"الأكل أهمّ من الثقافة".. كتّاب مصريون يبيعون مكتباتهم
العديد من كتّاب مصر يعرضون مكتباتهم للبيع. لماذا؟ وهل باتت الكتابة مهنة فقيرة لا تطعم خبزاً؟
صدمة جديدة اختبرها الوسط الثقافي المصري بإعلان الكاتب محمود عطية بيع مكتبته الخاصة، التي تضم أمهات الكتب وموسوعات تراثية لعدد من كبار الكتاب والمؤرخين والأدباء، وذلك بسبب ضائقة مالية وظروف خاصة.
الحادثة الجديدة التي كان بطلها عطية، صاحب كتاب "مصر المفروسة"، والذي حقق مبيعات كبيرة عام 2009، فضلاً عن تنوع مؤلفاته بين الأدب والكتابة الساخرة والمقالات في الصحف والمجلات المصرية، نكأت جراح الوسط الثقافي مجدداً بعد حوادث عديدة سبقتها بأشهر معدودات وربما سنوات. كما أعادت إلى الأذهان التساؤل حول سبب إقدام أي كاتب على بيع مكتبته الخاصة التي تضم أحياناً آلاف الكتب التي اقتناها على امتداد عمره، وتعد أهم ممتلكاته؟ وكيف يقرر أن يبيعها بثمن زهيد قد لا يساوي في بعض الأحيان ثمن كتاب واحد؟ وهل الكتابة مهنة مربحة في مجتمع بات يعاني فيه المثقف من شظف العيش والفقر والمرض؟
واقع الثقافة المرير
بدأت الحكاية مع عطية في مقطع فيديو نشره عبر حسابه الشخصي على "فيسبوك"، مرفقاً إياه بكلمات صادمة وحزينة: "إنها مرتي الأولى التي أجني فيها مالاً من الكتب. مكتبتي بعتها لأنفق على مطالب الحياة الصعبة، وحتى أتواءم مع مجتمعي. نحن نكره الكتب ونكره من يفكرون ونكره من يقرأ". هكذا أعلن عطية بيع مكتبته. خطوته تلك قوبلت بتفاعل كبير من متابعيه، إذ كتب مدحت البسيوني "ليس لدي ما أقوله.. ثروة العمر الحقيقية فقدت قيمتها أمام معاناة الحياة في مجتمع اعتلته ثقافة أغاني المهرجانات"، بينما قال محمد رضوان "هذا ظلم فادح أن يتعرض رجل مثلك إلى بيع مكتبته للإنفاق على تكاليف الحياة"، بينما كتبت عفاف حمدي "شيء تعيس.. أرجو ألا تحزن".
لأسباب خاصة وظروف مادية وصحية صعبة، قرر محمود عطية أن يلجأ إلى هذا الخيار المرّ. قرار لم يتمن يوماً أن يحدث، لكن زيادة متطلبات الحياة كانت أقوى، لأن معظم الذين يمتهنون الكتابة يمرون بظروف صعبة مع تضاؤل حجم القراء، وبالتالي مبيعات الكتب.
ضمّت مكتبة محمود عطية، وفق حديثه مع "الميادين الثقافية"، مؤلفاته الخاصة، ونوادر من الكتب والنسخ الأولى والأصلية من موسوعة "ألف ليلة وليلة"، وخطط المقريزي كاملة وغيرهما، لكن، وفق تعبيره، ماذا تفعل الكتب في ظل ضغوطات الحياة؟ مضيفاً: "هذا الأمر وإن كان يدفع إلى السخرية والضحك من واقع الكتاب والكتابة، لكنه يعكس الواقع المرير للثقافة والعلم".
"الأكل أهم من الثقافة"
كثيرة هي الأزمات التي مرّ بها مثقفون وكتاب في مصر، تشبه حالة عطية. فقد سبقها منذ سنوات، ضائقة ألمت بالمفكر الراحل أنور الجندي، والذي أصدر 200 كتاب في مجالات الثقافة والفكر والتراث، حين باع مكتبته، وقبلها عباس محمود العقاد، حيث باع جزءاً من مكتبته حين عانى من أزمة مالية.
وقائع شبيهة أخرى حصلت العام الماضي، حين قررت الكاتبة صافيناز كاظم، في آب/أغسطس 2023، عرض مكتبتها على "فيسبوك" للبيع مقابل مليون جنيه، وإعلان بيع مكتبة الكاتبة الراحلة نوال السعداوي، فضلاً عن الحديث عن بيع مقتنيات ومكتبة الفنان الراحل نور الشريف والتي تضم نحو 6 آلاف كتاب في مجالات الأدب والفنون والفلسفة والدين، مثّلت في مجملها صدمات للكتاب والمثقفين.
أما أحدث تلك القضايا قبل قرار محمود عطية، فكان بطلها الكاتب الصحفي محمد أمين، الذي أطلق مقولة "الأكل أهم من الثقافة"، بعد تبرعه بمكتبته رغم أن "التبرع بالمكتبة يشبه التبرع بالأعضاء".
