"تريد تدمير لبنان".. ماذا رأى مفكّرون لبنانيون مسيحيون في "إسرائيل"؟
كيف نظر مفكّرون مسيحيون لبنانيون إلى المشروع الصهيوني و"إسرائيل"؟ وأيّ خطر تشكّله "إسرائيل" على الكيان اللبناني وفق رؤيتهم؟
ثمة اعتقاد راسخ بأن النُخب المسيحية اللبنانية المتنوّرة توجست شراً من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والتي بدأت طلائعها بدءاً من العام 1840، بحسب الباحث الفلسطيني، رفيق النتشه، في مؤلفه "الاستعمار وفلسطين" (1986). وقد تتابعت بمباركة بريطانية، ومن ثم قيام دولة احتلال تجاور بلادهم.
وقد سبق أن نشر الصحافي والباحث اللبناني، توفيق شومان، نصاً تناول فيه أصداء هذه الهجرة لدى بعض الصحافيين والمفكرين اللبنانيين المسيحيين [1]. ويبدو أن فاتحة الوعي الجديّ بمخاطر المشروع الصهيوني عبّر عنها ابن الجنوب اللبناني نجيب عازوري (1873 - 1916) في كتاب "يقظة الأمة العربية" (1905).
أمين الريحاني: مصير فلسطين
رأى المفكر اللبناني عفيف فراج (1942- 2004) أن أمين الريحاني (1876 - 1940) كان من أكثر رجال النهضة العربية انشغالاً بقضية فلسطين، فالباحث في صفحات مجلة "الجامعة"، على سبيل المثل، التي أصدرها فرح أنطون (1874- 1922) بين الأعوام 1899 و1910 في مصر، لا يعثر على أي ردود فعل على موجات الهجرة اليهودية المتتابعة إلى أرض فلسطين، وكذلك الأمر عند يعقوب صروف (1852- 1927) وشبلي الشميّل (1850- 1917)، المنشغلين بمسائل العلم والثقافة.
ولأن الريحاني من أنصار الدولة العربية المستقلة، فقد هاله استخدام الصهيونية للدين: "إن الصهيونية، بإدخالها الروح الرجعي الديني إلى فلسطين، تقطع مسار الفلسطينيين والعرب الذين كانوا، وما زالوا، يجاهدون ليحرروا قوميتهم من كل مأرب طائفي ومن كل أثر للتعصب الديني، فهم يتطلعون بقوة إلى الأمام، لكن اليهود، بالرغم من تقدميتهم (المقصد أنهم أكثر تقدماً من العرب تنظيماً وادارة)، يسيرون في الاتجاه المعاكس، فهم يرجعون، باسم الصهيونية، إلى ما وراء العصور الرومانية".
ودفاعاً عن القضية، كتب الريحاني 52 محاضرة ألقاها بالإنجليزية في شتى المنتديات الأنجلوسكسونية، وعدداً من الرسائل التي بعث بها إلى الملوك العرب، ومقابلات مع شخصيات سياسية كان أبرزُها لقاءه الرئيس الأميركي روزفلت عام 1917، واللورد بلفور عام 1920، وهوفر عام 1922، ورئيس الحكومة البريطانية ر. ماكدونالد عام 1929، والمندوب السّامي البريطاني في القدس عام 1936.
وصدرت نصوص المحاضرات في كتاب حمل عنوان "مصير فلسطين" (1967). وينتهي فراج في قراءته للريحاني بأنه "كان رؤيوياً بقدر ما تبصَّر مخاطر الحركة الصهيونية على سلام الشرق الأوسط والعالم، وقدرتها على جرّ قوى عالمية كبرى بوزن الولايات المتحدة إلى دائرة صراع يحمل نذر حرب بلا حدود بين الأديان السامية الثلاثة" [2].
