هالة نهرا تمنح شعوبها أسماءها السبعة
ومما لا شك فيه أنّ هذا العشق الصوفي يتكرّر بشكل مكثف في آخر الديوان، وخصوصاً لدى قولها: "أنا الضوء الإنشادي في تياسر القلب..."، ومثال آخر: "أنا الشرقية في جواكر الجمال...".
عنوان طويل وجريء للمجموعة الشعرية الجديدة للكاتبة اللبنانية هالة نهرا، الصادرة حديثاً عن دار فواصل للنشر في بيروت (2023). يطالعك غلاف الكتاب بلوحة صافية زاهية الألوان للفنان الدكتور محمد شرف. هذا النقاء ينعكس تماماً في المضمون، إذ تستهلّ نهرا كتابها عبر قصيدة نثرية بالفصحى يحمل الكتاب عنوانها: "أمنحُ شعوبي أسمائي الـ7".
هذه الأنا التي تتصدّر الكلمات تمنحُ نفسها للآخرين في الحبّ والموسيقى والقوافي من دون مقابل. عطاء تميّزه الكاتبة للنبلاء من الناس، فتعصر قصيدتها من زيتون المحبة، وتعزف أنغام المعنى من حروف الصداقة؛ من ذاكرة وطن مكللّ بالمجد، على أمل أن يلتقي هذا التمني بالواقع، فيتحقق الوعد بالكمال، وهو رمز الرقم 7.
عندها، تستريح الشاعرة من القلق الوجودي، ولعمري لن تستريح! لأنّ جنون الحبّ ما ينفك يطرق بابها، إذ تقول في قصيدة "كيف أرتحل إلى عينيك وهما جنوني":
"كيف أرتحل إلى عينيك
وهما جنوني وبلادي
وقبائلي وخلاياي
وقمرٌ نصب خيمته في دمي...
كبد الأرض روحها المصفّقة
على إيقاع الوحدة
والسماعي الطائر
بعد رياح: دُم إس تك إس دُم إس تك إس..."
من ناحية أخرى، وللغوص أكثر في المعنى عند الكاتبة نهرا، على القارئ أن يتحلّى بأُذنٍ موسيقية ليكتشف أنّ الموسيقى هي الشفاء الوحيد من جنون هذا العالم، وهي الدواء في مواجهة كل المآسي. مما لا شك فيه أنّ الموسيقى هي التي تهذب النفس البشرية، إنّما عند نهرا الموسيقى هي النفس المتعالية بحدّ ذاتها.
هذا العشق يجعل الشاعرة متّحدة مع كلّ ما يمتّ إلى الموسيقى بصلة من أنغام ونوتات وموسيقيين كبار، فيظهر ذلك جلياً في العديد من النصوص المنثورة، وخصوصاً بعشقها لموزارت وقهقهات الأوبرا، فتقول في الصفحة 22:
"لم ندرِ كم طال مدنا
حتى لعق النغم أذن الليل!
نحن عشاق وولفغانغ أماديوس موزارت
سرحنا في مراعي الدهشة
من فيينا إلى بيت صاحب الفانتازيا، نادينا:
"يا من تتوسّدُ ضوء الموسيقى، أرِنا وجهك!".
واصل ناطورُ النوتات لعبة الغُمّيضة في مسقط رأسه
قال الأطفال هناك: "ذهبَ ليزور الخلود، وربما وقعت من جيبه تذكرة الإياب"....
مهلاً، همستُ إلى سالزبورغ...
ها إنّ ذا الأبد يأخذ قيلولةً ليُداعب موزارت قليلاً!
حتى الشمس شمّرت عن ساعديها
توضأت بالغناء
وفرشت ذهبَها ملاءةً للرنين".
من اللافت أنّ الرقم 7 يتكرر في قصائد أخرى، مثل "عين السبع في أرواحي الـ7"، إذ يظهر جليّاً إيمان الكاتبة بالحياة ما بعد الموت، بالسلام ما بعد الحرب، وبالوعد ما بعد العمر. قصائد على مقامات متأرجحة بين الحبّ والموسيقى، بقافية أو من دون قافية، لكنّها تجمع الدهشة، فتزرع سنابل السلام فوق كمنجة الشعر، وهي قصائد شفافة بلغة رشيقة تظهر ثقافة صاحبتها الواسعة.
وتعود في نهاية الكتاب الأنا الشاعرية لتلبسها الكاتبة للحبيب في قصيدة "نشيد النداء"، حتى نكاد نشاهد المفردات تتراقص على أنغام الحبّ، فتقول:
"أنتَ المفردُ وأنتَ الجمعُ
وأنتَ العاتمُ وأنت اللمعُ
وأنتَ الهازئ وأنتَ الدمعُ
وأنتَ الخرسُ وأنت السمعُ
أنتَ السماحةُ وأنتَ المنعُ
وأنتَ الرقةُ وأنتَ الضرعُ
وأنت الجفافُ وأنت الضرعُ
أنت المُعطّشُ وأنتَ الجرعُ
وأنتَ الهبوبُ وأنت الشمعُ..."
يقول الفيلسوف هيغل: "الموسيقى لا تعبّر عن النفس فقط، بل تخاطبها"، ونحن في هذه القصيدة بالتحديد نسمع تقاسيم الأنا (عند نهرا) تخاطب الحبيب، ليرتفعا معاً فوق سماء الهوى.
ومما لا شك فيه أنّ هذا العشق الصوفي يتكرّر بشكل مكثف في آخر الديوان، وخصوصاً لدى قولها: "أنا الضوء الإنشادي في تياسر القلب..."، ومثال آخر: "أنا الشرقية في جواكر الجمال..."، لكنّ اللافت في القصائد الست الأخيرة هو استعمال الكاتبة للّغة المحكية اللبنانية، فتُحرر بذلك الشّعر كما الحبّ من القيود.
تقول في قصيدة "غزلان الغيم والخرزة زرقا":
بندق عيونك ملفى الخمايل
ورغوة حنين الغرقى
ورد مسكي بزنبق النار
يعَنّب مراكب مواعيد
ويهدهد السما بجمر الملقى
والرمش جسور معلّقة بحبال الهوى
كلّما يحلْفك الشوق
تقطف غزلان الغيم
والخرزة زرقا..."
هذه هي قصائد نهرا تضيء في مواقد الكلمات ليل هذا العالم، بمواويل تحمل أنغام الشرق والغرب، لتدفئ هذا الكوكب البارد، فتزين النجوم بالدهشة.