"على أطراف الأصابع": السردية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال
هذم الرواية تحمل بين طيّاتها رمزية استمرار تدفّق الدم الفلسطيني وتُحمّل استمرار صوت المطالبة بالعودة إلى فلسطين المحتلة. ذلك الصوت الذي بات جزءاً من ثقافة الفلسطيني وأحلامه.
مع استمرار الصراع بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي، تساهم السردية ـــــ والرواية خصوصاً ـــــ في تشكيل تيارٍ فكري وأدبي أثّر في حشد الرأي العام حيال القضية الفلسطينية. ومع تصاعد أحداث العنف في غزة اليوم، وتواصل عمليات التطبيع مع العدو الإسرائيلي تحضر الرواية كعاملٍ مؤثّرٍ في كسب التعاطف ولفت الانتباه إلى أصحاب الحقّ؛ إذ لطالما كانت تلك السرديةُ عاملاً من عوامل المقاومة في الصراع العربي الإسرائيلي. ومع ترويج الدعاية الصهيونية لغاية تعويم المظلومية اليهودية في العالم، تأتي الرواية لتسلّط الضوء على نكبة الشعب الفلسطيني وما تبعها من تهجير وتشريد.
وضمن السياق المذكور تحضر رواية "على أطراف الأصابع" (دار المصري 2024) للكاتبة الفلسطينية "ميرفت أبو العينين" لتكون بمثابة تسليط مكثّف وعميق على معاناة النساء الفلسطينيات تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي. وضمن مجتمع قاسٍ وأعرافٍ صارمة، تسرد الرواية سيرة ذاتية للفتاة "خضرة" وهي فتاة تواجه التحديات الاجتماعية والسياسية، وتكشف عن تأثير الأعراف والتقاليد إلى جانب الاحتلال على مصيرها. لذا تستعرض الكاتبة تجاربها مع باقي الفتيات. فتظهر صراعاتهن اليومية ضمن نوعين من أنواع العنف والقمع؛ أولهما وأقساهما الاحتلال، وثانيهما حريتهن المقيّدة؛والتي كان لبعضهن الهروب إليها، وكسر القيد بشيءٍ من الإرادة المملوءة بالكرامة.
تبدأ حكاية خضرة من يوم ولادتها، واستعراض تلك اللحظات المملوءة بالخشية من جرّاء قدوم مولودة عوضاً عن ذكرٍ انتظر قدومه أفراد العائلة. وعلى أطراف مستوطنة "جفعات شاؤول"، تجري الحكاية في أحد شوارع قرية دير ياسين. وبين حاراتها تنمو لدى خضرة الرغبة في الاستقلال، وأن تكون امرأة مختلفة عن باقي النساء في القرية. مسنودةً بصوت أبيها وقراراته النافذة، تستمرّ في تلقّي التعليم. إلا أنّ اللافت في استعراض سيرتها الذاتية أنها وعلى الرغم من أخبار الاحتلال المتصاعدة، وتدخّل الإنكليز في تفاصيل حياتهم ومحاصيلهم، وضمن مناوشات تفرض احتمالية السلب أو القتل على الطرق بين البلدات، تستمرّ خضرة في تحقيق حلمها وكأنها تعيش في عالم موازٍ وبعيدٍ عن عالم الحرب. ومع استمرار الخيبات وتصاعد وتيرة الأحداث بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تحضر الرواية لتسرد الظروف التي سبقت المذبحة. وكيف تحوّل العالم لدى الفتاة في يوم وليلة. إذ لم يكن أيّ من سكان البلدة قبل الهجوم الكبير يعتقد أنها ستكون الليلة الأخيرة. هكذا تُوأد الأحلام، وتُغتال المصائر في مكان حوى ذكرياتهم وآلامهم، وجمع كلّ ما يربطهم بأرض الأب والجدّ. يتحوّل العالم في قرية دير ياسين إلى مكان أشبه بالجحيم. هذا ما ترويه "خضرة" وهي إحدى الناجيات من المذبحة الكبيرة. ذلك أنّ السرد الذي يعود نحو الماضي، أيّ من لحظة عودتها لتعاين حيّهم بعد سنوات من التهجير، يقارن دير ياسين الأولى بالمكان الذي تغيّرت ملامحه، وبالمستوطنات التي حوّلت معالمه. هكذا تعاين منزلهم القديم المسكون بالغرباء، وقيامهم بتحويل حجارته المتينة إلى سكنٍ آخر لأغراض شخصية. وكأنّ البطلة تريد أن تخبر العالم بالكيفية التي قام الاحتلال عبرها بتغيير المعالم، وهدم الأصول، وسرقة الحقوق.