وقد بيّن الريحاني أن أصل الصراع الإسرائيلي - العربي هو الصهيونية الهادفة إلى خلق وطن يهودي، وطالب لحل هذه المشكلة بعدة أمور، منها: إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ووقف بيع الأراضي الفلسطينية لليهود، وإقامة معاهدة عادلة بين اليهود والفلسطينيين [3]. أفكاره هذه كانت منسجمة مع نظرته الإنسانية الراغبة في إقامة توليفة تجمع بين حضارتي الشرق والغرب عبّر عنها في كتابه الشهير "كتاب خالد" (1911).
كمال يوسف الحاج: لا شرعيّة الوجود الصهيوني
كتب الأديب اللبناني يوسف الحاج (1880- 1955) في كتابه "هيكل سليمان أو الوطن القومي لليهود"، الصادر عام 1934، قبل قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي: "إن فلسطين قادمة على هاوية هائلة من الخراب، [وستكون] مَنقَعاً كبيراً من الدم سيلطخ أذيال الشرق والغرب"[4].
وقد تابع الفيلسوف اللبناني كمال الحاج (1917- 1976) نهج والده وأخذ على عاتقه مهمة فضح الصهيونية، فنشر في العام 1972 "الصهيونية بين تاريخين". وسبق له أن صرّح في العام 1959 لمجلة "الشراع": "إنّ أعظم خطر جابهه ويجابهه الشرق العربي، قديماً وحديثاً، هو خطر الصهيونية... القضية ليست من باب السياسة فقط. إنّها قضية حضارة، لأن الصهيونية تريد رأس المسيح. هي أضخم حركة تكذيبية لرسالة الإنجيل. ومتى كُذِّب الإنجيل كُذٍب القرآن... من أصلحُ من لبنان كي ينجز أكبر مصالحة مسيحية إسلامية؟ أجل، ليس في العالم أصلح من لبنان لإنشاء أعظم جبهة مضادّة للصهيونية... جبهة، وإن كانت صغيرة كمّاً، مدعوة على صعيد الكيف إلى أن تسوق الشرق والغرب في صف واحد متراص"، وهذه الجبهة هي ما سيسميه الحاج لاحقاً النصّلامية (عبارة تجمع بين النصرانية والإسلام)، وذلك لأول مرة في مؤلف "الطائفية البنّاءة أو فلسفة الميثاق الوطني" (1961).
وإثر هزيمة حزيران عام 1967، شعر الحاج بالإحباط والغضب، فسارع إلى المشاركة الفكرية على وقع الحدث الكبير، في سلسلة مقالات صحافية الطابع، فلسفية المضمون، مشوبة بالنظرة الدينية، أراد منها فضح الخطر الصهيوني والتذكير بآثاره، ومن ثم اكتملت في كتاب أسماه "حول فلسفة الصهيونية" (1967).
ولا يفرّق الحاج بين الصهيونية واليهودية، فهذه فعل سياسي لتلك، وتلك قوّة دينية لهذه، لذا، تحمل "إسرائيل" المعنيين معاً، "هي متهودة ومتصهينة"[5]، وهم لا يؤمنون إلا بالقوة "الباطلة"، وسيّان عندهم الدمار أو العمار، وهم ساعون "إلى باطلهم كي يحكم، وباطلهم لن يحكم" [6]، كما يقول الفيلسوف اللبناني.
وخطر الصهيونية عالمي، لا بل هو أعظم الأخطار، وهي "خطيئة البشر الأصلية"، وتهدف إلى إلغاء مسيح النصرانية، لأن هذا الأخير يلغي مسيح الصهيونية، ومتى أبطل "مسيح النصرانية، أبطل مسيح الإسلام وانهار الدينان معاً" [7].
ويعتقد الحاج أن "القضية بيننا وبينهم هي إذن، وفي الدرجة الأولى، قضيّة شرعية وجودهم أو لاشرعية وجودهم؛ ذلك الوجود القائم على فكرة أرض الميعاد وتلك الفكرة القائمة على القدس والقدس القائمة على رؤية توراتية مدارها أنّ اليهودية ما برحت تنتظر مسيحها"[8]. وعنده أن الصهيونية أخطأت في تقييمها لعلاقة الجوهر بالوجود، فربطته بوجود الشعب اليهودي فحسب، فلا وجود غيره، هو "الشعب المختار" أو "وحيد الشعوب" [9].
