"زرتُ فلسطين": قراءةٌ جديدة للتاريخ الفلسطيني الحديث

"زرتُ فلسطين"كتاب ينذرُ بزوال "دولة" الاحتلال، فالمقاومة ليست مجرّد خيار للشعب الفلسطيني بل هي أساس نضالي تؤسس لزوال هذا الاحتلال و"دولته".

  • زرتُ فلسطين

تحت عنوان "زرتُ فلسطين"، وضمن ما يسمّى بأدب الرحلات، يندرج كتاب الصحافي الفلسطيني مهدي حنا الصادر عن دار الآن ناشرون وموزّعون (عمان 2022) تحت عنوان "المشاهدة الحيّة". إذ يبتعد كلّ البعد عن المذكّرات الشخصية، ولا يقترب من البيبلوغرافيا، بل يرصد مشاهداته التي لم تفارقه مذ زار فلسطين وهو في شبابه في ثمانينيات القرن الفائت، وهو ما أعاد فعلهُ بعد ذلك بسنوات. ويصف الكاتب منجزه على اعتباره قراءة جديدة في التاريخ الفلسطيني الحديث؛ حيث يسرد فيه تفاصيل زيارته لبلاده بعد غياب امتدّ لأكثر من سبعة وثلاثين عاماً. وهو في عام 2021 يعود للحديث انطلاقاً من مدينة القدس "مسقط رأسه" متناولاً أصل عروبتها وذلك الملف الذي يدور حوله الصراع العربي الإسرائيلي. ومنها باتجاه الريف في بلدة "الطيبة" والتي تقع شرق مدينة رام الله، حيث أصول عائلته وحيث الريف الفلسطيني الذي يشهد على صراع الفلاحين مع سلطات الاحتلال، والتي لا تتوانى عن الاستمرار في عرقلة مسيرة حياتهم. وهو بتلك المكاشفات يرصد وقائع الحياة الاجتماعية للفلسطينيين تحت سلطة الاحتلال، والكيفية التي توثّق صلاتهم بأرضهم على الرغم من سوداوية الواقع. ولا يقتصر فقط على قريته، بل يتعدّى في رحلته إلى وصف مدن الساحل الفلسطيني ويوميّاتها في مقاومة العيش تحت سطوة المحتلّ، وهموم الشباب فيها، وطاقاته الضائعة في النضال والوجود. 

يقول الكاتب: "أجبرت سلطات الاحتلال عائلتي على مغادرة مدينة القدس مع بدايات الاحتلال عام 1967 وحكمت عليهم بالنفي إلى خارج فلسطين...". من هنا يندفع الكاتب لرصد حياة الفلسطينيين حديثاً، إلى جانب الواقع الاقتصادي والصعوبات التي تقف في وجه تطوّره، ويسلّط الضوء على مراحل التطوّر في الحياة السياسية والحزبية منذ بدايات القرن العشرين وحتى اليوم. وعن السلطة الوطنية الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو، من غير أن يبتعد عن توثيق ارتباط الفلسطينيين بأرضهم في ظلّ التهجير القسري. ويتلمّس في رحلته التغييرات التي طرأت على مدن فلسطين في ظلّ الاحتلال، وكلّ الطاقات الفلسطينية المهدورة، والتي لها أن تبقي على أمل الدفاع عن الحقّ واسترداده.

يذكر الكاتب معاناة الاقتصاد الفلسطيني أيضاً، والمشكلات التي تتلخّص في عجز القطاعات كافة عن تلبية احتياجات الدولة. لذا كان النمو في الاقتصاد بطيئاً ومحكوماً بسياسات سلطة "دولة" الاحتلال. في حين جاء تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية في إطار مقيّد لها. وقد أثقلت سلطات الاحتلال كاهلها بمسؤوليات أكبر بكثير من الموارد والحيّز السياسي المتاح لها. لذا يقول الكاتب إنه لا يمكن أن نرى تحسّناً في أداء هذا الاقتصاد طالما الاحتلال قائم، والسلطة الوطنية محاصرة تماماً وتستخدم النظام النقدي نفسه. فظروف وسياسات "دولة" الاحتلال هي ما يتحكّم بهذا الاقتصاد، ليس ذلك فحسب، بل تساعد على تدهوره أيضاً. وذلك ضمن سياساتها لإفراغ الأرض من الفلسطينيين. 

