"ترانيم في سيمفونية الحياة.. الجزيرة".. كل الحب قليل على فلسطين

يعتبر البقاعي ان الثورة وحدها هي ما نعوّل عليه، وهي لن تكون أداتنا النضالية في سبيل حقوقنا الوطنية فحسب، ولكنها ستكون بالضرورة أداتنا الحقيقية في إحداث التغيير. الاجتماعي والثقافي وغيره"

  • ترانيم في سمفونية الحية
    رواية "ترانيم في سيمفونية الحياة" لكمال توفيق البقاعي

"دامون يا ذات الوجه الرائع الجمال، والقوام الرشيق، أتخيلك ولا أستطيع لقاءك، أو حتى رؤيتك، أشتاق إليك، أعبدك.

يا ذات الجدائل المشغولة عبر السنين، والطويلة طول السنين، أيتها الصبية الكنعانية الرائعة، حبيبتي أنت، أنت الوحيدة التي يشاركني الكثيرون في حبها، ولأجلك أحبهم كلهم، ولأجلك أُقدِّم دمي فداء لك ولهم، بكل رضىً وكل سرور.

إذا كان هذا الحب للدامون، البلدة الصغيرة في الوطن الفلسطيني، فكيف تراه يكون لأمنا فلسطين، أعتقد جازماً أن عليَّ أن أجمع كل الحب المتوفر في أربع جهات الأرض، وسيكون قليلاً على فلسطين وقليلاً لفلسطين.
الدامون يا حبي الصغير أمام أمّنا فلسطين، أحبكما كما لا يعرف الحب حدوداً، وكما يألف المناضل نشيده الأبدي، وتوقه للانتصار والحرية".

شهذا التوصيف لقرية الدامون شرق عكا على لسان عدنان بطل رواية "ترانيم في سيمفونية الحياة" لكمال توفيق البقاعي، يحيلنا إلى شاعرية ذاك الارتباط الأزلي بين الفلسطيني وأرضه، حتى لو لم يرها أو يتنسَّم طيب هوائها ومَيَارِها إلا في بعض طفولته، لكن ثمة وثاق مع تلك الأرض المُقدَّسة لا يفهمه إلا من يؤمن بالعودة إليها ولو بعد حين، ويجعل من ذلك سراطاً لحياته لا تحيد عنه بوصلته مهما حاولت الحياة وضغوطاتها ذلك، وكما يقول البقاعي في روايته الصادرة عن دار دلمون الجديدة في سوريا:

"إن جسد الشعب الفلسطيني المثخن بالجراح، والذي عانى الكثير وما زال، سيبقى قادراً على تحمل كل أذى، وكل الضغوط والإساءات في سبيل الاستمرار في نضاله الدؤوب على طريق العودة".

الجزء الأول من الثلاثية والذي يحمل عنواناً فرعياً "الجزيرة" يحكي قصة عدنان الذي لجأ مع أسرته إلى لبنان في عام النكبة وكان عمره حينها أربع سنوات، وشبَّ في أحد مخيمات الفلسطينيين هناك، وفيه تشرَّب روح القضية، لذا بعد نال شهادة الثانوية قرر أن يلتحق بدورة للضباط في العراق لكن الدورة ألغيت، لذا درس في مركز التأهيل المهني التابع لوكالة الغوث "الأونروا" فرع التجارة والمحاسبة وحاز المرتبة الأولى فيه، ولأنه كان ممنوعاً عليه العمل في لبنان، تعاقد للعمل في الخليج كإداري في شركة "مكديرموت" الأمريكية، الساعية لتحويل جزيرة حالول القطرية من مكان لا حياة فيه، إلى ميناء يستثمر في حقول النفط البحرية، وقادر على استقبال ناقلات عملاقة وسفن ضخمة، ليتماثل عيشه على تلك الجزيرة بمناخها الصعب والعنجهية التي يبديها مدراء الشركة الأمريكان مع ما كان يعيشه في مخيمات لبنان، فهو في كليهما لاجئ، لكنه رغم الضغوطات ظلَّ حاملاً لقضيتين لا يتنازل عنهما، وهما الكرامة الشخصية والكرامة الوطنية، وهو ما جعله يصطدم مع فوقية وصلف مدير الشركة ونائبه، بينما يتآلف مع "مارتن" المُجسِّد للإنسان الأمريكي الواعي لإساءات بلاده التي تأسست على القتل والعنصرية والتعالي، وأبادت شعوباً بكاملها.

وفي الوقت نفسه فإن عدنان لم ينقطع عن نضاله في إطار حركة القوميين العرب التي يؤمن بمبادئها، ولاحقاً في منظمة التحرير الفلسطينية، وهو ما جعله يؤسس تنظيماً خاصاً بالعمال القادمين من خمسة عشر بلداً ينتمون إلى ثلاث قارات، أغلبهم عرب من سوريا، فلسطين، لبنان، الأردن، مصر، وعمال محليون، وذلك لمتابعة أحوالهم، والدفاع عن حقوقهم المستلبة، سواءٌ ما يتعلَّق بتخفيض الأجور إلى النصف، أو بساعات العمل الإضافية غير المأجورة، وعدم السماح بالإجازات، وحتى مواجهة التَّكبُّر الأمريكي تجاه العمال العرب وأولئك القادمين من دول آسيوية مختلفة كالهند، لاسيما بعدما تنصلت لجنة العمل والعمال في الدوحة من أية مسؤولية عن العقود الخارجية، وكذلك بسبب عن السماح لمندوبي العمال بالاتصال بالمحامين، لذا في ظل هذا الواقع المزري وسرقة جهد العمال لم يكن هناك من سبيل لنيل حقوقهم سوى الإضراب العام، الذي حرَّر ثلاثة عمال قطريين من آل القاسمي بعدما طعن أحدهم أمريكياً ثأراً لجدِّه همّام القاسمي أحد المناضلين الذين وقفوا ببسالة في وجه المستعمر الإنكليزي وقاوم تمدده في الخليج، لكنهم تمكنوا منه بالمكر والخديعة، وجعل إدارة شركة مكديرموت تتخلى عن بعض صلفها تجاههم، ما عدا مديرها العام الذي هدد قادة الحراك، وخطب بالموظفين منبهاً بأن إضرابهم هو تنصل من التزامهم بشروط عقود العمل، وهذا يعفي الشركة من أي التزام تجاههم، وسيعتبرون مستقيلين، ورغم تأكيد عدنان على استمرار الإضراب حتى تحقيق المطالب، إلا أن زملاءه خشية خسارة عملهم تخلوا عن مطالبهم وإضرابهم ليبقى عدنان مع صديقه منير القادم أيضاً من مخيم للجوء في لبنان وحيدين، وتعرَّضا للتسريح من العمل فعادا إلى الدوحة ثم بيروت.

