"أنا والميدان".. لنا شاهين تروي شهادتها
من هذا الكتاب الصغير الحجم نستعيد ذكريات، ونتأمل دروساً، ونتعرف إلى متاعب مهنة المراسلين والمخاطر التي يتعرضون لها.
في كتابها "أنا والميدان" (دار الفينيق للنشر والتوزيع)، تروي مراسلة "الميادين" لنا شاهين شهادتها بشأن فترة مفصلية من تاريخ مصر، والتحوّل السياسي، وخاتمته التراجيدية الحاسمة، التي أنهت حكم الإخوان المسلمين، وحقبة رئاسة الرئيس الإخواني محمد مرسي، والانقسام التراجيدي بين "ميدان التحرير" و"ميدان رابعة"، ثم حسم هذا الصراع ووضع نهاية له.
عرف متابعو قناة "الميادين" لنا شاهين مع زميليها، أحمد شلدان وأحمد غانم، وأبدى الثلاثة شجاعةً، وكانوا مبادرين في تغطية الحروب على قطاع غزّة، وكم قلقنا جميعاً عليهم وهم يندفعون إلى أشد مواقع الخطورة تحت القصف الإسرائيلي المجنون، وبين ركام الدمار، عبر كاميراتهم ينقلون إلى المشاهد أشلاء الشهداء، وجلّهم من المدنيين، وتهديم بيوت غزة وأبراجها. وكنا ندعو الله في كل لحظة أن يحميهم من الخطر المحدق بهم، وأن يحمي أهلنا في القطاع، الذين يتم قصف بيوتهم وتجمعاتهم بكل أنواع صواريخ الطائرات، وهم مع أهلهم يستصرخون "ضمائر" العالم و"المجتمع الدولي"، أن يفعلا شيئاً لإيقاف المذبحة المتكررة للقطاع ومدنه ومخيماته ورجاله ونسائه وأطفاله.
المتابعون باتوا يعرفون لنا شاهين وزميليها، ويتمنون كل الوقت أن يحميهم الله، هم الذين يندفعون من موقع إلى موقع، ومن دمار إلى دمار، والدم ينزف أمامهم وأمامنا في مستشفيات غزة (المتواضعة) العاجزة عن إسعاف أعداد المصابين وازدحامهم في ممرات المستشفيات، بسيارات الإسعاف التي لا تكف عن النعيب الذي يزف إلى الموت والشهادة أعداداً إضافية من أهلنا الذين تعمل آلة الحرب الصهيونية على مسحهم من الوجود، وإن تمكنت من "إغراق" غزة في مياه البحر المتوسط كي يستريح الصهاينة من وجع رؤوسهم المزمن من غزة وعنادها ومقاومتها ومواصلتها الحياة على رغم كل الموت الذي ترميهم به آلة موت بكل صنوف سلاح القتل والدمار والإبادة.
تسأل لنا شاهين: "ألسنا هنا في غزّة نعيش في الخطر رداً على تحذيرات الأصدقاء من هذه السفرة عبر صحراء سيناء وما تحويه من مخاطر، وخصوصاً بعد انفلات الأمن، والأنباء المتواترة عن هجمات في صحراء سيناء وسقوط قتلى". وتحسم أمرها بالسفر إلى القاهرة، وتحمّل نتائج قرارها، ونقل وقائع ما يحدث هناك للمشاهدين بنزاهة وشجاعة وموضوعية.. وليكن ما يقدّره الله!
تتجه شاهين إلى رفح، حيث المعبر الفلسطيني إلى مصر، وهي تهجس بمتاعب الانتظار عند معبري الحدود بين غزة ومصر، لكن تتيسر الأمور وتمضي هينة كما لم تتوقع، ثم تمضي الرحلة إلى القاهرة سلسة بلا مخاطر عبر سيناء. وبعد عبور قناة السويس تطمئن نفس الصحافية التي اتخذت قرارها بشأن خوض المغامرة وليكن ما يكون، فهي اختارت مهنة المخاطر، ولا يمكن أن تتردد عندما يدعوها الواجب.
في الفندق ترتاح قليلاً، وتستيقظ على مكالمة من مكتب "الميادين" في القاهرة مرحبة، وتخبرها بوضع سيارتها بتصرفها للحضور والتفاهم على خطة العمل.