وقد هلل الحاج حين بدأت تباشير العمل الفدائي، فرأى أن القضية سلكت مسارها الطبيعي، ودارت "حول الجهاد والاستشهاد"، وبتنا في خضم "اللارجوع عن الموت من أجل استعادة المسلوب"، واعتبر المعركة طويلة، لا بل "هي أكثر من معركة. إنها حرب، والحرب تمتد إلى أجيال"[10].
وقد أدرك الحاج سعي "إسرائيل" لاكتساب الشرعية تحت سماء الشرق العربي، وقدّر أن تحقيق ذلك سيكون "كالرمح المسنون إلى قلب لبنان، مثلما هو مصوّب إلى كل بلد آخر في الشرق العربي"[11]. ولا حل لقضية فلسطين وشعبها إلا في "حل الوجود الصهيوني"[12].
وفي تقدير الحاج أن لبنان في قلب المعركة، فواجبه القومي يفرض عليه أن يلتزم قضية فلسطين "التزاماً صارماً" [13] (قطاعها الروحي)، فلا يستطيع أن يكون محايداً، إنه "مسؤول عن مهد عيسى والمسجد الأقصى"، وهذه رسالة لبنان وشرطها الأساسي الوحدة الوطنية" [14].
ويختم الحاج مطالعته ضد الصهيونية بالقول: "لقد ألقى التاريخ على أكتافنا مهمّة إنقاذية لكنيسة القيامة والمسجد الأقصى. الحضارة الإنسانية كلّها مرتبطة بما نقول. وبما نفعل إذن تحت سمائنا وفوق أرضنا يلعب القضاء والقدر أعظم لعبة مصيرية لجميع شعوب المعمورة. وإنّ ذلك لشرفٌ أعطيناه. ها هنا موضوع افتخاري، فنحن الآن لولب العالم. نحن الآن حشاشة قلبه. يومنا يوم العالم. والجهاد المقدّس يجب أن يكون دَيْدَننا"[15].
ميشال شيحا: التحدي الاقتصادي
يجب التعامل مع كتابات ميشال شيحا (1891- 1954) حول فلسطين بحذر، فوفقاً للمفكر اللبناني فواز طرابلسي، الذي خصه بكتاب، خضعت نصوصه لاجتزاء وحذف "غير بريء"[16]، والقراءة الصحيحة لها تكون بحسب فهمه للعلاقة مثلثة الأطراف: الدول العربية والغرب و"إسرائيل"، ما يسمح بموضعة كتاباته، وهي غزيرة، وإدراك تمثيلها لـ"النظرة العربية السائدة" إلى المسألة الفلسطينية.
شيحا تميّز في مواقفه عن التيّار المسيحي اللبناني الذي مثلته "المجموعة الفينيقية" [17] ، أي أنصار "الوطن القومي المسيحي"، المشروع المماثل لـ"الوطن القومي اليهودي"، بفهمه لطبيعة المشروع الصهيوني "المنافس"، وخطره على دور لبنان الإقتصادي في المنطقة، وتهديده لوجود لبنان ذاته[18].
ويُفسّر طرابلسي موقف شيحا باعتبار المسألة الطبقيّة، فهو يدافع عن مصالح البورجوازية التجارية – المالية اللبنانية.
