"ذهب فلسطين الأخضر".. لماذا تطارد "إسرائيل" الزعتر؟
كما الزيتون، يحتل الزعتر مكانته عند الفلسطينيين. كيف تشن "إسرائيل" حملة على الزعتر وغيره من النباتات الفلسطينية؟ ولماذا؟
"إنا باقون ما بقي الزعتر والزيتون". يتداول الفلسطينيون هذه الجملة كلما أحيوا ذكرى يوم الأرض، أو كلما أوغل الاحتلال في تدمير بيوتهم والسطو المسلح على أراضيهم.
وإذا كان للزيتون، شجرة، وغصناً، رمزيته، تاريخياً وسياسياً، عند الشعب الفلسطيني، فإن الزعتر لا يقل عنه مكانة، إذ يحضر في عدد من قصائد الشعراء الفلسطينيين، كمحمود درويش وتوفيق زيّاد وغيرهما، فضلاً عن شغله حيزاً مهماً في الموروث الثقافي الشعبي.
مركزية الزعتر ومكانته في حياة الفلسطيني وتراثه وهويته، جعلتا هذا النبات يحمل اسم "ذهب فلسطين الأخضر". ولأن الاحتلال يعمد دائماً إلى طمس كل ما يرتبط بالهوية والتاريخ الفلسطينيين، فلقد فرض إجراءات عقابية على من يزرع أو يحصد الزعتر، وصلت إلى حد إطلاق أعيرة نارية حيّة على المزارعين ومصادرة محصولهم ودوابهم وفرض غرامات مالية باهظة عليهم، بحجة "حماية الطبيعة والمحافظة على النباتات البرية".
منذ عام 1948، يجرّم "القانون الإسرائيلي" في الأراضي المحتلة قطف العكوب والزعتر البري والميرمية وغيرها من النباتات، في إطار ما عرف حينها بقانون "النبات المحمي"، بزعم أن قطف هذه النباتات "يسبب أضراراً للطبيعة".
وبعد قرار أصدرته "إسرائيل" عام 1977، فإن الزعتر أصبح "نبتة محمية"، كما تعد أي عملية قطف أو تخزين أو جمع وبيع لها مخالفة جنائية، يقدَّم صاحبها إلى المحاكمة ويغرم مالياً. كما فرضت حكومة الاحتلال في عام 2005 "قانوناً" يقضي بأن العكوب من "النباتات المحمية" التي يُمنع قطافها والإتجار بها، وقد يواجه المخالف المحاكمة أو دفع غرامة مالية، وذلك قبل أن تنضم نبتة الميرمية إلى قائمة النباتات المحظورة.
قرارات المنع تلك، وإن تباينت "مبرراتها"، يظل هدفها واحداً، هو تفكيك علاقة الفلسطيني بأرضه وهويته، وإعطاء السلطة على الأرض ومواردها للاحتلال الإسرائيلي.
العنزة السوداء
منذ النكبة، ازدادت المخططات "الإسرائيلية" مأسسة للسيطرة على الأراضي المحتلة ومواردها والتضييق على أصحابها، معتمدة في ذلك على توظيف "تبريرات" علمية وبيئية في أحيان كثيرة.
لقد سن الكنيست عام 1950 ما عُرف بــ "قانون حماية النباتات: أضرار الماعز"، والذي لقّب بـ "قانون العنزة السوداء" (الماعز الذي ربي في الكيبوتس والموشاف كان أبيض اللون)، باستخدام حجج بيئية مفادها أن رعاية الماعز الأسود تسبب أضراراً بيئية. هكذا، فرض الاحتلال تقييدات قانونية منعت السكان الفلسطينيين من الاستمرار في حيازة الماعز الأسود ورعايته. وفي عام 1976 شكلت "الدورية الخضراء"، والتي عُرفت بتطبيق وحشي لقانون الماعز الأسود في النقب، رافقته خروقات حقوقية كثيرة.
أما نبتة الكزبرة، فغدت رمزاً للسياسة الإسرائيلية في الحد من إدخال الطعام لسكان قطاع غزة في ظل الحصار المفروض عليه، والمستمر منذ أكثر من عقد. وكشفت سياسة "الخطوط الحمراء" التي انتهجتها "إسرائيل"، في الفترة 2007 - 2010 تحديداً، كمية المأكولات المسموح إدخالها للقطاع وفق معادلات حسابية حددت عدد السعرات الحرارية المتاح كدالة على عدد سكان القطاع، وفق الجيل والجنس من جهة، والكمية الأدنى من السعرات الحرارية المطلوبة للشخص الواحد من جهة ثانية من أجل إبقائه في قيد الحياة.
