آلان تورين والحداثةُ المتجددة: نحو مجتمعات أكثر إنسانية
"لا حداثة ممكنة من دوت احترام المعرفة والبحث والابتداع، ومن دون احترام الحقوق الإنسانية الأساسية التي يجب أن تكون في المرتبة الأولى".
لعل التسمية الأقرب أو الأنسب لمضمون كتاب "الحداثة المتجددة: نحو مجتمعات أكثر إنسانية" لعالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين هي: "دفاع عن الحداثة" أو "تجديد الحداثة". والكتاب قراءة لوضع العالم اليوم، وخاصة أوروبا وأميركا، من منظور سوسيولوجي وثقافي غربي، فرنسي تحديداً.
يقدم تورين في الكتاب عدة معرفية منهجية غنية وشاملة، ومقولات جديدة مثل "الحداثة الفائقة"، و"التذوت" و"نزع التذوت"، ويقرأ بشكل مكثف تحولات المجتمع في أوروبا، من المجتمع الصناعي إلى مجتمع الحداثة الفائقة.
الخوف والمخاطر
يبدي الكاتب تخوفاً أو شعوراً بالغاً بالقلق من "ألا نكون على قدر المخاطر التي تحيق بنا، للعجز الذي نبرهنه في اتخاذ القرارات. وبالفعل، أمام المخاطر البيئية التي طالما أُنكرت أهميتها أو قُلِّل من شأنها، انكفأنا في البداية إلى سلوكات قوامها الخوف والرفض، أو المناداة اللاعقلانية بحياة "طبيعية"، لن تُسهم إلا في ازدياد حجم المخاطر التي نتعرض لها"، ص 16. ولو أن تدخلات العلماء والحملات الدولية، أظهرت استجابة معرفية وإدراكية وإلى حد ما سياسية لذلك النمط من المخاطر.
الإنسان المُبتَكِر
يقول تورين "إنه التاريخ، ... يشرع التاريخ أمامنا عالماً مبتكراً وفي تبدل دائم، لكنه أيضاً عالم ندمره بأيدينا، فيكشف أمامنا حقيقة قوامها ألا طبيعة أخرى لدينا سوى ابتكار التاريخ. إنما نحن كائنات طبيعية ولا ريب، لكننا أيضاً كائنات مبتكرة ذاتها، وتحولاتها وتاريخها". ص13.
يقول تورين: "من المعيب ألا يُدرك المرء أن العالم الذي ندعوه حداثياً توقف منذ زمن طويل عن كونه عالم مخلوقات مبتكرة وأصبح عالم مبتكرين، وأنه ليس عالم علماء ومهندسين وأعضاء حزبيين أو نقابيين فحسب، بل أكثر من ذلك، هو كون من وعي وقناعات وفن وكلمة. عالم يطفح البشر المبتكرون حيوية ونشاطاً ويزدادون تنوعاً أكثر بكثير من قوات حفظ الأنظمة أكانت شمولية أم مالية أم جماعاتية". ص18.
يتساءل تورين: لماذا نعرض عن تجاربنا كمبتكرين ومحررين فلا نرى أنفسنا إلا ضحايا في حين أن عالم العمل يتحول بدوره من التكرار نحو الاتصال والتجديد؟". ص19. ويضيف –في معرض الشرط- "لن يكون هناك إصلاح اجتماعي وإنعاش سياسي ما لم نكن على ثقة بقدرتنا على الابتكار، وبالحقوق التي نلناها بوصفنا مبتكرين. إن فكرة الحداثة لا تقوم عل الثقة بالعالم وبالآلات، بل بنا، بصفتنا مبتكرين ومحررين". ص19.
دخل العالم مع انهيار أو تدمير الأنظمة الشمولية مرحلة من الفوضى واللا يقين، وقد أسفرت تقانة المعلومات والاتصالات الجديدة "عن أنماط جديدة للسلطة والهيمنة وتهدد حتى أسس ما دعوناه الديمقراطية وحقوق الإنسان". وعلينا "ليس فقط أن نتقنع أنفسنا بأننا نستطيع الحد من اللا مساواة، بل أن نعطي الأفضلية لتنوع الأصوات الداعية إلى المضي قدماً، ... وأن نرفض بالعزم نفسه عقلية الهوية والجماعة التي لا تتجزأ عن منطق الإقصاء والامتياز". ص19-20.
