"أيام مئات في إيران قبل الثورة"
عاشت دلال عباس أياماً سبقت الثورة واحتفظت بالمنشورات التي تنقل عناوين تلك الثورة المأخوذة من خطب الإمام الخميني ومواقفه ضد الكيان الإسرائيلي الغاصب.
بعد مقدمة أدبية ووجدانية بليغة لكتاب "أيام مئات في إيران قبل الثورة" الصادر عن دار الأمير بيروت 2022 لمؤلفته الدكتور دلال عبّاس، كتبها الصديق الدكتور محمد حسين بزي، فإن ما نعرفه وعرفناه عن مسيرة الدكتورة عبّاس في عالم الفكر والأدب والتربية والتعليم والمقاومة، مقاومة التخلف والجهل، ومقاومة العدو الإسرائيلي بثباتها في الأرض، وتشجيع تلامذتها على الصمود ونيل الشهادات. وهذا ما نلمسه في شخصيتها بعد انتهائنا من قراءة كتابها "أيامٌ مئات في إيران قبل الثورة".
كتاب ينقلنا إلى إيران الثورة قبل تحققها، وانتصارها، وإرساء دعائمها، والأهم، ما نقلته عباس من إرهاصات تلك الفترة عشية انتصار الثورة، وسقوط عرش الشاه محمد رضا بهلوي، حليف "إسرائيل" والداعم الأول لها، والشرطي في خدمة سيده الأميركي في المنطقة. والأخطر - من كل ما هو خطير في السنوات التي حكم فيها بهلوي إيران وأدت إلى تجويع شعبه، وتوسيع السجون وتعذيب المفكرين وعلماء الدين الرافضين لسياسته المبهورة بالغرب- الأخطر، ما كان ينشره سياسياً وإعلامياً وثقافياً وفي المدارس وفي المناخ الاجتماعي العام من عداء قاتل ومسموم للعرب، والإسلام، ولفلسطين كقضية، تآمرت الدول الكبرى على شعبها لطرده من بلده وتشتيته في الجهات الأربع.
في طهران حيث استقرت بحكم عمل ربّ الأسرة، اصطدمت إبنة جبل عامل المُحتل من العدو الإسرائيلي، بسيدة إسرائيلية في الحديقة العامة، فكانت تجربتها الأولى الرافضة للسلام والكلام معها. وهنا تصف عباس بكلمات موجزة وعميقة المعنى والدلالة، تقول: "ابتعدت وأنا أرتجف، لم أتمكن من سماع كل ما تقوله أو كمتابعة حديثها، كأنني كنت خائفة من أن تراني أرواح الشهداء المتساقطين برصاص أهلها"... بصراحة، إنه موقف - أمثولة لرفض التطبيع، ونموذج عن الوعي الفعلي لمعنى أن "إسرائيل" هي العدو.. تجربة تكررت في بيتها وبحضور أصدقاء، عندما شاهدت الرئيس المصري الراحل أنور السادات تطأ قدماه أرض فلسطين المُحتلة في الكنيست الإسرائيلي، فأجهشت بالبكاء دونما حذر من سطوة القمع الشاهنشاهي لمن يتنفس كلمة فلسطين.. لكنها زيارة واتفاقية لاحقة مع العدو – وأعني اتفاقيات كامب دايفيد - لم تنجح باختراق وعي الشعب المصري للتطبيع مع هذا العدو، ولا وعي الشعب العربي.
وأذكر هنا تلك التظاهرة الحاشة التي جابت شوارع بيروت رفضاً لتكل الزيارة وقد كنت طالباً في المرحلة الثانوية الأولى وشاركت فيها قلباً وفكراً ووعياً لخطورة ما أقدم عليه السادات.
هذا الرفض لزيارة السادات للكيان الإسرائيلي، وبكاء الدكتورة عباس، جعلها تنبش في أوراق تعود إلى العام 1977 سجلت فيها ما قاله زميل زوجها في العمل وصديق العائلة الشاب الألماني برومييه، (وكان من ألمانيا الشرقية) عن جمال عبد الناصر ما جعلها تغيّر رؤيتها لسياسة عبد الناصر في سنوات حكمه.. ممّا قاله برومييه في منزلها وبحضور ثلة الأصدقاء "إن عبد الناصر قام بثورة وليس بانقلاب عسكري". وأضاف برومييه:
-مشروع عبد الناصر تحرّري وطني من الاستعمار البريطاني والأميركي وهو يشبه ما تقوم به الثورة في إيران.
-مشروع عبد الناصر كان للقضاء على الإقطاع وعلى الخلل في توزيع الثروة، وفي تمليك الفلاحين الأرض التي كانوا يتعبون في زراعتها سخرة.
- أطلق عبد الناصر مشروعاً هائلاً لتوفير التعليم لكل أبناء الشعب المصري، وأتاج العلاج الصحي المجاني لكل الناس وعلى حساب الدولة.
- عمل على تأميم قناة السويس، وجابه العدوان الثلاثي، ورفض إملاءات البنك الدولي وبنى السد العالي هذا المشروع الحيوي بالتنمية والممتد إلى اليوم بآثاره الايجابية، إضافة إلى مشاريع التصنيع وبناء المصانع وغيرها من مشاريع التنمية التي حاربه الغرب بسببها وبسبب عدائه لـ"إسرائيل" وإيمانه بعدالة قضية الشعب الفلسطيني.
