"اسحليني يا نن عيني".. ما سرّ سخرية دراما رمضان من الشعراء؟
من السينما إلى المسلسلات تظهر السخرية واضحة من شعراء الفصحى والعامية في مصر.. فما السبب؟
تدفعنا دراما شهر رمضان هذه السنة إلى طرح عدد من الأسئلة: هل من المصادفة أن تنضم شخصية الشاعر إلى صف الشخصيات النمطية الكاريكاتورية كالمعلم والمأذون والمحامي في عدد من المسلسلات المصرية وقبلها السينما؟ ولماذا يتم تقديم شخصية الشاعر بطريقة سطحية وساخرة كأنه إنسان ساذج أو مجرد "صنايعي ألفاظ"، فيما يبقى الروائي أو الفنان التشكيلي أو العازف والملحن بمنأى عن ذلك؟
طرحنا هذه الأسئلة على 3 من كتّاب المسلسلات والسينما في مصر أملاً في الوصول إلى أجوبة، لكنهم رفضوا الحديث لأسباب عدة، كأنهم لا يريدون إعلان موقف محدد من المسألة! ولذلك قررت "الميادين الثقافية" أن تحمل أسئلتها تلك وتعيد طرحها على شعراء وكتّاب للوقوف على آرائهم.
هكذا يرى الأستاذ الجامعي شوكت المصري أن التناول الدرامي لشخصية الشاعر ينقسم إلى تصورين أحدهما تاريخي وجاد مثل فيلم عنترة بن شداد، وهو فيلم رديء فنياً، أو في مسلسل "الحشاشين" في شخصية عمر الخيام، أو أحمد رامي في مسلسل أم كلثوم، أو شخصيات شعراء جاهليين كما في مسلسل الزير سالم.
أما الشكل الآخر لتجسيد شخصية الشاعر، والذي غالباً ما يكون شاعر عامية، فيعتبر المصري أن هذا النمط "له أصل في الواقع" يتمثل في من أسماهم بـ"شعراء الترند" الذي يرددون كلاماً لا يحمل سوى جِرس موسيقي، فلا رؤية ولا معنى، وأداؤهم الفني لا يختلف كثيراً عما شخصه مصطفى أبو سريع (شخصية عربي في مسلسل أشغال شاقة) في قصيدة "اسحليني يا نن عيني"، أو في الأشعار التي يرددها حاتم صلاح في أدائه لشخصية "نفادي" في مواقف متفرقة في مسلسل "الكبير أوي".
ويطالب الأستاذ المساعد في النقد الأدبي الحديث هؤلاء "الشعراء" ببعض الوضوح والشجاعة في مواجهة أنفسهم، فقصيدة شعر العامية اليوم، والشعر عموماً، تراجعت، حيث عادت قصيدة العامية المصرية إلى مربع القصيدة المحفلية التي يمثل الجمهور ضلعاً مهماً في تركيبها.
أما شعراء الفصحى فباتوا يكتبون قصيدة موزونة ومقفاة مستهدفين فيها ذائقة لجان التحكيم في مسابقات الشعر المحلية والعربية. إذ نجد الشاعر يكتب من أجل المتلقي أو الجائزة، فيما المتلقي لا يريد سوى التفاعيل والموسيقى لا أكثر، وبالتالي فإن الدراما لم تظلم صورة الشاعر في لحظتنا الحالية بعد تنازل الأخير عن تحقيق أي رهانات جمالية جديدة.
من جانبه، يرى الكاتب الصحفي محمد الزلباني أن غالبية كتّاب الدراما اليوم لديهم أزمة تسطيح في تناول العديد من المهن. ويظهر هذا في الجيل الدرامي الحالي، أو ما يعرف بجيل كتاب الكومباوندات، وربما لأن الشاعر ينتمي أكثر لزمرة المثقفين، ويرتبط في المخيال الشعبي بالجلوس الدائم في مقاهي المثقفين، كما حدث في مسلسل "الصفارة" لأحمد أمين مثلاً؛ وبالتالي فإنهم رأوا فيه نموذجاً سهلاً لهذا الشكل من التصوير.
ويشهد الزلباني أن غالبية الشعراء والمثقفين بشكل عام، لديهم أزمة تواصل مع الناس، حتى شعراء العامية - غير الشعبويين - فإنهم في الغالب يميلون للاستعارات والتشبيهات التي لا يفهمها من لا يتذوق الشعر، لافتاً إلى أن أنماط وتوجهات شعراء اليسار منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى الآن، تغري أي سيناريست في خلق هذا التنميط الدرامي.