وبدأ منظّر الكيان اللبناني منذ العام 1945 يبدي خوفه من خطر المشروع الصهيوني، وهو في خلطه بين الصهيونية واليهود رأى أنهم لن يكتفوا بفلسطين وطناً قومياً، "فاليهود لن يرتضوا أقل من كوكبنا الأرضي وطناً قومياً لهم"[19]. لذا، عارض قرار تقسيم فلسطين:"إن قرار تقسيم فلسطين مع إنشاء دولة يهودية سيثبت أنه أسوأ خطأ عالمي تم ارتكابه على الإطلاق. إن ما يبدو كأنه عمل صغير ستكون له عواقب غير متوقعة، وليس من المبالغة القول إن هذه القضية الصغيرة ستهز العالم حتى جوهره..."[20]، ودافع عن المقاومة العربية[21].
وعند إعلان قيام "إسرائيل"، عد الولايات المتحدة الأم الفعلية للمولود الجديد[22]. ولكن، وفي ظل الاستقطاب الحاد آنذاك بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، اعتبر شيحا الخطر الشيوعي هو الداهم، فنظّر للمتوسطية و"الدفاع المشترك عن المتوسط غير القابل للتجزئة"[23] بالقول: "إن المسألة المطروحة الآن هي الدفاع الجماعي عن منطقة البحر الأبيض المتوسط. ماذا نفعل إذا استهان الأردن والعراق بالتداعيات طويلة المدى؟ وخلافاً لهم، فإن مصر وسوريا ولبنان تتأثر بشكل خاص بهذا الأمر، إذ إن لدينا جميعاً خطاً ساحلياً واسعاً على البحر الأبيض المتوسط، وهو خط من شأنه أن يجمع بشكل واضح جميع دول البحر الأبيض المتوسط..."[24].
يواكيم مبارك: الأب الماروني "الاستثنائي"
بذل الأب يواكيم مبارك (1924- 1995)؛ هذا الرجل الاستثنائي [25]، بعبارة جورج قرم، وسعه في الدفاع عن فلسطين وقضيتها، والتنديد بدولة الاحتلال، وخصص الجزء الخامس من الخماسية المسيحية الإسلامية لـ "فلسطين والعُربة" [26].
وقد نشط مبارك فلسطينياً بعد 5 حزيران/يونيو من العام 1967 وحرب الأيام الستة وهزيمة العرب، حيث عرفت القضية الفلسطينية فصلاً استعمارياً جديداً، مع احتلال مزيد من الأرض العربية ومدينة القدس الشرقية والضفة الغربية. وقد ساءه موقف الغرب، فكتب في 7 حزيران (1967) رسالة تأييد للبيان المنشور في صحيفة "لوموند" الفرنسية، وفيه نقد للنظام الإسرائيلي القائم على التمييز الديني، ووقعه 4 من كبار المستشرقين هم: جاك بيرك، وريجيس بلاشير، وكلود كاهن، ومكسيم رودنسون. ويميّز مبارك في الرسالة بين معاناة اليهود في التاريخ والارتكابات الإسرائيلية [27].
وفي ربيع العام 1968، دافع الأب الماروني عن حركة المقاومة الفلسطينية الناشئة بوصفها: "الخيار الوحيد الباقي للفلسطينيين أمام انغلاق أبواب الحلول"[28].
في الجزء الخاص بفلسطين من الخماسية، الذي يضم رسائل مبارك إلى المثقفين الغربيين، ومن خلال مذكرته حول القدس التي رفعها إلى الصرح البابوي، يطرح مبارك، وفقاً لخالدة سعيد: "كلبناني، وكمسيحي عربي، أسئلة مسيحيي الشرق، ويقدّم ردودهم على مسيحيي الغرب. ويتولى مهمة تمزيق الأسطورة التي يتذرّع بها الضمير الغربي حين يماهي بشكل مطلق بين الصهيونية، وهي حركة سياسية مستجدة أو حركة تسييس لليهودية، وبين اليهودية كدين له تراثه الروحي العريق. كما يُبرز تعامي كتاب الغرب عن الطبيعة الاستعمارية للحركة الصهيونية. ويعتبر انحياز المثقفين الغربيين إلى "إسرائيل" استمراراً لسوء الفهم التاريخي للعرب والإسلام، وطريقة للتعويض عن تاريخ من اضطهاد الغرب لليهود وللتغطية على سكوت هؤلاء المثقفين على الفظائع التي نزلت باليهود أثناء الحرب العالمية الثانية بتعبير آخر. هؤلاء الغربيون يشترون جريمة صمتهم على ظلم أول بالتعاطف والتآزر مع ظلم ثان يخلع شعباً من أرضه وكيانه، ظلم لا يختلف عن الأول إلا بأداة القتل وشكل الموت وإيقاعه"[29].