هنا، أود الإشارة، عن تلك العلاقة التي نشأت بين رجلين ثوريين، واضحين بمشاريعهما التحررية، والمقاومة للاستعمار الغربي، وللاحتلال الإسرائيلي، وأعني تلك العلاقة بين عبد الناصر والإمام الخميني يوم تجربته الثورية الأولى في أوائل ستينيات القرن الماضي والتي قمعها الشاه بدموية ومجازر يحكي التاريخ عنها. من هذه العلاقة ودعم عبد الناصر لها، إنشاء إذاعة تبث ضد الشاه، ومنح فرص التعليم لكثر من الشباب الايراني الذين لجأوا إلى مصر يومها لإكمال دراسته الجامعية، وغيرها من فرص التدريب والتضامن.
وكلنا يعلّم كيف قاد الإمام الخميني رحمه الله ثورة اسلامية وصولاً إلى تحقيق هدفه بإقامة نظام جمهورية إسلامية في إيران. ولكن لا نشبع من معرفة المزيد من أي سطر أو كلمة عن هذه الشخصية الفريدة بقامتها وصمودها وصبرها وعنادها ورؤيويتها الاستراتيجية وأعني طبعاً الإمام القائد الخميني، ولا عن تلك الثورة التي هزّت القرن العشرين، وطَرَقَت أبواب الدول العظمى، فكثر الأعداء، ولكن تكاثر المحبون والحلفاء، وصاروا محوراً يُحسب له الحساب. وهنا أسمح لنفسي أن أشير إلى تفاعلي كطالب في المرحلة الثانوية مع يوميات تلك الثورة التي انتصرت، ولا سيما يوم نزول قائدها الإمام الخميني سلم الطائرة في مطار طهران، بكل شجاعة المتحدي والمؤمن والثائر.. ثورة أخذتنا بيومياتها وتضحيات شبابها، ووضوح شعاراتها، بالعداء لـ"إسرائيل" وداعميها. واحتلت قلوبنا وعقولنا وشكلت مرحلة جديدة في تفتح وعينا السياسي.
وعند انتهائي من قراءة كتاب الدكتورة عباس، شعرت أنني أتابع تلك الثورة يوماً بيوم وقبل وقوعها، وسأنقل هنا بعض ما ورد في يوميات عباس التي دوّنتها في دفاترها الخاصة عندما كانت تسكن وزوجها في طهران، وتتابع دراستها، وتنقّب بعقلها العلمي عن كل ما يفيد ثقافتها وأطروحتها للدكتوراه.
نقلت لنا ذاك العداء الخبيث لفلسطين والمنتشر وفقاً لسياسة سلطة الشاه وفي البرامج التعليمية، وعن كلمات الإعجاب التي سمعت من بعض الإيرانيين عن "إسرائيل" باعتبارها "الدولة الحضارية وسط العرب المتخلفين" بحسب قولهم. ونقلت لنا الصورة البشعة عن تهافت ديبلوماسيين عرب لمصافحة السفير الإسرائيلي لحظة دخوله إلى حفل رسمي أقيم تمجيداً للشاه في طهران.. وعن فرص العمل المتاحة بأعداد كبيرة للشركات الإسرائيلية وخاصة في المشاريع العمرانية والاقتصادية، وطبعاً ومن دون أدنى شك في الميادين التجسسية والأمنية والاستخبارية إلخ..
كما نقلت لنا التحريض والعداء للقائد جمال عبد الناصر، وفرحة بعض أتباع الشاه بهزيمة العام 1976، وعن تحريض رؤساء وملوك عرب الشاه ضد عبد الناصر الأمر الذي ما يزالون يفعلونه عند الأميركي تجاه الثورة الاسلامية في إيران ومنذ أول أيام انتصارها.
عاشت عباس أيام سبقت الثورة واحتفظت بالمنشورات التي كانت توضع عند مدخل العمارة التي تسكن فيها، وتنقل عناوين تلك الثورة المأخوذة من خطب الإمام الخميني، ومن الثورة الخالدة التي قادها الإمام الحسين، وفجيعة كربلاء، وعن كلام الإمام الخميني من أن "إسرائيل" لا تريد أن يكون في هذه الدولة -أي إيران -عالِمٌ ولا قرآن ولا علماء دين ولا أحكام اسلامية كي تحقق أهدافها.. وعن تحريمه بيع النفط لـ"إسرائيل" والدول التي تمدها بالأسلحة، وتحريمه أية علاقة مع الكيان المحتل مهما كان نوعها أو درجتها وكان ذلك العام 1967، وأنه ومنذ أربعينيات القرن الماضي كان يولي أهمية لأسلمة المقاومة، ولهذا كان تركيزه على القضية الفلسطينية، وأيضاً على العداء لأميركا. وفي عامي 1977 و1978 فقد دعا إلى مساعدة ضحايا الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان ومساعدة الجرحى والمنكوبين وتخصيص ربع سهم الإمام لهذا الغرض.
وانتصرت الثورة الاسلامية في إيران بقيادة وحكمة الإمام الخميني، ومعها انتصرت فلسطين، واندهش العالم ولا سيما الدول المستكبرة العظمى الداعمة لكيان العدو من مشهد إنزال علم "إسرائيل" عن مبنى السفارة الإسرائيلية في طهران وإبداله برفع العلم الفسطيني مكانه، مرفرفاً، وفاتحاً الطريق باتجاه تحرير فلسطين.
والشواهد على دعم ثورة إيران الإسلامية لفلسطين كثيرة ونوعية وممتدة: من دعم المقاومة في فلسطين، وفي لبنان، وهل نحتاج إلى المزيد من الكلام عن هذا الدعم وأنواعه، وكلنا عشناه ونعيشه بكل التفاصيل.