وتتخذ إضرابات الأسرى عن الطعام، في المضمون والتوقيت، سلاحاً فلسطينياً فعالاً في مواجهة قمع المحتل وسيطرته على الأجساد والطعام.
ويرى الناشط الحقوقي ربيع إغبارية، في مقاله البحثي بشأن هذه المسألة، أن "القانون الإسرائيلي" الخاص بالنباتات الفلسطينية يأتي في سياق استخدام الطعام والطبيعة أدوات للسيطرة على الإنسان الفلسطيني، إذ يشكل المنع القانوني المفروض على قطاف الزعتر والعكوب مثلاً، محوراً إضافياً يحاول من خلاله الاستعمار تفكيك علاقة الفلسطيني بأرضه وهويته وإعطاء السلطة على الأرض ومواردها للاحتلال.
ويضيف إغبارية أن "المنع القانوني"، الذي فُرض على قطاف الزعتر في الداخل المحتل منذ عام 1977، لم يحظَ باهتمام وبحث كافيين حتى الآن. أما بعد النكبة، فتسلمت مؤسسة "كاكال" مهمة تشجير الأرض بهدف محو ما تبقى من آثار القرى المهجرة.
ويقول اغبارية إن: "القانون الذي يمنع قطف النبات البرية، ومن ضمنها الزعتر والعكوب والميرمية، يلخص بحيثياته وتطبيقه مأساة النكبة عام 1948، إذ يتم أولاً انتزاع الأرض ومصادرتها من سكانها الأصليين، ثم يجرم استخدامها بأبسط المفاهيم".
ويوضح أنه "عند التدقيق في الأسس القانونية والعلمية، يظهر أنه لا يوجد استناد متين لهذه الادعاءات، وأنها اطالما استخدمت لتبرير فرض غرامات باهظة على الفلسطينيين بصورة حصرية، ولا يمكن، في أي حال من الأحوال، قراءة انعكاس هذا القانون خارجاً عن السياق الاستعماري العام، بما يتعلق بسياسات الأرض والطبيعة: من جهة، يدمر الاستيطان الإسرائيلي المشهد الطبيعي، ومن ضمنه آلاف أشجار الزيتون الخاصة بالمزارعين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، من دون أي رقابة. ومن جهة أخرى، يتم تجريم الإنسان الفلسطيني تحت راية حماية الطبيعة ذاتها".
"اليد الخضراء" تقاوم وتوثق
في فيلمها التسجيلي الروائي، "اليد الخضراء" (2022) للمخرجة الفلسطينية جمانة مناع، والذي حاز جائزة في الدورة الــ 76 من "مهرجان كان السينمائي"، توثق مناع "النزاع" المحتدم بين السلطات الإسرائيلية، المسؤولة عن الحدائق والمحميات الطبيعية، وبين الفلسطينيين، ولاسيما كبار السن منهم.
ويبرز الفيلم مقاومة الفلسطينيين، هؤلاء الناس المقموعين في عاداتهم وثقافتهم، من خلال معايشة يومياتهم، ومعاينة ردود أفعال بعض قاطفي الأعشاب البرية من عدم اكتراث لقرار المنع.
وفي البحث القانوني الذي أعده إغبارية، يظهر من خلال محركات البحث عن قرارات المحاكم "الإسرائيلية"، أنه بين عامي 2004 و2016، بتت المحاكم في 61 قضية بشأن العكوب والزعتر، منها 40 قضية بشأن قطاف الزعتر أو حيازته، و21 قضية بشأن قطاف العكوب أو حيازته. بالإضافة إلى ذلك، شمل البحث حالتين قدمت فيهما لوائح اتهام على خلفية قطاف نبتة الميرمية (القصعين). وكان اللافت أنه في جميع هذه الحالات، كان "المتهمون" و"المتهمات" فلسطينيين.
ويقول المحامي إغبارية إنه على الرغم من أن لائحة "النبات المحمي" تشمل عشرات أصناف النبات، وعلى الرغم من أن استطلاعات تشير إلى أن "الإسرائيليين" يقطفون أزهاراً برية مثل شقائق النعمان، والبرقوق، وزهرة الربيع، فإن محركات البحث لم تُظهر أي حالة أخرى لتقديم لائحة اتهام، عدا عن قطاف الزعتر، أو العكوب، أو الميرمية.
ويقول إغبارية إنه "بعد جهود حثيثة وضغط كبير قام به مركز عدالة، عدلت سلطة الطبيعة "الإسرائيلية" قانون النبات المحمي، وذلك بقطف محدود لنبتة الميرمية والزعتر والعكوب في مناطق معينة، مع التركيز على القطف بكميات تجارية، لكن لا يوجد شيء واضح حتى اللحظة، والقانون القديم الذي يجرم القطف ما زال يطبق إلى اليوم".