يقول تورين إن بعض "الخبراء" يسعون لإقناعنا بأن التقانات الحديثة تفضي إلى سلطات جديدة وعلاقات اعتمادية جديدة، وإن النصر المفاجئ الذي حققه هذا الفاعل على النظام، يمثل "خروجاً من الحداثة، وسقوطاً حراً في ما بعد الحداثة"، إلا أن ذلك "حكم قانط سيشحذ هذا الكتاب كل قواه للوقوف ضده". ص22.
الحداثة: الممارسات والـتأويلات
"أعرف الحداثة بإرادة وقدرة مجتمعات معينة على ابتكار ذاتها وتحويلها، وتدميرها أيضاً، نحو الأفضل والأسوأ معاً". ص 26. وتصير الحداثة فائقة "عندما بصير الحداثيون في المقام الأول على وعي بأنهم كذلك، ويحركهم الوعي بما أسمّيه كرامتهم بوصفهم ذواتاً إنسانية مبتكرة وحرة ومتساوية بينها". ص 30.
"لا حداثة ممكنة من دوت احترام المعرفة والبحث والابتداع، ومن دون احترام الحقوق الإنسانية الأساسية التي يجب أن تكون في المرتبة الأولى". كما أن الصراعات الاجتماعية أمر لا بد منه "للحيلولة دون انتصار التعسف". ص38.
يتحدث تورين عن تحليل شامل للمجتمعات الحداثية بوصفها مجتمعات "مبتكرة للتغييرات التاريخية بواسطة الإبداع والاستثمار، ومن ثم بواسطة تركيز الموارد والقوة بما فيها القوة المادية"، ما من شأنه أن "يحدد واقعاً شاملاً ويستتبع أيضاً النتيجة التي تؤكدها المعاينة التاريخية على نطاق واسع، والقائلة بازدياد كلي للقدرة على الفعل الذي تمارسه المجتمعات على ذاتها، الأمر الذي يبرر تسمية المجتمع الذي ندخل إليه بـ"مجتمع الحداثة الفائقة". ص40.
صحيح أن الحداثة "قد تفضي إلى كوارث"، مثل الحروب والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والصحية وغيرها، ومنها مثلاً الحرب السورية. ص40، و"لا أحد يمكنه أن يؤكد على وجه اليقين أن المجتمعات الأكثر حداثة ستنجح في نهاية الأمر بالبقاء على قيد الحياة، حتى إن كنا على وعي تام بأن مستقبلنا منوط بنا وبقدرتنا على الفعل". ص 41.
"يعطي الليبراليون كمثل [جون] رولز الأولوية لمطلب المصلحة العامة للمجتمع، في حين أنني [الكاتب] أُلح على أولوية الحقوق الكونية لكل فرد. والفرق أساسي في نظري بين مطلب الحقوق الإنسانية والأساسية، بصيغته النهائية التي صاغها واضعو "إعلان حقوق الإنسان"، وبين المطلب الذي يمنح الأولوية للمصلحة العامة وبقاء المجتمع في المقام الأول على حساب صور اللا مساواة التي قادت إليها الحداثة أو طورتها في كل مرة من مراحلها". لكن "الدفاع عن المجتمع" و"تحقيق التوازن ... لا يمكن أن يكون إلا بتأكيد كونية حقوق الإنسان، ... لا في الدفاع عن المصلحة العامة التي أرى فيها في معظم الأحيان دفاعاً عن المُهيمِنِين لا المُهَيمَن عليهم". ص 42.
يقول تورين "إن الحداثة خير، لأنها تفسح المجال لولادة الذات ونضجها. وأفضل تعريف للشر هو نزع التذوت، وذلك بوصفه هدماً للذات لمصلحة منظومة ما، يسهل فيها على القوى المهيمنة التماهي مع المصلحة العامة أو "الخير العام"، وهو مصطلح يلفه النفاق، ذلك أن الخير العام إن هو في واقع الأمر إلا مصلحة الأغنى، شأنه شأن تقديس الملك أو الجمهورية، الذي حُدِّد بوصفه سلطة للشعب". ص 44.
إن الحداثة هي الجواب على أسئلة الوجود اليوم، و"محكوم عليها بالنجاح، لكن بإثارة القلق أيضاً". ويمكننا نفترض أن مستقبلنا سيكون صناعياً فائقاً، ألات وأتمتة وتدفقات، وهجرة، وتكنولوجيا وتسلية، الخ إلا أن هذا لن يقود إلى "أي صنف جديد من المجتمعات، إنما إلى انفجار سيندلع بفعل تنامي أنماط اللا مساواة"، .. وإفقار الشعب، والحركات الاحتجاجية والتوترات.
