"خطة الباراغواي".. كيف فشلت "إسرائيل" في تهجير 60 ألف غزي؟
سراً وعلانية، تواصل "إسرائيل" مساعيها لتهجير سكان غزة. ماذا تعرفون عن "خطة الباراغواي" التي أطلقت عام 1969؟ ولماذا فشلت؟
نقلت الصحافة "الإسرائيلية" عن مصادر رسمية قبل أشهر، أن حكومة الاحتلال برئاسة بنيامين نتنياهو، تتفاوض منذ فترة مع دول عديدة بينها الكونغو لــ "توطين" سكان غزة، وهو ما تطلق عليه "هجرة طوعية" و"حلاً إنسانياً" للأزمة في القطاع.
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تفكّر فيها حكومات "إسرائيل" بهذه الطريقة. فالمدقق في التاريخ سيجد أن هذا المسعى ليس وليد اللحظة، بل يمتد إلى عقود ماضية تواصل فيها "إسرائيل"، سراً وعلانية، سياسة التهجير للاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وأملاكهم.
ففي العام 1969، أي بعد سنتين من هزيمة العرب في حرب العام 1967، ونجاح "جيش" الاحتلال بالسيطرة على غزة، أبرمت الحكومة "الإسرائيلية" برئاسة غولدا مائير اتفاقاً مع دولة الباراغواي لاستقبال 60 ألف فلسطيني هجّرهم الاحتلال ضمن ما اصطلح على تسميته بـــ "خطة باراغواي". بقيت الخطة سريّة حتى مطلع العام 2020، حيث كشف عنها الصحافي إيران شيكوريل، وهو أحد كبار المراسلين في "هيئة الإذاعة العامة الإسرائيلية"، بعد اطلاعه على أرشيف محاضر حكومة الاحتلال التي رُفعت عنها السرية.
صفقة الشيطان
بحسب محضر الاجتماع المنعقد في أيار/مايو عام 1969، والذي حضرته مائير ونائبها، ورئيس الموساد الأسبق تسفي زامير، جرى الحديث عن الصفقة التي دبّرها الأخير مع السلطات في الباراغواي، وتقضي بتهجير 60 ألف فلسطيني، (نحو 10% من سكان غزة في ذلك الوقت) إلى الباراغواي خلال 4 سنوات، وجرى التصويت بالإجماع على تنفيذ الصفقة.
وجاءت الصفقة بينما كانت الباراغواي دولة تنهشها الأزمات السياسية والاقتصادية، ويحكمها ألفريدو ستروسنر ماتياودا (حكم بين 1954 و1989)، والذي كان مسؤولاً عن مقتل الآلاف من سكان بلاده بمن فيهم السكان الأصليون، وهو ما لم تكن "إسرائيل" تعتبره عقبة كبيرة. فقد تعاونت في تلك الفترة مع الدول القمعية في أميركا اللاتينية، لمنع المد اليساري تنفيذاً لتوجيهات الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة.
لكن الأزمة الحقيقية التي تجعل من هذا الاتفاق بمثابة فضيحة، ونفهم لماذا بقي سرياً طوال هذه المدة، هي أن الباراغواي كانت ملاذاً آمناً لمجرمي الحرب من النازيين، ومنهم الطبيب جوزيف مينجيل، أو "ملاك الموت"، الذي نفذ تجارب علمية قاتلة على اليهود وزج بهم في غرف الغاز، وحصل على الجنسية الباراغوايانية باسمه الحقيقي في العام 1959.
الوثيقة السرية
بحسب الصحافي "الإسرائيلي" إيران شيكوريل، فإن أحد البنود غير المنصوص عليها في الاتفاق هو توقّف "إسرائيل" عن تعقّب القيادات النازية في الباراغواي، وهو ما يفسر حرص "إسرائيل" على التكتم عن الخطة. ذلك أن كشفها قد يسيء إلى "سمعتها" بوصفها "وطناً" حامياً ليهود العالم، وخاصة للناجين من "الهولوكوست" وعائلاتهم.