فالاقتصاد الفلسطيني يعتمد على المنح من المجتمع الدولي لإعادة بناء البنية التحتية المحطّمة، ودعم بعض القطاعات الهشّة مثل التعليم والصحة. لذا لا يمكن لهذا الاقتصاد أن ينتعش من دون إنهاء الاحتلال. ومن أجل ذلك، يجب أن يستمرّ النضال، وأن تدعم السلطة الوطنية نضال هذا الشعب، وأن تسهم في وضع البرامج التي من شأنها أن تدعم صمود الشعب الفلسطيني وحقّه العادل في العيش في وطنه. وتساعد أيضاً على دعم المشاريع الصغيرة، ولا سيما الزراعية، وتسنّ القوانين الرادعة لقطع الأشجار، وتضع حداً لانتهاكات "دولة" العدو بهذا الخصوص، لا أن تقف بموقف المتفرّج وتشهد على الانهيار. يقول الكاتب: "كلنا يعرف أن إمكانيات السلطة محدودة، لكنها بالنتيجة قادرة على دعم نضال الشعب الفلسطيني، فهي سلطة وطنية بالدرجة الأولى ومهمّتها الرئيسة العمل مع الشعب الفلسطيني على إنهاء الاحتلال وليس العكس". 

ويختم مهدي حنا رحلته عبر محاولته النظر إلى فلسطين من منظار مختلف؛ إذ يجتهد في فهم التغيّرات التي طرأت على المجتمع الفلسطيني في ظلّ الاحتلال، بين ماضٍ قاسٍ لم ينقضِ بويلاته وآلامه بعد، وحاضرٍ شائك وواعد بمستقبلٍ أفضل. إضافة إلى اجتهاده في تحليل الواقع الفلسطيني الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بملفاتهِ الشائكة. بلا أدنى تجميل أو إطراء، يجسّد الكتاب صورة ملموسة واستقراء فيما يخصّ "دولة" الاحتلال غير الشرعية، ويشرح آلية استمرارها وديمومتها بناء على واقعها والصراعات الداخلية والتناقضات المتعدّدة والبراكين الخامدة التي ترقد فوقها. إلى جانب سبل إثارتها لتنفجر من جديد ويتفجّر معها البنيان الهشّ لهذه "الدولة" الزائلة. 

هي زيارةٌ تجدّد الأمل بمستقبل أفضل، وقد لا يطول انتظاره ما دامت فلسطين تنبت البذور الطيبة في أبنائها وبناتها. وتؤكّد الحقّ التاريخي للفلسطينيين في الوجود والحياة، وتمسّكهم بالأرض. ونستطيع القول إنّ الكتاب ينذرُ بزوال "دولة" الاحتلال، وإنّ الوجود الفلسطيني أقوى من كلّ الحملات والاستعمارات والويلات التي حلّت بهم. لذا فإنّ المقاومة ليست مجرّد خيار للشعب الفلسطيني؛ بل هي أساس نضالي تبنّى زوال هذا الاحتلال و"دولته". وهو ما يجب على السلطة الوطنية الفلسطينية أن تنهجه فيما يخصّ مطالب الشارع الفلسطيني، وألّا ترضخ للاستفزازات الإسرائيلية التي لا تجنح للسلم أبداً. لأنّ إرادة الشعوب أقوى من إرادة جلّاديها. وهذا الصراع الذي يعيشه الفلسطينيون له نهاية حتميّة؛ تتمثّل بقهر الاحتلال، وما مشروع الكيان الاستيطاني الاستعماري في فلسطين سوى خروج صارخ عن الأسس التاريخية والسياسية لقيام أيّ دولة شرعية. لذلك فإنّ زوال الاحتلال -في المستقبل القريب- لا بدّ من أن يكون حتميّة تاريخية.