"لقد اختلفت التطمينات وأنواع الحماية التي كانت الأديان والأعراف والمؤسسات تتكفل بها، وما عاد البشر ينجذبون إلى غير البحث الحر عن ذاتهم. يرتابون بأمتهم ومؤسساتهم، وحتى بجنسهم، بل إنهم باتوا يشعون بأمان أكبر في لا يقينية اختلاط الأجناس مما في الحدود الفاصلة والواضحة التي تنجم عن الهوية". وهكذا، فقد "حلّت الذات محل الجماعات مثلما حلّ البشر كأفراد محل الإنسانية ككل، والشبكات الاجتماعية محل الأحزاب السياسية، إلا عندما يتعلق الأمر بتسيير بعض المهمات ذات الطبيعة المادية، مثل تنظيم الانتخابات". ص90.
في التذوت
"التذوت هو تماهي فرد أو مجموعة مع هيئة الذات التي تتطابق مع حضارتهم وممارساتهم، مثلما أن التنشئة الاجتماعية هي تماهي فرد أو مجموعة مع معايير وطرق تنظيم الحياة الاجتماعية زمانياً ومكانياً". ص115.
يضيف الكاتب: "إن سيرورة التذوت هي وعي الفرد أو المجموعة بالحقوق الأساسية، أي الحقوق الكونية للذات الإنسانية، التي أوجزها كما يلي: الحرية والمساواة والكرامة". ص 115.
وفي المقابل، يتحدث تورين عن "نزع التذوت"، ص 128، بوصفه سلوكاً أو اتجاهاً مضاداً للأنسنة والديمقراطية، بالإشارة إلى "داعش" مثلاً، والفواعل والتنظيمات المتطرفة الدينية أو القومية الخ في غير مكان من العالم. ويعود للحديث عن ظواهر مثل الشعبوية، بوصفها قوة مناهضة لـ"التذوت"، و"حركات مضادة"، ويتحدث عن الحركات الإسلاموية والظاهرة الجهادية وجماعات المسلمين في ضواحي المدن الكبرى في أوروبا، مثل باريس. ص 149.
يقول تورين: "ما عدنا نشعر بالتزام تجاه القضايا والخيارات والأفكار. لكن يأسنا من أنفسنا لم يبلغ أقصاه بعد، ويزداد شعورنا بأن اليد التي لا نرفض الإمساك لها، والنظرة التي لا نتمنع عن مبادلتها بنظرة منا، والوجه الذي نصغي إلى ندائه، هي التي تبعثنا من حطام التزاماتنا التائهة وتضعنا من جديد على درب الانغماس في الاضطلاع بمسؤوليتنا". ص 147.
يضيف، وقد يكون محقاً بنظر كثيرين في المنطقة العربية وربما أفريقيا وآسيا وغيرها: "في سياق وضعنا ككائنات حداثية فائقة، ما عدنا نشعر بالالتزام تجاه نموذج أو قائد أو حزب، ولم يعد في وسع التزاماتنا أن تتأتى إلا من وعينا بمسؤوليتنا، ليس إلا. هل ما زلنا قادرين هل سماع ما يقوله ضميرنا عندما يرى هذا الرجل أو تلك المرأة أو ذاك الطفل هم من البشر، وهم مثلي، ذوات إنسانية؟". ص147.
برزت حركات احتجاج مثل "احتلوا" في أميركا، وحركات في إسبانيا وفرنسا وألمانيا واليونان والدول العربية وغيرها من المجتمعات والدول في العالم، إلا أنها حركات "لا أهمية لها لأنها تندرج ضمن المبادرات والصراعات الداخلية لمجتمع ما، ... لذا يتحتم علينا في مطلع القرن الحادي والعشرين، ... أن نبحث في أصغر الحركات الاجتماعية –وفي أشد الحركات الاجتماعية المناهضة فظاعة- عن طبيعة المشكلات الحضارية التي لا يقوى السياسيون والمؤسسات والمنظمات على حلّها". ص153.
مجتمع الحداثة الفائقة
إذا كان العالم الحداثي انتقل من عالم المواطنين إلى عالم العمال، ومن الفردي إلى الاجتماعي، ومن الحرية الفردية إلى الحقوق الاجتماعية، ومن السياسي إلى المجتمعي. فماذا عن الآن؟ يقول تورين: "مازال الوضع ملتبساً، ومع ذلك علينا الاعتراف بأننا انتقلنا من الكائن الاجتماعي ومن الفعل الجماعي إلى الذات الشخصية، أي إلى وعي الذات بذاتها بوصفها مبتكرة للعوالم التخيلية وللكلمة والصور بالإضافة إلى ابتكارها التقانات. لقد تحول الإنسان المبتكر إلى إنسان مبتكر، وعزلت الذات القابعة فيه روحه وعقله وصولاً إلى كامل جسده ومجمل انفعالاته وعواطفه". ص169.
