"القبعة والنبي".. مسرحية تتكرر على خشبة الواقع الفلسطيني
المسرحية خليط ساخن من مجموعة قضايا لاهبة، مزجها غسان كنفاني وحرّك عناصرها لتنتج وعياً ثورياً تقدّمياً راهن عليه، فاقتطع من خشبتها خشبة خلاص، واخترق بحلمه الاستباقي غلاف غزّة وأبحر بالوعي نحو سواحل فلسطين.
ليس صدفة أن يختار الاحتلال الإسرائيلي القادة والمثقّفين الثوريين الفلسطينيين لتصفيتهم كونهم يشكّلون المفاتيح النضالية للقضية الفلسطينية، لإيمانهم بالتلازم بين المقاومة العسكرية والنضال الثقافي. من بين هؤلاء الأديب الشهيد غسان كنفاني (1936 - 1972) الذي نجحت "إسرائيل" في اغتياله، لكنها فشلت في محو أثره الثقافي والأدبي والنضالي.
كثيرة هي الأعمال التي تركها لنا كنفاني وحاكى فيها الواقع الفلسطيني مصوّراً طبيعة المرحلة ومقدّماً حلولاً رؤيوية. إذ آمن بتلازم البندقية والكلمة في مسار التحرير، وبأن الكلمة هي الشكل المتقدّم من أشكال المواجهة مع الاحتلال.
من بين هذه الأعمال نذكر مسرحيته الفلسفية "القبعة والنبي"، التي كتبها كنفاني عام 1967، عام النكسة، ونشرت بعد استشهاده. مسرحية اتسمت بالغرابة والترميز وحاكت حين كتابتها المشهد الفلسطيني ومشروع التحرير. اليوم، بعد عقود من نشرها، يبدو أن أبطال المسرحية ما زالوا أحياء يرزقون على خشبة مسرح الواقع، وأن المسرحية نفسها، لم تزل صرخة توعوية يتردد صداها.
تدور المسرحيّة حول رجل بائس تحاوطه مشاكل العيش من كلّ جانب، حال ظرفه الاجتماعي دون الاقتران بحبيبته التي تنصاع لشروط والدتها الطامعة بالمال والثروة. يتّهم ظلماً بقتل "شيء" غريب سقط من الفضاء، ويستمرّ النزاع العبثيّ حول القضية في المحكمة، ليكون هذا "الشيء" هو محور المسرحيّة.
فالبطل يكتشف أنّ هذا "الشيء" يتكلّم، ويتعرّف إلى عالمه الغريب الذي يختلف عن عالمنا في طريقة التناسل والحياة، إذ يبقى هذا "الشيء" حياً طالما توفّر له الماء، وإذا أراد شريكاً له أو أراد التناسل فعليه أن يقطع جزءاً منه ويزرعه في التراب. من هنا، يدرك البطل قيمة هذا "الشيء" ويبدأ في التفكير باستثماره لخلق أمّة يكون هو نبيّها، ويحلم به كمشروع استنهاضي يهدف إلى التغيير.
تخبرنا المسرحية أن توأم هذا "الشيء" يسقط على شرفة والدة حبيبة البطل الطامعة بالمال، فتصنع منه قبعة لعدم معرفتها بحقيقته. وهي بدورها تحرّض البطل على بيع "شيئه" طمعاً في مردوده المغري، ويتهافت على شرائه دول وشركات وهيئات وجمعيّات وأجهزة استخبارات عالميّة وتكنولوجيون وباحثون بأبهظ الأثمان، فيتشبّث به وبقيمته ويرفض كل هذه المغريات.
يطرح كنفاني في هذه الجزئية الفرق بين القيمة والثمن، متشبّثاً بالأولى ورافضاً الثانية. وفي نهاية مطاف هذا النزاع، نرى أنّ انهماك البطل في الرد على العروض المغرية ألهاه عن الالتفات أو سماع استغاثات "الشيء" الذي كان يلحّ عليه بطلب الماء، فيموت عطشاً.
هكذا يعاد اتهام البطل بقتل "الشيء" ويتكرّر مشهد المحاكمة باتهامه المباشر، فينتفض المتهم ويتّهم الجميع بمن فيهم القاضيان وطالبو شرائه ووالدة حبيبته وحبيبته وساعي البريد.. إلخ.
في مسرحية "القبعة والنبي" يجعلنا غسّان كنفاني نرى الموقف من جميع الزوايا، فقفص الاتهام ينتقل إلى القاضيين ومن ثمّ إلى جميع الشخصيّات والعناصر الخارجيّة. تنبع العبثيّة بتكرار المشهديّة من زوايا مختلفة ومنها فكرة التهم المتعاكسة، فنكتشف أنّ الجميع مذنبون في الوقت نفسه.
في النهاية تبرّىء المحكمة البطل الذي يرفض براءته ويطلب من القاضيين إدانته وعقابه، لكنّه لم ينل ذلك، قبل أن تختتم المسرحيّة بشكل غريب. إذ "ينجح" البطل في إحياء "الشيء" الذي مات ويقرّر أن ينطلق معه نحو تحقيق الحلم. "(المتهم: يقترب من الشيء، ويرفعه بين يديه، لأول مرة). المتهم: هيا بنا أيها الصديق. ليس أمامنا إلا أن نخرج معاً".