ورأى مبارك في إحدى محاضراته [30] عام (1970 أن العدالة المُستحقة للفلسطينيين لن تحققها أي مُرافعة، بل سينتزعها من الضمير – أو غياب الضمير – العالمي الفلسطينيون بأنفسهم. ولن تتم هذه العدالة من دون مساهمة فلسطين في قلب الرؤى في الرأي العام الأوروبي والأميركي [31].
ويُندد مبارك بالصهيونية السياسية؛ ذلك المشروع المتسم بأعلى درجات التمييز العنصري اليهودي وبالسياسة العرقية ضد العرب [32]. وإذا كان الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، كما يقول، "لا يخضع جهراً لقوانين الكتاب المقدس نفسها في التمييز والإبادة، فهو يستعيد في عز القرن العشرين العزيمة نفسها في الاحتلال الحصري والهيمنة"[33].
وقد وصف مبارك النظام الإسرائيلي في فلسطين، فاعتبره "نسخة جديدة لصيغة هجينة زاوجت بين أقلية ذات طابع ديني يعود إلى عصر العثمانيين وظاهرة الاستيطان الاستعماري من طراز الأقدام السود في زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر، أي باختصار، استيطان استعماري من أصل أوروبي في البداية يستمر بقوة أميركا"[34].
وفي نظرة اللاهوتي المسيحي الطوباوية، رأى مبارك إمكانية تعايش الأديان التوحيدية الثلاث ذات الأرومة الإبراهيمية في القدس بعد اعتراف اليهودية بالإسلام كشريك كامل، لكن مبارك كان مُدرٍكاً "أن التقارب اللاهوتي بين الديانات التوحيدية الثلاث لا يمكن أن يقتصر رمزياً على بناء مشترك لكنيس ومسجد وكنيسة في طور سيناء، بل لا بد أيضاً أن يجد تعبيره الفعلي في تلبية متطلبات العدل لدى الفريق الأكثر معاناة من الظلم في هذا التقارب، أي سكان فلسطين العرب من يهود ومسيحيين ومسلمين معاً" [35]، إذ إن اليهود هم أيضاً في عرفه من ضحايا الحركة الصهيونية الاستعمارية.
وقدّر المفكر السوري جورج طرابيشي في قراءته لكتاب "رجل استثنائي" (2004)، أن مبارك "ورغم انتصاره لفكرة "الأرومة الإبراهيمية"، بادر في السنوات الأخيرة من حياته إلى انتقادها عندما لاحظ ما طرأ عليها من تحريف واستغلال سياسي بهدف شرعنة احتلال "إسرائيل" في العام 1967 للقسم المتبقي من فلسطين، وتأويل وعد الخلاص لإبراهيم بأن له الحق في الاستيلاء على الأرض بالقوة وبإقامة دولة عليها باسم "الحق الإلهي"، وتفسير الإسلام على أنه محض دين "اسماعيلي"، نسبة إلى إسماعيل ابن هاجر، أَمَةَ إبراهيم"[36].
