"مهرجان أيام قرطاج السينمائية".. الثقافة في خدمة فلسطين
لم يكن "فلسطين في قلب أيام قرطاج السينمائية" شعاراً يرفع من قبل هيئة التنظيم بعيداً من نبض المهرجان وإيقاعه. إذ وضعت إدارة المهرجان للدورة الــ 35 برنامجاً ثرياً يحتفي بالسينما الفلسطينية.
بعد أن احتجبت الدورة السابقة من "مهرجان أيام قرطاج السينمائية" جراء العدوان على غزة ، وما ارتكبه كيان الاحتلال من مجازر، يلتئم المهرجان هذا العام في دورة تجسد الثبات في دعم القضية الفلسطينية، والمراهنة على سينما المؤلف وقدرتها على إيصال رسائل إنسانية مؤثرة ومغايرة، حيث اختارت إدارة المهرجان برئاسة المخرج فريد بوغدير تكريم السينما الفلسطينية إلى جانب التجربة السينما الأردنية والسنغالية كضيوف شرف.
ولم يكن "فلسطين في قلب أيام قرطاج السينمائية" شعاراً يرفع من قبل هيئة التنظيم بعيداً من نبض المهرجان وإيقاعه. إذ وضعت إدارة المهرجان للدورة الــ 35 برنامجاً ثرياً يحتفي بالسينما الفلسطينية. وإلى جانب تكريم المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، برمجت إدارة المهرجان عرض 19 فيلماً فلسطينياً سواء في "سينما الشارع" أو داخل قاعات العروض، ليكون جمهور المهرجان على موعد يومياً مع عرضين أو 3 للأفلام الفلسطينية. وكذلك فيلم "ما بعد" لمها الحاج التي تنقل عمق المأساة التي يتجاوز فيها العدوان الأرض والبيوت إلى انكسار الانسان الفلسطيني في وجدانه ووجوده.
وكان عرض الافتتاح مخصص لفيلم "ما بعد" الذي لعب بطولته محمد بكري وعرين عمري وعامر حليحل، وجاء ليضع المشاهد العربي أمام حالة إنسانية في المجتمع الفلسطيني يعيش فيها الوالدان صدمة وإنكار لفكرة فقدانهما خمسة أبناء في غارة إسرائيلية قبل 20 عاماً.
ويحيلنا الفيلم على صورة قاتمة للمجتمع الفلسطيني الذي يرزح تحت وطأة الاحزان والآثار النفسية العميقة للاعتداءات الإسرائيلية، محاولاً الإضاءة على اعتداءات المحتل التي قد لا تخلدها كاميرا نقل الواقع، غير أن عدسة مها الحاج نجحت في نقل المشهد بأحاسيسه وأوجاعه وانكساراته، لتقول للمشاهد العربي إن المحتل يعمل على كسر الانسان قبل البنيان.
جناح للتعريف بالسينما الفلسطينية المناضلة
واختار المهرجان أن يوغل هذا العام في رفع شعار الثقافة في خدمة القضايا العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ليتجاوز ما هو آني وحدثي، وينبش في ذاكرة السينما الفلسطينية، ليعرف بإسهاماتها في نشر السردية الفلسطينية، وفي نقل قصص صمود الشعب الفلسطيني، وذلك من خلال افتتاح جناح خاص بالسينما الفلسطينية في بهو مدينة الثقافة طيلة أيام المهرجان، يقدم للزائرين وثائق نادرة ومقتطفات من أفلام فلسطينية مميزة.
ويجشد جناح السينما الفلسطينية التحام السينما في فلسطين بالأحداث الفارقة التي شهدتها في تاريخنا المعاصر، حيث يكاد يبدأ التأريخ للسينما الفلسطينية المناضلة بعد ظهور الثورة الفلسطينية في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين. ذلك أن الوثائق السينمائية الفلسطينية بعد النكبة تكاد تكون محدودة، وأغلب الوثائق البصرية التي يمكن العودة إليها اتلفت، ليذكر المؤرخون أسماء مثل جمال الأصفر وخميس شبلاق وأحمد حلمي الكيلاني، من دون أن تتوفر أحياناً نسخاً لأعمالهم التي توثق لتلك الحقبة، لتنحصر أو تكاد الاعمال الموثقة قبل عام 1948 على أشرطة وثائقية لعدد من المخرجين اليهود تعرف بفلسطين ومدنها وتوثق للحياة اليومية فيها في تلك الحقبة.
