الطاهر وطار في "الشهداء يعودون هذا الأسبوع".. إعادة إعتبار لقيم الشهادة

في قصّة "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" للروائي الطاهر وطار تعرية خطيرة للشخصيات التّي كان من المفترض عليها أن تواصل قيادة قطار ما بعد الثورة من دون أن تحيد عن سكة ميثاق الشهداء.

  • الشهداء يعودون
    قصة "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" للطاهر وطار

سأل العابد بطل العمل الأدبيّ "الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، للكاتب الكبير الطّاهر وطّار، أحد الشيوخ في طريقه إلى البيت: ألم تفكّر قط أنّ ابنك الشهيد قد يعود يوماً يدقّ الباب ثمّ يقتحمه ويتناولك بين أحضانه؟
يتمنى الإنسان عودة أمواته. وتمنيه هذا نابع من كون هؤلاء الأشخاص الأعزّ عليه سُرقوا من حياته قبل أن يُسرقوا من حياتهم، من دون أن يستأذن أحد منهم ذلك، وعودتهم تعني تحقيق العدالة العاطفيّة. يتمنى عودتهم لأنهم سيعودون إلى حياته أولاً ثمّ إلى حياتهم. وكلّما فككنا هذه الأمنيات استطعنا وضع كثير من إشارات "لكن" الشرطيّة. البناء بعد هذا التفكيك سيكون بالطريقة التّي لا يعود فيها الأموات مثلما ذهبوا، بل مثلما حدث في غيابهم، بحيث واصل الجميع حياته. وفي عمل الكاتب الطاهر وطار، "الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، سنكتشفُ إنسان ما بعد الاستغلال، الشخصيّة القلقة، لأن العائد هنا عائد إلى حياته كونها إعادة تعريف لحياة من سيعودون إليهم، وهنا يتشّكل بالضرورة مفهوم "المحاسبة"، وستظهر الذّات المستريحة في غيابهم على أن في مقدورها أن تصبح هي ذاتها قاتلها. صياغة هذه العودة من جديد تثير الألم والسخريّة، فالأموات عليهم أن يموتوا إلى الأبد. حزننا عليهم يكفيهم. ونجد هذه الإرادة في كل الشخصيات التّي طرح عليها "العابد" والد الشهيد مصطفى: ماذا لو عاد الشهداء هذا الأسبوع؟

 فهل يقلق التاريخ من عودة التاريخ، أم أنه يقلق من عدم عودته؟
فَهمُ القلق مرتبط بفهم ماهيّة التاريخ ذاته، فلطالما رفض التاريخ الاعتراف بحقائقه في الوقت الذّي يحدده طلاب التاريخ، لكنّه يختار بنفسه أين ومتى يتم ذلك. القلق من التاريخ أكثر من قلق التاريخ، أن يعود الشهداء هذا الأسبوع  لا يعني عودتهم كأشخاص، بل كأفكار تحررية معادية للاستعمار في حلته الجديدة. شهداء الطاهر وطار العائدون هم أنفسهم "المقاومون" في الخطوط الأمامية للاستعمار اليوم، والذّين ترفض سلطة العالم الاعتراف بهم، بل تطلق عليهم الخارجين عن القانون. قرية "العابد" هي نفسها جامعة الدول العربية على الصعيد العربي. التصويت كله يذهب لمصلحة الحياة من دونهم واتهامهم بالخيانة، مثلما اجتمع مسؤولو القرية تماماً من أجل تجريم "العابد" على سؤاله" وعدّه خائناً، لذلك يؤلمنا أن نتجاوز بالقدر الذّي تألمنا فيه تحول الحقيقة إلى شأن بشع. والوقوف ضد التجاوز مثير للقلق الوجودي على شخصيات تودّ أن يبقى التاريخ كما رآه الآخرون، إذ لا يحق أن يعود أحدهم بالتاريخ إلى التاريخ ونبشه ومحاسبته. لا يحقّ للأبطال المزيفين أن يكتشفوا زيف بطولتهم، فثمّة في قصصهم الجانب الآخر الذّي لم يحكَ بعدُ، الجانب الذي يعرفه الشهداء وسيعود بعودتهم.