وبينما يرى المصري أن مستوى القصيدة العامية اليوم يعد أحد أسباب تنميط صورة الشاعر في مسلسلات رمضان، فإن شاعر العامية محمد فرغلي يتساءل: إذا كان الشعراء يحبون الفن والدراما ويجدون فيها محفزاً للمخيلة، فهل يبادل الطرف الآخر الشعراء هذه المحبة؟
"الإجابة نعم ولا معاً"، يقول.
ويرى فرغلي الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في شعر العامية، أن الأزمة تتجلى في ندرة الأعمال التي تقدّر قيمة الشاعر، كما في فيلم "ديل السمكة" الذي كان يردد بطله "عمرو واكد" في فواصل المشاهد رباعيات الشاعر المصري الراحل صلاح جاهين، بل كان العمل كله إهداء للشاعر، فيما معظم الممثلين يستخدمون الشعر باستخفاف من باب الكوميديا، بينما لا يظهرون في الوقت ذاته أن هذا النوع من الشعر يسمى "الشعر الحلمنتيشي"، الذي يعتمد على الفكاهة والسخرية، ورغم ذلك فإن له خصائصه وطريقة كتابته وأدواته.
ويعتقد فرغلي أن هذا النوع الشعر جعل غير الشعراء يتجرأون على الشعر والسخرية منه في أعمالهم، كما قام بذلك الفنان عادل إمام في مسرحياته وأفلامه، كما في فيلم "مرجان أحمد مرجان" وقصيدة "الحلزونة".
ويعتقد فرغلي أن من الصعب السيطرة على هذه الظاهرة للتشابك بين الواقع الحقيقي وأمزجة صناع السينما والدراما من "أصحاب العقول الموجهة لتضليل الرأي العام". فالأمر ليس وبالًا على الشعراء فحسب، "إذ لم يسلم الفنانون وأصحاب المواهب عموماً من السخرية، وكذلك العلماء وأصحاب المهن التي تنفع الناس على يد بعض خفاف العقول ممن يدعون النجومية عبر السوشيل ميديا".
أما الناقد الفني إبراهيم أردش فيشير إلى أن صورة الشعر في الدراما "امتداد لصورة المهن القائمة على الثقافة والمعرفة، فقد تعرضت مهن كثيرة وأنماط من الشخصيات تمتلك معرفة وثقافة إلى كثير من السخرية مثل شخصيات المعلم، والمأذون والمحامي لفترة طويلة من الزمن".
ويرى أردش الحاصل على "جائزة الشارقة للإبداع العربي" في فرع النقد، أن "الدراما اتخذت مؤخراً من اللغة العربية الفصحى وسيلة للسخرية من الشخصية الدرامية، وهذا أساء كثيراً إلى العربية الفصحى وجعل الناس لا يحبونها ويخافون التحدث بها، وتأتي السخرية من الشاعر امتداد لهذه الحقبة الطويلة من السخرية سواء من المثقف أو صاحب المعرفة".
أما عن السخرية من شاعر العامية فيرجعها أردش إلى أن الكتابة تعد من الفنون غير المربحة مالياً، وتالياً يعتبر الكثيرون أن الشعر مضيعة للوقت، وأن الشاعر يستغل وقته في الكتابة للظهور في الندوات من دون الحصول على مردود مالي حقيقي.
ويتوقف الباحث المصري الشاب عند السخرية من الشعر الفصيح عبر مشاهد يقول فيها الممثل أحياناً أبيات باللغة العربية الفصحى بطريقة ساخرة، على الرغم من أنه ينطق كلمة نحوية صحيحة ويدّعي أن ذلك شعر فصحى. حتى أن شعر العامية الذي يقال في مثل هذه الأعمال لا يكون خاضعاً لأوزان، وأحياناً يكون كاتبها هو الساخر من الشعراء، فهو ليس شاعراً وربما لا يكون لديه تصوراً لكلمات الشعر، فهو يأتي بكلمات مسجوعة ويمررها في سياق أنها شعر فقط.
ويعتقد أردش أن ترميم صورة الشاعر سواء في الدراما أو السينما تحتاج وقتاً طويلاً، بشرط أن يترافق مع إصلاح حال المنظومة المتعلقة بالفنون الكتابية.