وفي موازاة ما جرى في جزيرة حالول أبرز الروائي كمال البقاعي أحداثاً في كل من فلسطين ولبنان تعزز صورة بطله وتكوينه الاجتماعي والنفسي والنضالي، ومن ذلك رسم مشهدية بانورامية لتهجير أهل عدنان من قرية الدامون، ونسيان أخته الصغرى ذات العامين على جانب الطريق في وعاء العجين، لتعود أخته الكبرى مسافة طويلة لتجلبها، وفي ذاك الوقت فإن عدد من المهجرين لم يحتمل ابتعاده عن أرضه فعاد من حيث أتى، أما أسرة عدنان فوصلت إلى لبنان ثم واصلت سيرها نحو الشمال، واستقرب في مخيم قررته السلطات اللبنانية آنذاك.

ثم يرسم الروائي آليات تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية قبل شهر واحد من سفر عدنان، وزيارة رئيسها أحمد الشقيري للبنان والاحتفاء به في الملعب البلدي لمدينة صيدا، وكيف قرر طلاب مركزيّ دار المعلمين والمركز المهني التجاري المشاركة في الاحتفال، رغم أنف المنع الصادر عن المكتب الثاني اللبناني، وكيف تعرض عدنان للسجن وهو في الثانية عشرة بعد توزيعه لبيان سياسي بمناسبة ذكرى النكبة، ليطلق سراحه فيما بعد بوساطة رئيس تحرير جريدة اليوم "وفيق الطيبي".

لنكتشف شيئاً فشيئاً أن تجديل الأحداث بأمكنتها الثلاثة: قطر، فلسطين، ولبنان، بكل ما تتضمنه من جغرافيا وتاريخ وبشر ولهجات، ما هي إلا للتأكيد على أن النضال من أجل الحقوق الوطنية لا ينفصل عن النضال من أجل العدالة الاجتماعية، كما أن مقاومة جشع الاستعمار ونهبه لخيرات الشعوب، مرتبط بشكل وثيق بمقاومة الشركات الاحتكارية التي تهضم حقوق العمال والموظفين، كما أن عرض التشابه بين مخيمات اللجوء والخيمة التي سكنها عدنان في جزيرة حالول يصب في الاتجاه ذاته، حيث أن اختلاف الأمكنة لا ينبغي أن يؤدي إلى تغيير القناعات، أو تحييدها من أجل تحقيق مصالح شخصية، وهو ما رأيناه من التزام بطل الرواية بفكره ومبادئه من دون أن يحيد عنها قيد أنملة، وهو ما يفسّر صلابة موقفه من رفض العودة للعمل دون تحقيق مطالب العمال، ولو أدى ذلك إلى فصله من الشركة، والأمر ذاته ينطبق على مطالبته بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني التي يرفض التنازل عنها أو انتقاصها.

وإن كان الإضراب حلَّاً لمواجهة الانتهاك المستمر لحقوق العمال، فإن الثورة هي الحل على الصعيد الوطني، وهو ما عبَّر عنه عدنان في نهاية الرواية ضمن حواره مع صديقه منير بعدما التقاه صدفة في بيروت: "وحدها الثورة يا منير هي ما نعوّل عليه، وهي لن تكون أداتنا النضالية في سبيل حقوقنا الوطنية فحسب، ولكنها ستكون بالضرورة أداتنا الحقيقية في إحداث التغيير الاجتماعي والثقافي وغيره". وعندما يحاججه صديقه بسؤاله: "أين هي هذه الثورة التي ننتظر، وكيف ستتشكل في ظل هذا الوضع الإقليمي المحيط بإسرائيل؟ كيف تأتي الثورة من رحم مجتمع متخلف إلى هذا المستوى، كل موضوع فيه بحاجة إلى ثورة؟"، يرد عليه عدنان: "ستأتي الثورة يا منير، لا تتوقف أمام بعض الصغائر في المخيم، للثورة آلياتها التي ستهصر الكثير، هذه كلها ستذروها رياح الثورة عندما تنطلق، وعليك أن ترى أن هناك دوراً كبيراً سيكون للتنظيمات والكوادر والقيادات الوطنية، التي تتمتع بالوعي والخبرة والتي ستكون كلها في هذا الميدان".

لذا فإن كانت النكبة كما وصفها الروائي "البقاعي" الذي وافته المنية مؤخراً، هي الصفحة السوداء الأولى في الكتاب الفلسطيني، فإن حلم العودة من خلال الثورة سيكون فصل الختام.