تبوح لنفسها، وللقارئ، وهي تستعد لأول مواجهة مع "الميدان": كيف سأتعامل مع وضع أشعر بأنني مسقطة عليه إسقاطاً؟ أنا لست خبيرة بالشأن المصري إلاّ بالقدر الذي يسمح به الاطلاع على الأخبار ومتابعة الأحداث.
تُسأل في مكتب "الميادين": جاهزة يا مدام؟
وتجيب: مية المية... (ص 16)
وتنخرط في مهمتها، معزَّزة بخبرة صحافية وخبرة إعلامية ميدانية، وبثقافة عامة حصّلتها بالخبرة المتراكمة.
تنتقل من المكتب في حيّ العجوزة إلى "ميدان التحرير" عند الضفة المقابلة للنيل. وإذ يتناهى الهدير على سمعها تسأل:
- ما هذا؟
فيجيبها زميلها المصري: ابتسمي فأنت بينك وبين ميدان التحرير فركة كعب. دي عقبال أمالتك هتافات الجماهير تشق عنان السماء (ص17).
تتوالى فصول الكتاب القصيرة المركّزة، التي تنقل قلق جماهير "ميدان التحرير". ومنذ بداية انخراط شاهين في حركة تلك الجموع تلتقط لهفة الجماهير وأمنياتها بشأن تحرك الجيش وإنهاء حكم الإخوان المسلمين.
وتصف وضعها النفسي من أولى لحظات حضورها في صخب الميدان: "زالت رهبة المكان من نفسي مع أول مواجهة مع الجماهير، واستعدت ثقتي بقدراتي بعد أول تغطية على الهواء. أصبحت أتحدث عمّا أراه وأسمعه كأنني جزء لا يتجزأ منه، وأشعر بالإحساس نفسه الذي ينتاب المصريين من خوف وقلق ورهبة في الصدور من احتمال انكفاء الأمور إلى الأسوأ" (ص20).
ما الاحتمال الأسوأ الذي باتت تخشاه مع جموع المصريين؟ الحرب الأهلية التي ستجر الكوارث على مصر، لذا فالأمل بتحرّك الجيش هو الرهان على دوره المنقذ!
هنا، لا بد من ورود السؤال: ألا يعني ذلك أن الجماهير تشعر بأنها عاجزة عن إحداث التغيير الجذري؟
يسألها عجوز مصري بلهفة، وهو يراها تمسك بالميكروفون، وإلى جوارها مصوّر صحافي ميداني يتابع بعدسة كاميرته حركة الجموع لنقلها إلى الناس داخل مصر وخارجها في العالم:
- طمنيني يا بنتي، إيه الأخبار؟
وهل تملك سوى عبارات التطمين العمومية، والتي لا تقول شيئاً محدداً:
- خير يا حاج، اطمئن.
وعلّق العجوز:
- ربنا يبشّرك بالخير يا بنتي، كفاية بأه عايزين نروّح بيوتنا، ونشوف أكل عيشنا، رمضان داخل علينا، اللهم بلّغنا رمضان برحيل الإخوان (ص23).
ماذا تفعل المراسة في الميدان؟
تنقل ما ترى وتسمع، وتنخرط في حوارات مع مواطنين مصريين في ميدان التحرير:
- حضرتك مصرية يا هانم؟
أجبته بشكل تلقائي ومن دون أن أتوقف لحظة للتفكير (تقول لانا):
- أيوه مصرية، إذا كان معنى مصرية أني بحب مصر، وبعتبر أم الدنيا هي أمي.
وتفجّر قنبلة:
- يا سيدي أنا فلسطينية، ومن غزة كمان.
- أهلا وسهلاً شرفتينا يا هانم، بس يا ريت ما تقوليش الكلام ده لأي حد هنا، إنت عارفة ولاد الحرام ما خلوش لأولاد الحلال مطرح (ص28).
آنذاك كانت صفة الفلسطيني تستفزّ، وغزاوي تستفز أكثر، لأن الإشاعات كثرت بشأن دور الإخوان في غزة بمساعدة إخوان مصر واحتضانهم، وخصوصاً بعد هرب مئات المساجين، وانفلات الأمور، لكن لنا "فجّرت" قنبلتها: فلسطينية ومن غزّة، وهي بذلك أرادت الرد على دعاية حقنت الجماهير ووجهتها وجهة غاضبة وأبعد ضد الغزاويين بصورة خاصة، والفلسطينيين بصورة عامة.