وتنص الاتفافية بين الطرفين على أن تتحمّل "إسرائيل" تكاليف سفر الفلسطينيين الذين سيتم تهجيرهم إلى الباراغواي، وتمنح كل شخص 100 دولار، إضافة إلى 33 دولاراً تتقاضاها الدولة اللاتينية عن كل فلسطيني.
وفي وقت توقيع الصفقة دفعت "إسرائيل" 350 ألف دولار لتغطية تكاليف سفر وإقامة 10 آلاف مهاجر فلسطيني كبداية، فيما كان المبلغ الكامل الذي ستدفعه "إسرائيل" هو 33 مليون دولار. ووافقت الباراغواي حينها على منح ما يصل إلى 60 ألف فلسطيني الإقامة فور وصولهم إلى البلاد، ثم منحهم الجنسية في غضون 5 سنوات.
بموجب الخطة المذكورة، عملت "إسرائيل" على الترويج للهجرة بين سكان غزة من خلال شركة سياحة، بشكل تبدو معه وكأن مغادرة الغزيين للقطاع طوعية.
ولأن استجابة الفلسطينيين كانت ضعيفة للغاية على الرغم من ارتفاع نسب البطالة بعد انفصال اقتصاد غزة عن مصر نتيجة الاحتلال، اضطرت "إسرائيل" إلى المبالغة في الوعود الكاذبة، وإيهام بعض الغزيين بأن هجرتهم ستكون إلى البرازيل وليس الباراغواي، وأنهم سيتملّكون أراضي زراعية وغيرها من المغريات المالية.
فشل خطة التهجير
لم تنجح الخطة كما ظن المسؤولون الإسرائيليون، بل على العكس، انتهت بمأساة. إذ من بين 60 ألفاً أراد الاحتلال تهجيرهم، خرج من قطاع غزة أقل من 30 شخصاً، وهم، بحسب الشهادات، ممن غرّر بهم.
وكانت تجربة هؤلاء "المهاجرين" شديدة القسوة في بلاد بعيدة وفقيرة لا يعرفون لغتها ولا يتوفر لهم فيها أي دعم، ووجدوا أنفسهم بعد وقت قصير بلا مال ولا وثائق سفر. هكذا، وبتاريخ 4 أيار/مايو عام 1970، تحرّك فلسطينيان في عاصمة الباراغواي، أسونسيون، مسلحين بمسدسات. دخلا السفارة "الإسرائيلية" وقتلا موظفة هناك وجرحا أخرى.
هذه الحادثة كانت سبباً في إنهاء العمل بــ "خطة الباراغواي"، رغم ادعاء "إسرائيل" بأن القتل كان عملاً "إرهابياً" مخططاً له من منظمة التحرير الفلسطينية وغايته اغتيال السفير الإسرائيلي في الباراغواي.
يمكن القول بثقة إن الفلسطينيين الذين لم يغتروا بالوعود "الإسرائيلية" الكاذبة، اختار أغلبهم الأرض على الرحيل. وهو ما يثبتونه اليوم في غزة، رغم كل المآسي وحرب الإبادة التي تشنّ ضدهم منذ عملية "طوفان الأقصى".
كما أن تفكير الاحتلال في نقل فلسطينيين من غزة مستوحى من خطط النازية تجاه اليهود، أو ما عرف بــ "خطة مدغشقر". وهو الاقتراح الذي قدّمته الخارجية الألمانية عام 1940 بنقل يهود أوروبا إلى جزيرة مدغشقر، ويثبت تشابهاً بنيوياً بين النازية والصهيونية. إذ يشترك كلاهما بحسب الباحث عبد الوهاب المسيري في موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية"، في العنصرية وشعور كل منهما بأنهما جنس متفوّق، يسعى إلى "دولة" قومية بعرقية نقية، ترى الآخر في مرتبة أدنى، وتسعى إلى تهجيره أو إبادته.