما تحلّ أزمنةٌ أكثر استجابة، سيقع أحدهم على هذا الكتاب، وقد تراكمَ عليه الغبار على رف في إحدى المكتبات، فينفض عنه خيوط العنكبوت، وينتابه غضبٌ شديد بسبب المصير الذي حلّ بشعبٍ، إن لم يتخلَّ عنه الله، إلا أنه خانَه جشعُ الإنسان الفاني وفساده، ووصوليته ووقاحته، ووهنه وجبنه". ويستعين الكاتب بما قالته "جاكسون" عن كتابها، حين توقّعت أنه: "سيأتي وقتٌ يبدو فيه للطالب الذي يدرس التاريخ الأميركي أن ما أُلحِق بأمة هنود "الشيروكي" يكاد يكون عصياً على التصديق". ويستنتج: "أليس بحكم المؤكّد أنه ذات يوم، سيبدو أيضاً أن السجل الأسود لاستشهاد غزة يكاد يكون عصياً على التصديق؟".

التعنّت الإسرائيلي

في ملاحظة بارزة يقول الكاتب إن "غزة لم تشكّل قط تهديداً عسكرياً لإسرائيل، لأن أياً من "العمليات" (عبارة ملطَّفة يُقصَد بها المجازر) الإسرائيلية في القطاع لم يكن الهدف منها المحافظة على قوتها الرادعة هناك. كان الهدف الأساسي لها استعادة قدرة إسرائيل الرادعة في المنطقة – أي خوف العالم العربي -الإسلامي منها – بعد الإخفاق الذريع الذي مُنيت به في حربها ضد حزب الله في لبنان في عام 2006... والهدف الجديد كان تحجيم حماس التي كانت تعمل على تثبيت دعائم نموذجها للحوكمة في غزة وتحقيق بعض النجاح في مسعاها". 

ويصل إلى نتيجة دامغة، بحيث يقول: "بالكاد دفعت إسرائيل ثمناً لهذه الهجمات... وإنما المعنويات في غزة ظلت مرتفعة".

يَعُدّ الكاتب أنه، من وجهة النظر القانونية، فإن السمة الأساسية للاحتلال هي أنه يُفترَض به أن يكون موقتاً. وعندما لا يعود موقتاً، يصبح ضمّاً بحكم الأمر الواقع. وبموجب القانون الدولي، يُعَدّ الضم القسري ممارسة غير قانونية. وفي مقدّمة قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، يجري التذكير بـ"عدم جواز الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحروب". 

ويضيف: "يجب أن يكون واضحاً، بعد نصف قرن من الاحتلال المصحوب بالمفاوضات، أن إسرائيل خرقت مبدأ حسن النية. فهي ترفض، منذ البداية، الإطار القانوني التوافقي لإنهاء النزاع – أي قيام دولتَين عند حدود حزيران/يونيو 1967 مع مقايضات طفيفة ومتبادلة في الأراضي؛ و"تسوية عادلة" لمسألة اللاجئين بالاستناد إلى العودة والتعويضات – وذلك تمهيداً للتوصل إلى تسوية نهائية عملاً بالقانون الدولي... فمنذ انطلاق الاحتجاجات الحاشدة، وغير العنفية في الجزء الأكبر منها، في غزة في 30 آذار/مارس 2018، زعمت إسرائيل أنها تستخدم القوة المتكافئة والتمييزية للدفاع عن حدودها. أما منظمات حقوق الإنسان فادّعت، من جهتها، أن إسرائيل لجأت إلى القوة العشوائية وغير المتكافئة، غير أن الجانبَين يتفقان على فرضية، مفادها أنه يحق لإسرائيل الدفاع عن حدودها".

بيد أن السياج الذي يفصل غزة عن "إسرائيل" ليس "حدوداً تماماً، كما أن غزة ليست دولة. لقد وصف الأستاذ المرموق في الجامعة العبرية، باروش كيمرلينغ، غزة بأنها "معسكر اعتقال"، ووصفتها هيئة التحرير في صحيفة "هآرتس" بـ"الغيتو"، ومجلة "الإيكونوميست" وصفتها بـ"كومة قمامة بشرية"، واللجنة الدولية للصليب الأحمر وصفتها بـ"سفينة غارقة". وغزة هي ما سمّاه المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان "حياً بائساً وسامّاً"، حيث يعيش شعب بكامله "كأنه في قفص... من المهد حتى اللحد".

فهل تملك إسرائيل الحق في اللجوء إلى القوة لحبس مليون طفل غزيّ في "غيتو" أو  في"حي بائس وسامّ"؟ ألا يمتلك أبناء غزة الحق في التحرر من "معسكر الاعتقال"؟ هل يناقش أحد اليوم فيما إذا كانت ألمانيا النازية استخدمت، أم لا، القوة "المفرطة" و"غير المتكافئة" لسحق غيتو وارسو؟ مَن يتساءل الآن عما إذا كان لألمانيا النازية "الحق في الدفاع عن النفس" ضد منظمة القتال اليهودية التي قاومت وهي تشهر السلاح؟ هل يمكن حتى مجرد التفكير في هذه الأسئلة؟".

إن الهدف الأساسي للقانون الإنساني الدولي هو حماية المدنيين من ويلات الحرب. والهدف الأساسي لقانون حقوق الإنسان الدولي هو حماية كرامة الأشخاص. فكيف يُعقَل أن يُستخدَم هذا القانون أو ذاك لتبرير اللجوء إلى القوة – أيّ قوة – التي تسعى لحشر المدنيين في جحيم يتعرضون فيه للإذلال والتعذيب والقتل؟

وهنا، فالسؤال الوحيد السليم أخلاقياً الذي يُطرَح في ضوء الوضع في غزة، هو الآتي: هل يحق لـ"إسرائيل" تسميم مليون طفل باسم "الدفاع عن النفس"؟

الخاتمة

يستمد الكتاب أهميته القصوى من كونه تاريخاً لصيقاً بالحدث، يبيّن مدى النقص في عملية استخلاص العِبَر. فهو يراوح بين الموضوعي التحليلي والشخصي ليبحث عن معنى ما يحدث في غزّة، ومعنى النصر، ومعنى الهزيمة. وعليه، يسعى للوقوف لحظة تأمل عن قرب شديد من المعركة، تاريخياً ومكانياً وروحياً... 

يقول الكاتب إن "الحقيقة ان غزّة غدت رمزاً لمأساة الشعب الفلسطيني ونكبته وكارثته، كما تُشكل رمزاً للبطولة والفداء والصمود، على مدار سبعة عقود، مضت تلاحم أهلها خلالها مع المقاومة بمقدار تلاحم المقاومة وفصائلها، ليشكلوا معاً المعبّر الحقيقي عن الهوية الوطنية، والتي جسدتها وحدة الدم في الميدان، وضرورة وطنية وشرطاً لتحقيق الانتصار. 

لذا، يجب التوقف عن توصيف الوضع بأنه "احتلال". وبالتالي، فإسرائيل هي اساساً وبما لا يقبل الجدل، "دولة" فصل عنصري اغتصبت أرضاً ومضت تنكّل بشعبها من أجل إبادته".