الملل من التكرار:
تبدأ الفصل الـ8 وهو كالعادة فصل قصير مُكثّف: "لا يزال هناك متسع من الوقت قبل أن يحين بث رسالتي الحيّة التالية، وأنا مُتعبة، والملل من رتابة تكرار الأحداث يزيدني تعباً. تمرّدت على الميدان فقررت الذهاب إلى مقهى "بلادي".
في المقهى لم يكن النقاش يقتصر على الجالسين إلى كل طاولة على حدة، بل ينتقل أحياناً من طاولة في طرف المقهى إلى أُخرى في طرفه المقابل، فيسمع كل من في المقهى وجهات النظر، ويصبح من حق الجميع المشاركة في مداخلاتهم" (ص32).
يسألها أحد روّاد المقهى:
- واللاّ إيه رأي حضرتك؟
- نعم، حضرتك بتكلمني؟
- أيوه، حضرتك إيه رأيك في اللي بيقوله الأخ؟
- أخ مين، مش دايرة بالي.
ويكون تعليقه:
- حضرتك مش من هنا.
- لا، إزاي، بس كنت مركزة في اللاب توب حبتين.
- براحتك، حضرتك الأخ ده مصرّ على أن تدخل الجيش يُعَدّ انقلاباً.
احتدام النقاش، وتناوش أطراف الحديث، يكشفان تباين الرأي في تدخل الجيش، وأحياناً يبدو حواراً في مسرحية لا معقولة.
تتمنى لنا في تلك اللحظة لو أنها تستطيع الانتقال إلى "رابعة العدوية" أو"النهضة"، حيث يعتصم الإخوان المسلمون وأنصار الرئيس المعزول: ".. لأقوم بالتغطية من هناك، وألقي الضوء على وجهة النظر الأخرى، فأنا – بكل صراحة - لا أنتمي إلى أي من الفريقين، لكنني كنت بقلبي وعقلي وكل جوارحي مع مصر" (ص33).
الإجماع على إزاحة مرسي:
"إجماع على أن تدخل الجيش لم يكن انقلاباً، وإجماع على أن عزل الرئيس مرسي وجماعة الإخوان كان ضرورياً، إلى حد أن أصبح مسألة حياة أو موت" (ص43).
والإجماع، الذي تقصده لنا، يتجلى في ترحيب المحتشدين في "ميدان التحرير"، الذي توجد بين حشوده. وأمام هول ما يمكن أن يحدث، تكتب بقلق على الناس، وعلى مصر: اللهم إني اسألك ردّ القضاء.
تكتب لنا شاهين عن لحظات التوتر والقلق والخشية:
"الجيش يدفع تعزيزات إضافية لتأمين ميدان التحرير، وحركة محمومة لآليات الأمن والشرطة، وقبل أن تسأل يأتيك بالأخبار من لم تزود، ومن كل مكان حولك: مؤيدو الرئيس المعزول انطلقوا من ميدان النهضة في طريقهم إلى ميدان التحرير".
وتضيف أن "الناس هنا خبيرة في مثل هذه المواقف. في وقت أكثر من قياسي تمّ تشكيل لجان للحماية الشعبية وتأمين مداخل الميدان" (ص45).
تنقل المُراسلة المُجربة مشاعرها من دون لف ودوران، بصراحة وجرأة على المكاشفة، ومن دون ادعاء: "أنا التي غطيت عشرات عمليات الاجتياح والعدوان (الإسرائيلي)، وشهدت مئات، بل آلاف عمليات القصف الجوي والتوغل البري في غزة، وكنت أكثر من مرّة قاب قوسين أو أدنى من الموت، أصبحت على شفير الموت هنا. وها أنا أرتعد خوفاً، وقلبي يرتجف من هول الموقف" (ص50).
في الميدان تقع في مشكلة غير متوقعة، بينما كانت تتهيّأ لبث رسالة عن الباعة المتجولين، بدأتها بعبارة دارجة في مصر، وحتى في بلاد المشرق العربي: التجارة شطارة. وتتفاجأ بشخص ما "مستفَز"، أو جاهل، يرغب في إثارة مشكلة يُبدي عبرها حرصه "الوطني"، ويبحث عن أي مدخل يثير من خلاله الفوضى لغاية في نفسه، أو في نفوس آخرين، ويرتفع صوت مُحرّض:
- إيه ده، بتقول إيه دي.. طلعوها برّه الميدان.