كما ربط مبارك بين القضية اللبنانية والقضية الفلسطينية، فالحرب اللبنانية كانت جزءاً من خطة "إسرائيل" لضرب صيغة التعايش: "فإسرائيل ما كانت تريد تدمير الوجود الفلسطيني في لبنان فحسب، بل كانت تريد تدمير لبنان نفسه، أو بتعبير أدق الصيغة اللبنانية، ذلك أن لبنان بصيغته التعددية هو النقيض التام والمباشر لإسرائيل بصيغتها الاثنية - الطائفية الأحادية. وقد يكون لبنان من بين سائر "دول المواجهة" هو العدو الأصغر لإسرائيل، لكنه هو العدو الأخطر، لأن النموذج الحضاري الذي يمثله، على شوائبه، يطرح علامة استفهام كبرى حول شرعية النموذج الإثني - اللاهوتي الصلف للدولة اليهودية التي أنشأتها الصهيونية على فكرة "شعب الله المختار" وحقه "الإلهي" في امتلاك "الأرض الموعودة" [37].
دافع مبارك عن "سلام" إسرائيلي - عربي قائم على النموذج اللبناني للعيش المشترك "الأنيس"[38]، في سبيل تجاوز العقبات التاريخية والعقائدية والسياسية والتأسيس لتاريخ جديد بين اليهود والمسيحيين والمسلمين في فلسطين، واعتقد أن حل القضية الفلسطينية يكون بإقامة دولة فلسطينية علمانية عربية يهودية [39]، وهو في الحقيقة تبنٍ لبرنامج المقاومة الفلسطينية في تلك المرحلة ومطالبتها بـ "دولة ديمقراطية علمانية تسود فيها المساواة". وقد ربط الأب الجليل بوضوح بين مستقبل مسيحييّ المشرق ومآل القضية الفلسطينية، واعتبر أنه سيُحكم على المسيحية في منطقتنا بحسب موقفها من فلسطين، ويترتب عليها مهام منع "التهوّد" في المسيحية الغربية [40].
المصادر والمراجع
[1] توفيق شومان، "المسيحيون اللبنانيون ... والأجراس الفلسطينية المبكرة"، POST 180، 27 تموز/يوليو، 2022.
[2] د. عفيف فراج، "أمين الريحاني، محامي القضية الفلسطينية"؟ حلّ مبسّط لمشكلة معقدة"، صحيفة السفير، 2002-02-15، رقم العدد 9128. ولفراج كتاب: اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية (بيروت، دار الآداب، 2001).
[3] نقلاً عن ميرنا الشويري، "موقف أمين الريحاني من القضية الفلسطينية"، موقع الحوار المتمدن، 2019.
[4] يوسف الحاج، هيكل سليمان أو الوطن القومي لليهود (بيروت، دار صادر، 1934)، ص 70.
[5] كمال يوسف الحاج، حول فلسفة الصهيونية، المجلد التاسع، من ضمن المؤلفات الكاملة (جونية – لبنان، بيت الفكر، أُسيّة كمال يوسف الحاج، 2013). ص 51.
[6] المصدر نفسه، ص 50.
[7] المصدر نفسه، ص 58.
[8] المصدر نفسه، ص 86.
[9] المصدر نفسه، ص 108.
[10] المصدر نفسه، ص 194.
[11] المصدر نفسه، ص 200.
[12] المصدر نفسه، ص 205.
[13] المصدر نفسه، ص 216.
[14] المصدر نفسه، ص 218 وص 219.
[15] المصدر نفسه، ص 223.
[16] فواز طرابلسي، صلات بلا وصل: ميشال شيحا والأيديولوجيا اللبنانية (بيروت، رياض الريّس للكتب والنشر، 1999). ص 257. وقد جمعت نصوص شيحا حول فلسطين في كتاب حمل عنوان "فلسطين" (1957) باللغة الفرنسية، وأعيد طبعه عدة مرات من طرف مؤسسة شيحا. وترجمه إلى اللغة العربية أنطوان غطاس كرم، وصدر في بيروت عن مؤسسة شيحا. وثمة ترجمة أخرى أنجزها د. نبيل خليفة، وصدرت عن دار النهار في العام 2003.