"هل سنرى انتشاراً ملزماً للحداثة الفائقة في جميع أصقاع العالم؟ نعم، وعلى نحو أسرع لكثير من انتشار التصنيع الذي شهده العالم سابقاً. هل ستتخذ نمطاً واحداً أينما حلّت؟ بالطبع لا. وستختلف بيرمنغهام عن ديترويت، وباريس عن لندن، والمكسيك عن كندا". ص181-182.
ويرى الكاتب أن انتشار الحضارة الجديدة أو الحداثة الجديدة يختلف بين مجتمع وآخر، ويعود ذلك إلى "ثلاث قوى تمييزية كبيرة" تتمثل في: اختلاف نمط التحديث، واختلاف مدارك فواعل السياسة، واختلاف "أنماط المقاومة" في كل مجتمع. ص182.
الإمبراطورية
يتحدث تورين عن الإمبراطورية، وهو في هذا يساير مايكل هارت وأنطونيو نيغري، ولو أنه لا يذكرهما، بوصفها نمط جديد من السلطة، حيث تميل في عصر الحداثة الفائقة للتأثير في المحيط والعالم، بتوسل فواعل وأدوات ومقولات ثقافية واتصالية وهوياتية وغيرها. ويضرب على ذلك حالة الصين، وهي اليوم الإمبراطورية الجديدة الأقوى، وهو أمر تقر به جميع بلدان العالم". ص189. والصين دولة قوية تحت حكم الحزب الشيوعي، فيما تتراجع أميركا أو تتخلى آنياً عل الأقل عن "الحلم الأميركي"، ص190.
يقول تورين إن باراك أوباما تخلى عن الانخراط الأميركي في سوريا، "تاركاً المجال مفتوحاً أمام روسيا لقيادة فلاديمير بوتين الذي قدم، بدعم من إيران، دعماً حاسماً للرئيس السوري بشار الأسد". ص190. يضيف: "إن حالة إيران هي الأكثر مدعاة للاستغراب، فقد أصبحت قوة إيديولوجية عالمية منذ الإطاحة بالشاه، وريث "الثورة البيضاء" التي أشعل فتيلها والده، والتي جاء محاكاة لتغريب تركيا على يد أتاتورك". ص 190.
ويتحدث تورين عن مفارقة "الإمبراطوريات الجديدة"، ذلك أن بعض البلدان صغيرة الموارد والمساحة "تمارس نفوذاً سياسياً وثقافياً عالمياً، في حين أن قوى اقتصادية كبرى، مثل ألمانيا أو اليابان، لا تقوم بهذا الدور". يقول: إن "المملكة العربية السعودية تلوح كـ"إمبراطورية جديدة"، لكنها متأخرة على طريق التحديث كي تتطلع للقيام بهذا الدور فعلياً. في المقلب الآخر، تتحول تركيا، التي كانت تطلب في ما مضى الدخول إلى أوروبا، إلى سلطة شاملة تعلن إسلاميتها صراحة". ص 190. ويتحدث عن روسيا التي مكنتها مساعدة إيران وحزب الله على البدء بالتحول إلى إمبراطورية أورو-آسيوية" (أوراسية). ص191.
تجديد الديمقراطية
يتطلب تجديد الديمقراطية أربعة مرتكزات هي: "إعادة اكتشاف الفرد"، ص 196-198، و"استئناف التفكير في المسألة الأنثوية"، ص 198-202، و"مسألة اللاجئين والمهاجرين"، 203-206، و"إعادة تقديم ثيمات الديمقراطية والحقوق الإنسانية الأساسية" في البلدان النامية، والبلدان التي كانت تحت الهيمنة الاستعمارية، والبلدان التي تشهد نظم حكم تسلطية. ص 206-208.
ويقترح الكاتب طرائق وتوليفات أو مرتكزات لبناء الديمقراطية أو تجديدها، وتتمثل في النقاط الرئيسة الاتية:
- ثقة كل فرد بوجود مشروع شامل قادر على احتواء مشروعه الخاص داخل ميثاق وطني وديمقراطي. و"إدماج أكبر حجم ممكن من السكان في المجتمع والعالم الجديد، على أن يتمتع هؤلاء السكان بالحقوق الأساسية الأوسع نطاقاً، وبالإقصاءات الأشد محدودية".
- بالنسبة لـ"نمط تدخل الدولة في الفروع الرئيسة الثلاثة للتجديد الاجتماعي: البحث، والتربية، والصحة العامة"، فإن المطلوب "تحويل "الجهات الإدارية" إلى أدوات مشاركة اجتماعية معلنة بوضوح كهدف رئيسي".