سأله أحد الشبان:
- هي قالت إيه؟
أجاب بحدّة وهو يكاد يدخل إصبعيه في عينيّ:
- بتقول إننا بنتاجر بالثورة.
وقبل أن يكمل قوله، وجدت نفسي وسط غابة من السكاكين انشقت عنها الأرض من حولي.
صحت في وجوههم:
- انتو عاوزين مني إيه؟
- دي دسيسة!
وتتألّب الجموع عليها، "حاولت أن أجادل على أمل الإقناع، لكن ردود فعل الجماهير كانت غير متوقعة بالنسبة إلي. كشّروا عن أنيابهم، ولم يعودوا يسمعون أو يرون أو يفهمون، فلم أجد بداً من تحاشيهم بالابتعاد عن مكان تجمعهم" (ص 60).
تعلّق بائعة الترمس الجالسة عند قارعة الطريق في طرف الميدان: "صوابعك مش زي بعض يا بنتي".
وهكذا، بتعليق بائعة الترمس البسيطة وحكمتها، بانَ التباين بين الدهماء وحكمة الناس البسطاء الطيبين.
ومن جديد، يرتفع صوت قربها وهي تقف على طاولة ترتفع متراً ونصف متر وتبدأ الاهتزاز، وصوت قربها يصرخ: "نزّلوها.. سكّتوها.. طلّعوها برّا الميدان، دي دسيسة".
تقول لنا: "لم أكمل تغطيتي كما كنت أريد، فلقد رأيت علامات الخوف والاضطراب على وجه المصوّر". ويرتفع الصراخ حولها:
- إنتي بتهبّبي إيه هنا، بتصوري إيه، وبتقولي إيه؟
ويكون تعليقها أبلغ تعبير عنما يفعله "دهماء" يدّعون الحرص:
"ما هذا كله، هل أنا في كابوس تحول إلى حقيقة على غير العادة، أم أن هناك من يعيد تصوير ريّا وسكينة؟".
- إنتي بتهاجمي الثورة!
- أنا، مين قال كده؟
تضيف لنا: "مشهد لامعقول، وصراخ غريزي غير واعٍ، وانفعالات منشؤُها الجهل والتعصّب، وعلى المراسلة أن تتحمل، وهي في هذا الوضع، مهما حاولت توضيح موقفها فلا أحد يسمع".
على رغم خبراتها المتراكمة وهي تغطّي أنباء الحروب على قطاع غزة، فإن ما يحدث معها ولها يصدمها: "أين منظمو الاحتفال ومنسقو القوى الثورية الذين كانوا يسهبون في الحديث معي أمام الكاميرا عن ضمان عدم الاعتداء على أحد، وعن تسليم أي شخص يشكّون فيه إلى الجيش لحمايته أصلاً من الجماهير" (ص 68).
يهرب المصوّر، وتقع المراسلة في حصار نساء غاضبات، ويندفع القهوجي الذي تعرّف إليها وهي تتردد إلى المقهى حتى بات يألف حضورها، وتتفطن إلى أن الكاميرا حُجزت في أيدي الغاضبين والغاضبات، فتعمل على استعادتها على رغم الخطر، ولا تدري كيف نجت واستعادت الكاميرا.
بعد أخذ قسط من الراحة في مكتب "الميادين"، ونوبة غضب لها ما يبررها، تعلن أنها لن تغطي الأخبار من الميدان، وأنها تريد أن تكون في مكان مرتفع، وأنها تريد العودة إلى غزة، وخصوصاً أن مهمتها تنتهي في الغد، ولكن أحد الزملاء يغني لها بسخرية: طريقك مسدود، مسدود.. يا ولدي.
فإذا بالمعبر مع غزة مغلق. ولا سبيل إلى العودة إلى غزّة!
الميدان خالٍ، والأغاني انتهت، وهدير الجماهير تلاشى، ولم يبقَ للمراسلة غير تأمل كل شيء، وتذكّر كل ما جرى معها، وكيف كانت ستفقد حياتها بأيدي نساء غاضبات متوترات، ورجال أوّلوا الكلام من دون أن يسمعوه بوضوح أو يدققوا فيه.
من هذا الكتاب الصغير الحجم نستعيد ذكريات، ونتأمل دروساً، ونتعرف إلى متاعب مهنة المراسلين والمخاطر التي يتعرضون لها، ونقرأ ما يستدعي العودة لتأمل كل ما جرى في تلك الأيّام.