في "القبعة والنبي" يرسم صاحب "عائد إلى حيفا" بوصلة الوصول إلى مكامن الجرح الفلسطيني، محاولاً ترميم ما تمزّق في بدن المشروع الوطني الفلسطيني وشرايين الثورة. يشير إلى الداء ويطرح الدواء. فالمسرحيّة سياسيّة بامتياز، وإن ذهبت بعض فصولها نحو الصراع الطبقي بين أقلية برجوازية متحكّمة وأكثرية بائسة. ليس عبثاً أن يختار كنفاني "القبعة" وما تمثّله من رمز برجوازي، في مواجهة "النبي" الذي يمثّل حركة الوعي والخلاص. كما أظهر التضاد بينهما في استراتيجية الخيارات بين القيمة والثمن، وبين الشكل والمضمون، موثّقاً السجال العبثي بين الثقافتين.
فشخصيّة والدة حبيبة البطل، تمثّل الحالة البرجوازية الفلسطينية والعربية التي لا تعنيها القيمة، أي رمزيّة الوطن والأرض، بل الثمن، وتتّجه دائماً إلى الشكليّات، فتلبس لبوس الغرب على حساب تراثها، وتشتري وتبيع وتستثمر حتى في دوائر الاحتلال، وهاجسها الربح السريع والثروة.
أما النبي فرمز إلى القيمة التي يثمّنها العقل ولها دورها في موازين الوعي النضالي. ففلسطين في مسرح الواقع أرض مغتصبة لا يحرّرها تجار ومساومون، بل دعاة فعل وحملة قيم، ومن الطبيعي أن يحاول الغرب الاستعماري الداعم للمحتل أن يصادر الوعي أو يشتريه، لأنّه يشكّل مفتاح العودة إلى فلسطين، وحين يفشل في الاستحواذ عليه، فإنه يلجأ إلى استراتيجيّة الإلهاء لتشتيت انتباه المؤتمن على القضيّة، فتموت كما مات ذاك "الشيء" عطشاً.
لا شكّ بأنّ كنفاني حرص على تدعيم بنية مسرحيّته بلوازم قوّتها التوظيفيّة، وأعاد في الخاتمة إحياء القضيّة وأطلق العنان لأجنحتها لتحلّق وتحطّ في أرض تهيّئ لها الظروف الموضوعيّة لتعيد إليها الحياة. هذا الحلم أبصر النور في 7 أكتوبر 2023، وانطلق في مسار ولادته متحدّياً الظروف والموانع المتمثّلة بالخزي العربيّ والاحتلال الصهيونيّ.
ركّز كنفاني على نقطتين أساسيتين تختصران المشهد. الأولى تتعلّق بالواقع الفعليّ وتتمثّل بعبثيّة البقاء مع ثقافة الثرثرة غير المجدية، وبعدها الانتقال إلى الوعي الممكن عبر تحقيق الحلم في نهاية المسرحية. والثانية تتمثّل بشخصيّة البطل، حيث نلاحظ أن كنفاني اختار شخصيّة أحاديّة لاتخاذ القرار نحو الوعي الممكن وتحقيق حلم التحرير، وهذا يدلّ على توجيه رسالة ضمنيّة إلى ضرورة الوحدة الوطنيّة والاتحاد في كتلة سياسيّة ونضاليّة لمواجهة طبيعة المرحلة.
أما العناصر الخارجية التي عملت على إلهاء البطل ومساومته فترمز إلى الغرب الإمبريالي، حيث يدعونا كنفاني، ضمنياً،إلى التوقّف عن التنظير وعدم الانجرار إلى المساومات التي تساهم في إضاعة الوقت وتضليل الهدف. كأنه يقول إن حلم التحرير لا يمكن أن يتحقّق إلّا باستراتيجيّة فاعلة، مشيراً إلى وجود ثقافة نضال "تجاري". تتكرّر هذه المشهديّة اليوم، حيث استغلال، شخصيات وجهات، القضية الفلسطينية لغايات متنوّعة وصولاً إلى التنديد الكاذب من قبل جامعة الدول العربية والأمم المتحدة والمجتمع الدولي من جهة أخرى. فأبطال المسرحيّة متفاوتون في الأدوار ومختلفون في الآراء ومحترفون في المناورة وكيل التهم فيما يشير السجال العبثي إلى زمن الثرثرة. والعرب اليوم، يعيدون إنتاج تخاذلهم في مسرح الواقع وعلى خشبة آلام الغزيين، حيث شكّلوا النسخة المصوّرة عن المسرحية.
المسرحية خليط ساخن من مجموعة قضايا لاهبة، مزجها غسان كنفاني وحرّك عناصرها لتنتج وعياً ثورياً تقدمياً راهن عليه، فاقتطع من خشبتها خشبة خلاص، واخترق بحلمه الاستباقي غلاف غزّة وأبحر بالوعي نحو سواحل فلسطين. قبل أن يأتي تاريخ 7 أكتوبر ليفرش ضوءه الأبيض في جروح طيور الأقصى وعيون أطفال غزة، فيما الانهزاميّة العربيّة ما زالت تدوّن في ذاكرة الوجدان القومي أقذر انحداراتها.