وفي قصّة "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" للروائي والقاص والمسرحي الطاهر وطار تعرية خطيرة للشخصيات التّي كان من المفترض عليها أن تواصل قيادة قطار  ما بعد الثورة من دون أن تحيد عن سكة ميثاق الشهداء. تبدأ الرواية من أعالي القرية هنالك، بحيث يتلقى "العابد" رسالة من الخارج يتضح أنها من ابنه مصطفى الذّي استُشهد في إثر لغم عند الحدود. وبسبب دهشة هذه الشخصية من وجود إمكان عودة من استشهدوا ساد في القرية جو من الريبة من هذه الإشاعة. التكرار الذّي اتخذته شخصية "العابد" في طرح السؤال والمسار المكاني الذّي عبّر عنه بالنزول نحو أسفل المدينة، متتبعاً إجابات الذين صادفوه، يعني إثارة مزيد من القلق في حياة مستقرة بزيفها للحقائق والغوص كثيراً في ذوات هذه الشخصيات. السير نحو الأسفل يعني السير نحو الأماكن المظلمة للشخصيات، فهنالك الإجابات الرافضة  لعودتهم إدارياً، وأخرى تجري في الخفاء كمونولوج بين الذات  وخفاياها.

العابد ليس مجرد أب فقد ابنه في ثورة التحرير، بل هو ضمير القرية التّي خطفها المزيفون والخونة. عودة الشهداء تعني برنامجاً ضد التسامح المطلق مع التاريخ، ضد "عبد الحميد" القادم من نسل خائن والمتوج بعد الاستقلال مديراً للمدرسة ومسؤولاً للبلدية. الاسم الذّي يأخذنا به الكاتب إلى "عبد الحميد بن باديس" وجمعية العلماء المسلمين. أين تمت أشياء منافية لروح النضال تبنتها الجمعية سابقاً، يختار الكاتب الطاهر وطار شخصياته بروح واقعيّة تحمل كثيراً من الدلالات التاريخيّة التّي قادت مرحلة ما بعد الاستقلال إلى شعور المجاهد وأبي الشهيد العابد بالحسرة وألم شديد، واقع يقصي التضحيات وينخرط في أنانية وانتهازية مطلقتين لم يحلم بهما كل الذّين قدموا أرواحهم فداءً للتحرير. فكل المسؤولين ملطخون بالثورة وما بعد الثورة. موقف  عبد الحميد لا يتعدّى بالنسبة إليه كونهم  مسجلين في سجل الوفيات، وعليهم أن يثبتوا حياتهم من جديد، لكنه يعود ويؤكد أنه لن يمرّ أسبوع عليهم حتى يتزيفوا، وفي داخله مونولوج الانتقام لأبيه. سي المانع مسؤول القسمة يفاجئه أمر عودة مصطفى الشهيد الذّي نصب له بنفسه كميناً في بيته، لكنه لم ينجح في قتله، معرفة مصطفى أنه خائن تربكهُ، لهذا ستكون عودتهُ شيئاً مرفوضاً، واشترط أن يقدم الشهداء ملفات الانخراط في الحزب مع تصريح بالالتزام للسلطة الثورية. وإذا توافرت فيهم الشروط فسيُقبلون كمناضلين. أما منسق قسمة المجاهدين فأجاب إجابة مليئة بالخيبة:

إن استطعت الاتصال به فانصحه بعدم العودة، أرض الله واسعة". رئيس القابضة مثلت إجابته العراقيل والبيروقراطية في أسمى صورتها، فما يهمه من عودتهم مقتصر على شيء واحد، وهو أن أهل الشهيد سيطالبُون برد المنح التّي قدمت إليهم، بينما اشترط مسؤول الفرع النقابي "الكومينيست" أن قبول عودتهم من عدمه شأن يتعلق بالاطلاع على أفكارهم. رئيس وحدة الدرك أرعبته عودتهم، فلا أحد كان يعرف بالطريقة التّي أُسر بها يوم المعركة، والتّي استشهد فيها كل زملائه، لا أحد يعرف أنه رفع يديه مستسلماً من أولى طلقات الرصاص، تاركاً خلفه الرشاش غير مبال بهتاف أصدقائه. كان توقفه عن إطلاق النّار يعني هلاكهم. لم يستطع أحد أن يلتحق بالمدفع الرشاش فسقطوا جميعاً، فكل الشخصيات على ما يبدو غير متصالحة مع عودتهم لأنها تكشف مدى الزيف الذّي يختبأ خلف البدلات الرسمية. حتى أخو مصطفى لن يقبل عودته، إن زوجة الشهيد مصطفى زوجته اليوم.