تعيش خضرة حالة الكبت وكتمان الغيظ على مكان طفولتها، ومن خلال ثقب قديم في جدار البيت، تستعيد يوم المذبحة وكيف انسلّت نسوة فلسطينيات هاربات من الجنود على أطراف أصابعهنّ، إلا أن الكتيبة هاجمتهن وحاول عناصرها سلبهن مصاغهن وكراماتهن. ذلك العنف الذي بورك بتأييد الدول الكبرى، وصمت الدول العربية. كان النصل الذي غُرِسَ في قلب الجسد الفلسطيني ولمّا يُنزع منه بعد. هكذا تتقدّم الرواية بهمس خفيف ومفردات بعيدة عن القسوة، بل مملوءة بالحنين وكأنها تناجي من كان يهرب على أطراف أصابعه من العنف والقتل. ومن يجد في الصمت على الظلم ملاذاً لتأجيج جذوة الأمل. وكذلك تمسي الكتابة انقلاباً على السرد الموازي للإعلام الغربي. والذي يصوّر القاتل من موقع الضحية. هذا ما تهدف إليه الرواية لترتقي بالسردية الفلسطينية إلى صوت المقاومة الحرّة.
يكون الاستمرار والنجاة بعد المذبحة بمثابة صراع مع الحياة، ومع (اللثغة) اللغوية التي رافقت خضرة منذ ولادتها، تلك العلّة التي منعتها من تحقيق حلمها في أن تصبح معلمة، تجسّدُ إسقاطاً على المرض الذي أصاب البلاد، وكأنها تقابل لعنة المرض باللعنة الأبدية المتمثّلة بالاستيطان الإسرائيلي. وهي في الوقت نفسه، العلّة نفسها التي منعتها من إكمال دراستها. ظلمةٌ فوق ظلمةٍ، هكذا يبدو عالم خضرة بينما تهدم الكاتبة من حولها كلّ الأنساق الثابتة والعصيّة على الهدم في الواقع. الاحتلال، الأعراف، التهجير والعودة تقاومها خضرة ببسالة مثلما تتحايل على لفظ الحروف مداراةً لعلّتها. نجدها تقاوم ذكرياتها في دير ياسين بالعودة ووصف الحياة التي كانت عليها قبل تدمير القرية بشكل كلّي. هي صورة فلسطين الأولى، وصورة البلاد قبل أن يدهمها ليل طويل وتسودها غربان الظلام. ديار خضرة، التي تحوّلت إلى خراب مذ أتى إليها الإنكليز بمرتزقتهم، وسلبوا الشعب أمانه ورموه إلى المخيمات. وذلك لا يعني أن الكاتبة عادت نحو الماضي للتحسّر، بل جسّدت بتلك العودة توثيقاً لغاية نسب الحقّ إلى أهله. وطبع صورة فلسطين التي كانت ولا تزال للفلسطينيين. هي عودةٌ ليست لذرّ الدمع والتأسّي على ما فات، بل رصدٌ تاريخي لما هو مقبل، واستمرار لنهجٍ غايته استعادة ما سلبه الاحتلال.
واختيار ميرفت أبو العينين لتذكيرنا بمجزرة دير ياسين، وختام روايتها بها ليس من باب العبث، بل يحمل بين طيّاته رمزية استمرار تدفّق الدم الفلسطيني. هكذا بصوت موجوع تُحمّل ذلك الاستمرار صوت المطالبة بالعودة. ذلك الصوت الذي بات جزءاً من ثقافة الفلسطيني وأحلامه. هو حلم الذات بأن تعود إلى مكانها الذي جاءت منه. وحلم المهاجرين وسكان المخيمات بهدف واحد؛ وهو العودة والانتصار للشعب الذي طرِد من أرضه تحت سطوة الاستيطان الإسرائيلي. "أحضرونا إلى هنا عام 1956، ووضعونا في هذه القرية رافضين طلبنا وإلحاحنا بالعودة، قطع صوتي. فشردتُ بوجهي إلى السماء، انهمرت دموعي من عيني، ففرك جبينهُ ومسح العرق واستطرد قائلاً: كما تحبون بيتكم، أنا أيضاً أحبُّ بيتي. رفع عينيه، وغرس نظرهُ في عيني، فحدّقت بإلحاح جارح. ترقّب أن يلدَ خرَسِي شيئاً. كان عليّ أن أقول شيئاً. لكنني سقطتُ في جبّ العتمة، وساد السكوت والحزن والغضب المشهد".