ميلاد السينما الفلسطينية بتعريفها المعاصر وبُعدها المناضل كان منذ ستينيات القرن الماضي حيث أسهمت "منظمة التحرير الفلسطينية" في إنتاج العديد من الأفلام التي تعرّف بنضالات الشعب الفلسطيني وتوثق لجرائم الاحتلال، لتقدم السردية الفلسطينية للأحداث وتجسد الفكر الثوري الذي لا يفرق بين الصورة والبندقية في خدمة البعد الثوري المستلهم من التجربة الكوبية.
ولتوثق الصورة المناضلة الانتقال من الشتات إلى العمل المسلح ومواجهة الاحتلال بأبسط الأدوات، التحمت الاعمال السينمائية بأبرز الاحداث الفارقة على مدار تاريخ الصراع التي خاض فيها الشعب الفلسطيني ثورته ليصدح أمام العالم برفض الرضوخ ورفض الاستسلام.
على امتداد عقود إذاً، أسهمت السينما الفلسطينية باختلاف تجاربها الوثائقية أو الروائية في رفع راية النضال من أجل الحرية والانعتاق من نير الاحتلال، ونقل صورة الانسان الفلسطيني المتعلق بأرضه والرافض لسياسات الاضطهاد والقهر والمتمسك بالحرية واستعادة حقوقه المسلوبة، لتتعاقب الاعمال الفنية وتتعدد أسماء المبدعين الفلسطينيين في هذا المسار الفني المناضل الطويل.
ولعل فيلما "لا للحل السلمي" و"فلسطين في العين" لمصطفي علي، يعدان من اللبنات الأولى لهذا المسار الزاخر بالأعمال الفنية الفارقة في تاريخ السينما الفلسطينية المناضلة. كذلك الأمر مع أفلام "حرب الأيام الأربعة" لسمير نمر، و"أنشودة الأحرار" لجان شمعون، و"صوت من القدس" و"وطن الأسلاك الشائكة" للمخرج العراقي قيس الزبيدي، والقائمة تطول والأسماء تتعدد إلى أن نصل إلى ما يعرف بالسينما الفلسطينية الجديدة لتقدم لنا باقة متنوعة من الأفلام التي حصدت العديد من الجوائز في المهرجانات العالمية بسبب عمق الطرح وجودة الحبكة وجمالية الصورة وتميز الأداء. كما في أعمال مي مصري، واليا سليمان، ورشيد مشهراوي، وهاني أبو أسعد، ومحمد بكري، وصبحي الزبيدي وغيرهم.
ولم تقتصر الاعمال السينمائية الفلسطينية على التأريخ للصدمات التي مر بها الانسان الفلسطيني من النكبة إلى النكسة ثم الانتفاضات والجرائم المتعاقبة يومياً من قتل وتعذيب واعتقالات، بل حرصت أيضاً على زراعة الامل وتعزيز إيمان الانسان الفلسطيني بانتمائه وبعدالة قضيته وإنسانية حقوقه التي لن تسقط بالتقادم.
ولعل حرص "مهرجان أيام قرطاج السينمائية" هذا العام على تكريم السينما الفلسطينية والتعريف بتاريخها النضالي، والتصاق الصورة فيها بعدالة القضية وشرعية المطالب، يجسد عمق النهج الذي اختاره المهرجان تاريخياً في الانتصار لقضايا الحق والقضايا الإنسانية والتعريف بسينما المؤلف وبقضايا دول الجنوب، حتى يشق طريقاً تختلف عن مهرجانات الأضواء والبهرج الزائف الذي يكرس لثقافة الابهار أو الاشهار، بعيداً من المضامين الجادة والرسائل الإنسانية الحقيقية.