[17] نزعة فينيقية لبنانية رائدها شارل داوود قرم (1894- 1963). وكان لسان حالها "المجلة الفينيقية" التي أصدرها في العام 1919 وكانت أول مطبوعة باللغة الفرنسية في لبنان، وتوقفت عن الصدور بعد مرور 5 سنوات.
[18] فواز، صلات، مصدر مذكور، ص 264.
[19] كتاب فلسطين، الترجمة العربية، ص 209، في 30 أيار/مايو 1953، نقلاً عن فواز، ص 270.
[20] صحيفة لوجور، 5 كانون الأول/ديسمبر، 1947.
[21] كتاب فلسطين، مصدر مذكور، ص 119. نقلاً عن فواز، ص 274.
[22] كتاب فلسطين، مصدر مذكور، ص 102 و103، في 10 حزيران/يونيو 1948، نقلاً عن فواز، ص 275.
[23] صحيفة لوجور، 11 و12 أيار/ مايو 1951، نقلاً عن فواز ص 282.
[24] صحيفة لوجور، 12 أيار/ مايو، 1947.
[25] Youakim Moubarac, un homme d'exception. Textes choisis et presentés par Georges Corm Collection de la pensée libanaise. Librairie Orientale, Beyrouth, 2004. 568 p.
[26] يشير مفهوم "العُربة" في قاموس الأب يواكيم مبارك، بحسب جورج قرم، إلى المحتوى الثقافي والحضاري الغني للعروبة تاركاً هذا المفهوم الأخير للمدلول السياسي، بينما ركّز في كل أعماله على أنَّ "العُربة" هي الجامع المشترك بين كل الطوائف الدينية والعرقية للمشرق العربي. وقد ترجم هذا الجزء تحت عنوان: القدس: القضية، تعريب مهاة فرح الخوري، مجلس كنائس الشرق الأوسط، 1996.
[27] مبارك "فلسطين والعُربة"، نقلاً عن خالدة سعيد، يوتوبيا المدينة المثقفة (بيروت، دار الساقي، 2012). ص 52.
[28] خالدة سعيد، المصدر السابق، ص 54.
[29] خالدة سعيد، يوتوبيا المدينة المثقفة (بيروت، دار الساقي، 2012). ص 55.
[30] محاضرة ألقيت في جمعية التضامن الفرنسية العربية في حزيران/يونيو من العام 1970، بعنوان "مسلمون ومسيحيون ويهود أمام اختبار فلسطين"، واردة ضمن كتاب الأب يواكيم مبارك، حول لبنان وفلسطين والحوار الإسلامي المسيحي – مختارات، (بيروت، دار الفارابي، 2014)، تقديم جورج قرم، وتوماس وسلام دياب، وترجمة سلام دياب.
[31] المصدر نفسه، ص 112.
[32] المصدر نفسه، ص 114.
[33] المصدر نفسه، ص 115.
[34] المصدر نفسه، ص 122.
[35] جورج طرابيشي، عن يواكيم مبارك، "الإنسان الإستثنائي"، موقع عرب 48، 2010.
[36] طرابيشي، المصدر السابق.
[37] نقلاً عن طرابيشي، مصدر مذكور.
[38] مبارك، حول لبنان وفلسطين والحوار الإسلامي المسيحي – مختارات، مصدر مذكور، ص 29.
[39] نقلاً عن ريتا فرج، "الأب يواكيم مبارك: الحوار الإسلامي – المسيحي في المجال الإبراهيمي"، ضمن كتاب لمجموعة من الباحثين، المصادر التاريخية لمسيحيي الشرق الأوسط ( دبي، مركز المسبار، 2020). ص 299.
[40] فادي هندي، هويّة الموارنة ودورهم في إقامة لبنان الحديث وفاقاً ليواكيم مبارك (وهي في الأصل أطروحة دكتوراه قدمت في الجامعة اليسوعية في العام 2014)، (بيروت، مركز الشرق المسيحي للبحوث والمنشورات، 2016)، ص 173. (باللغة الفرنسية).