- "الدفاع عن العمل على نحو يتخطى مجرد مكافحة للبطالة، بل يؤكد الاستمرارية التي لا بد من إعادة إنشائها بين المجتمع الصناعي ومجتمع الحداثة الفائقة". ص257.
الإسلام والإسلاموية
يقول تورين: "علينا أن ندافع عن حق المسلمين أو من اعتنقوا الإسلام في مشاركة كاملة اقتصادية وسياسية في فرنسا أو غيرها، وعلينا أن ندين الإسلاموية بوصفها حركة اجتماعية مناهضة ومعادية للتحديث وقمعية. أن ندافع عن المسلمين لأنهم كانوا في ما مضى مستعمَرين ومستغَلّين، وفي الوقت نفسه أن نحارب الحركات الاجتماعية الإسلاموية المناهضة، لعنفها ونزوعها التدميري". ص 222.
المركزية الغربية
يتحدث تورين عن "الحداثة المتجددة"، بوصفها مسألة إنسانية، لكنه يفعل ذلك انطلاقاً من "مرجعية غربية"، وكما لو أن المشكلة غربية، ثم كيف يمكن للغرب أن ينقذ نفسه والعالم الذي هو "عالمه"، بل إن جهده يركز على بلده فرنسا، بشكل رئيس وصريح. فهو لا يخفي أولوية فرنسا، ويكيل الثناء على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ويكرر ذلك في مواضع مختلفة.
الماركسية
يحضر ماركس في كتاب تورين بكيفيات مختلفة، ذلك أن التناقض والصراع بداهة تاريخية، بل وجودية، ص 182، لكن تورين يذكر ذلك، لا بوصفه ثيمة أو بداهة ماركسية أيضاً. ثم إن الكاتب يلاحق اليسار الماركسي في كل مكان ليقول إنه أخفق أو إنه بنى دولاً تسلطية أو نظماً شمولية –بتعبير حنة أرندت، التي يكيل لها مديحاً كبيراً- ولا يفوته التأكيد على أن الصين تحت حكم الحزب الشيوعي الخ، لكنه لا يذكر شيئاً عن أهوال الرأسمالية أو السياسات الأميركية أو الفرنسية في غير مكان من العالم. وهذا أمر غير مفهوم بالنسبة لخطاب يقول إنه يريد أن "يجدد الحداثة" بـ"إحياء" مقولاتها عن تحرير الإنسان والعالم، و"إعادة إنتاج" فكرة الذات وأنسنة العالم.
الصين
يتحدث الكتاب عن الصين في مواضع مختلفة، وهو إذ يقول إنها تشغّل موقعاً متقدماً في اقتصاديات العالم، وإنها "إمبراطورية جديدة"، في مقابل تراجع نسبي وراهن لأميركا، إلا أنه غالباً ما يوردها في سياق سلبي ورافض. (أنظر مثلاً: ص 180 و207)، وكذلك الأمر بالنسبة لروسيا.
في الختام
آلان تورين هو واحد من علماء الاجتماع المهمين، وله إسهامات معروفة لقراء العربية. وهو إذ يحاول قراءة أحوال العالم اليوم، ويريد "تجديد الحداثة" أو "الدفاع عنها" ضد مقولات أو دعوات "ما بعد الحداثة"، إلا أنه –في رأيي- لم يوفق في "التمييز" بين ما يدافع عنه، بزعم أنه متجدد، أي الحداثة، وبين ما يقول به أصحاب خطاب وتفكير "ما بعد الحداثة"، وخاصة في الموقف من ظاهرة الدولة والأمة والمجتمع والهوية، والصراع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، والعولمة الخ.
ويقع تورين في مأزق الموقف من أميركا، فهي بالنسبة له "المثال" و"المنوال" تقريباً في كثير من الأمور، (أنظر: ص 192). ولا يغيّر من ذلك توجيهه بعض الانتقادات لسياساتها أو إشارته إلى تراجعها النسبي في ميزان القوة والمعنى في العالم. وهو يؤكد بأنه تراجع آني أو مؤقت. لكنه يتحدث بانفتاح نسبي أيضاً –ولكنه مفاجئ- عن إيران وتركيا والهند بوصفها "إمبراطوريات جديدة".
الكتاب: الحداثة المتجددة: نحو مجتمعات أكثر إنسانية
الكاتب: آلان تورين
المترجم: جلال بدلة
بيروت: دار الساقي، 2020، 286 صفحة.