فهل النّضال فكرة  تمّ استغلالها في الذّاكرة؟

إنّ حياة الإنسان بعد الذكريات العنيفة هي حياة سيتعرّضُ من بعدها لعنف الذّاكرة التّي ستغذّي فيه ذلك الألم التّاريخيّ وتمنع الجروح الاستعماريّة من فقدان لمعانها، فقد  يبدو لك "العابد" غريباً في سؤاله اليقينيّ الذّي طرحه على كلّ سكان بلدته، لكنّ الغرابة الحقيقيّة ليست في السؤال، بل في إجابات الآخرين عليه، تلك الإجابات التّي تعني تجاوز الأشياء مع الزّمن قبل أن يعتذر منك، لكنّ الذّاكرة الجزائريّة المجروحة لم يستطع نصف قرن من الاستقلال أن يرممّها، فحنّة أرندت التّي تجعل الصفح الآلية الوحيدة للعبور نحو المستقبل والخروج من جروح التّاريخ، تتناسى أن الوصول إلى تلك الآلية والتّي تَعُدّ حنة حدوثها منفصلاً عن اعتراف الطرف الآخر بجرائمه لا يبدو منفصلاً تماماً، وخصوصاً إذا ما تحدثنا عن جرائم التاريخ التّي تظهر في كل مناسبة جريمة أبشع من التّي سبقتها؛ أي أنه لا يمكن أن تسامح عن جرم لم تعرف درجة بشاعته الحقيقيّة بعد، أي أن الأرشيف يمكن للأفراد كحالات منفصلة كذاكرة فرديّة أن يقوموا بذلك، لكن الذاكرة الجماعيّة لا تتطلب التجاوز الفردي. فالجماعة تملك، فعدم مقدرتك على الصّفح هو امتداد للألم التاريخي وللاستخفاف من ذلك الألم سويّة، فعنف الذّاكرة يتمثّل بمحاربة النسيان وتجاوز حدوثه بالاستمرار في إقامة ذكرى مجازر أو ثورات تاريخيّة تقديماً للولاء لتلك التضحيات والخسارة العنيفة عكس ما يطالبُ به مسؤولو القرية تماماً. إنهم يتقاطعون مع فكرة عدم عودة الذّاكرة التّي تعني عدم عودة الشهداء، المضيّ قدماً مع التّاريخ مثير للقلق بالنسبة إلى الذين لم يختاروا القطيعة التّامة معه، وهذا القلق العام الذّي أشعرنا به الكاتب، من جراّء سؤال "العابد": ماذا لو عاد الشهداء هذا الأسبوع؟

يعني أن  التفكير الزائد سيسيطر على الأجواء، وأن الصامتين سوف يجيبون عن الأسئلة الناقصة؟ شخصيات ستعلن استقلالها وأخرى ستعلن استغلالها بالتصرف وفق آلة قوة ترغم الجميع على العودة عن طريق النّضال بدلاً من العودة إليه؛ العودة عن طريق عودة فكرة الشهداء ككل. وتحت تأثير هذا القلق بطريقة معادية أكثر يصوّر لنا الكاتب إمكان تشويه تاريخك فقط لأنك تساءلت، تهم كثيرة جاهزة  في انتظارك بغية محاصرة الحريّة ومحاصرة فكرة النّضال، وتجسّد هذا في الاجتماع الذّي دعا إليه "المانع" كل مسؤولي مؤسسات القرية بغية التحريض ضد "العابد" وإلصاق تهمة الخيانة والتواطؤ مع الخارج به. الخوف من النّضال هو خوف من تفكيك تلك المناصب، فكرة الاستغلال التّي سيطرت على روح "الاستقلال" النبيلة، إذ لا يمكن لشخصيات خائفة من عودة الشهداء أن تؤسس مجتمعاً يستطيع فيه الأفراد أن يكونوا بكامل حقوقهم. السلطة ترفض عودة "الحرج" ترفض الوقوف أمام مرآة الذّات، ترفض "المحاسبة"، ثم على الشهداء أن يفكروا ملياً قبل أن يعودوا إلى القرية، عليهم ألا يكونوا شهداء أولاً، وأن ينتهي بهم الأمر إلى فاسدين مثلهم تماماً.