التعاطف الإنساني الذي أبداه محمد أمين، مع أحد الأشخاص الذين يجمعون الصحف القديمة لبيعها، دفعه إلى هذا التبرع لمد يد العون لمحتاج، قائلاً:" لم أبع مكتبتي بسبب ضائقة مالية لكنني وجدت شخصاً يمر بظروف صعبة وطلب مني صحفاً قديمة يبيعها لمواجهة أعباء الحياة، فوجدت نفسي أعرض عليه مكتبتي بالكامل".
الظروف المعيشية للعمّ علي، الذي فاز بالمكتبة، حرّكت مشاعر أمين، الذي قال لـ"الميادين الثقافية"، "لقد تعاطفت معه بشدة وتبرعت له بكتبي، وهذه هي المرة الثانية التي أهدي فيها مكتبتي، فالمرة الأولى كانت لمسجد قريتي ومسقط رأسي، والآن ورغم ذلك، لدي شعور بأن شيئاً ما ينقصني".
موقف أمين أحدث ضجة في الوسط الثقافي، لكنه في المقابل يرى أن "الثقافة التي لا توفر الغذاء للفقراء تبقى نظرية ولا قيمة لها"، فالصحافة والكتابة بشكل عام "متأكلش عيش"، ولا يوجد اهتمام بالثقافة في مصر ولا العالم العربي، والمكتبات في النهاية مصيرها إلى بائع الكتب القديمة أو "الروبابيكيا" والخردة أو رصيف سور الأزبكية الشهير الذي يبيع الكتب المستعملة في القاهرة، أو بائعي الكتب في الميادين العامة، وكل ذلك لا يتساوى مع ملء البطون الجائعة وهي أهم من العقول والكتب".
لماذا يضطر المثقف إلى التخلي عن مكتبته؟
في العام 2019، كشفت رابطة المؤلفين الأميركية لمؤلفي الكتب، عن تفاقم معاناة المؤلفين في أميركا وبريطانيا والغرب عموماً، إذ أصبحت الكتابة غير كافية لكسب قوت يومهم في كثير من الأحيان. أما في عالمنا العربي فتتفاقم تلك الأزمة، خصوصاً مع تراجع سوق النشر، ما يضطر بعض الكتاب إلى القبول بمقابل رمزي أو الدفع لدور النشر بدلاً من تلقي الأموال لنشر أعمالهم. فضلاً عن غياب أي نقابة أو جمعية فعّالة لحماية حقوق المؤلفين العرب، فأضحت عرضة للضياع ما بين الناشرين والسلطات الحكومية والجمهور، حتى بات المؤلف، في النهاية، الحلقة الأضعف.
وتبقى ظاهرة بيع المثقفين مكتباتهم، مؤشراً على أزمة ثقافية ومادية تطرح أسئلة عميقة حول قيمة المعرفة والثقافة في مجتمعاتنا العربية، وفق حديث الشاعر والناقد سعيد نصر لـ" الميادين الثقافية".
ويرى نصر أن المكتبة الشخصية بمنزلة كنز ثقافي يضمّ ثروة من الأفكار والمعارف لصاحبها بعد أن جمعها بعناية وجهد على مدار سنوات طويلة. كما أنها رفيقة دربه وشاهد على ثقافته واهتماماته الفكرية، لذا فإن بيعها خسارة فادحة للمثقف نفسه وفقدان لجزء من هويته الثقافية.
وتشير تلك الظاهرة، وفق نصر، إلى الأزمة المادية التي يعاني منها العديد من الكتاب والمؤلفين في العالم العربي، وهي في مجملها مقلقة وتؤكّد الحاجة الماسة إلى دعم المثقفين مادّياً ومعنوياً، وتتطلب جهداً مشتركاً من الحكومات والمؤسسات الثقافية لدعم الكاتب وضمان حقوقه المادية في التأليف والنشر.
وعلاوة على الفقر أو الحاجة المادية، فإن ثمة أسباباً أخرى لأزمة الكتّاب، أهمها عصر الإنترنت ووجود مئات التطبيقات التي أتاحت آلاف الموسوعات الشاملة وملايين الكتب الإلكترونية في شتى المجالات مجاناً. الامر الذي جعل تخزين الكتب في مكتبات وأرفف أمر لا يروق للبعض، وفق حديث الناقد المصري أحمد عبده.
لكن بيع أي مثقف مكتبته بسبب ضائقة مالية أو ظروف مرضية، وفق عبده، أمر يدعو للحزن على ما وصلت إليه الثقافة في العالم العربي، وإن كان بصيص النور الوحيد في الأمر وعزاء الكاتب هنا، هو التفكير بأن هناك آخرين ربما يستفيدون منها بدلاً من تكديسها في المنازل.