"حرفتنا هويتنا".. من يحمي مهن الساحل السوري التراثية من الاندثار؟
جزء من الهوية الثقافية والتاريخية السورية، صناعات الفخار وصابون الغار والحرير.. من يحميها من الزوال؟
في قرية البراعم قرب جبلة جنوب اللاذقية على الساحل السوري، يجلس العم حسن حسن في محله الصغير، وأواني الفخار منتشرة حوله على الرفوف الخشبية العتيقة، فيما ملامح الحزن بادية على وجه الرجل الستيني بسبب تخوّفه من أن المهنة التي ورثها عن آبائه وأجداده في طريقها إلى الاندثار، نتيجة ضعف الإمكانيات وغياب الدعم الكفيل باستمرارها.
صناعة الفخار تمثل أقدم الصناعات التي عرفها الإنسان واحترفها، إذ كانت الأواني والقطع الفخارية حاجة حياتية أساسية، كونها رخيصة الثمن وجيدة الصنع وصحيّة تعطي الطعام والشراب طعماً فريداً ونكهة مميزة.
تراجعت صناعة مقالي الفخار في العقود الماضية، بعد منافسة الصناعات الحديثة ودخول الأواني المعدنية والبلاستيكية إلى الأسواق بشكل واسع، واقتصر استعمال الفخار على نطاق ضيّق ومحدود، كنوع من الزينة فقط أو استذكار التراث القديم، وهو ما أدى إلى إغلاق عشرات الورشات في سوريا عموماً، واللاذقية خصوصاً.
يقول حسن لـ "الميادين الثقافية" إن: "قرية البراعم تعدّ أم القرى التابعة لمحافظة اللاذقية في ريف جبلة، ومنها انطلقت العلوم والمهن التقليدية اليدوية، ومنها عرف تراثنا القديم صناعة الفخار الشهير؛ من أواني الطبخ وأواني حفظ الماء والزيت والعسل، إذ تكمن أهمية الفخار بالتراب الطاهر المستخدم والذي لم يتعرض لظروف التلوث، وهذا هو السر في أن الفخار صحّي بالمطلق".
ويضيف: "مهنتي كحرفي في صناعة الفخار ورثتها عن آبائي وأجدادي الذين هاجروا من اليمن إلى اللاذقية قبل مئات السنين، لذلك سأسعى جاهداً لتوريث هذه المهنة لأبنائي وأحفادي، فصناعة الفخار تمثل قيمة أخلاقية وتاريخية، رغم الصعوبات الكبيرة التي تواجهنا يومياً للبقاء وتدفع مهنتنا نحو الاندثار".
وعن الصعوبات التي تواجه صناعة الفخار وباقي المهن التقليدية في الساحل السوري، يشير حسن إلى أن الحرفيين يعانون من صعوبة تأمين المواد الأولية اللازمة لاستمرار عملية الإنتاج، إضافة إلى ارتفاع التكلفة بشكلٍ كبير مقارنة بقيمة المبيع، فصناعة الفخار تتم على أكثر من 10 مراحل، لكن أسعار البيع لا تغطي تكاليف الإنتاج بالمطلق.
كما يشير حسن إلى ضرورة حصول الحرفيين بمختلف صناعاتهم على القروض المعفاة من الضرائب لمساعدتهم في إدخال بعض الآلات المتطورة لتحسين الإنتاج كمّاً ونوعاً، وهذا الأمر يساهم في خفض كلفة الإنتاج بشكلٍ كبير ويوفّر الوقت والجهد لإتمام العمل.
مهن تأبى الاندثار
لم تكن المهن التراثية والحرف التقليدية في سوريا محصّنة ضد تداعيات الحرب التي عصفت بالبلاد قبل 13 عاماً، فنتيجة الظروف الاقتصادية والأمنية الصعبة عانت هذه المهن من تراجع غير مسبوق، وهذا ما يجعلها اليوم مهددة بالاندثار، إذ أكدت تقديرات رسمية تراجع إنتاج الحرف والمشغولات اليدوية بمختلف أنواعها بنسبة 50% ضمن محافظة اللاذقية وحدها.
قرى وبلدات ريف اللاذقية تضم عشرات المهن التراثية التي تأبى الاندثار ويصرّ أصحابها على إحيائها رغم العوامل المحيطة التي تدفعها نحو الزوال.
الباحث في تراث المنطقة الساحلية السورية وعاداتها، حيدر نعيسة، كشف في حديث مع "الميادين الثقافية" أن تاريخ الحرف اليدوية في اللاذقية يعود إلى الزمن القديم الأول. فالمدينة تضم مناطق كانت مأهولة قبل آلاف السنين، حيث كان الإنسان يعتمد على تلك الحرف لتأمين حاجاته الأساسية. كما اكتشف بدافع الحاجة ما يساعده على إنجاز أعماله في الرعي والزراعة وغيرهما، وقد تطورت تلك المهن من زمن إلى آخر، لكن السمة الأهم كانت في قدرة الإنسان على الحفاظ عليها من الاندثار.
ويشير نعيسة إلى أن الحرف اليدوية لها أهمية مركبة، فهي تشكّل مصدر دخل للإنسان وتلبّي حاجاته. كما أنها تحفظ التراث من خلال مواد العمل نفسها وآداب العمل وقيمه، عبر توريثها من جيل إلى آخر، من دون إغفال أنها ذات أبعاد جمالية وثقافية وسياحية واقتصادية كبيرة.
وينوّه الباحث التراثي إلى أن المهن التقليدية في اللاذقية تعرّضت للإهمال وغياب الدعم والتطور الصناعي والتكنولوجي الهائل، ما تسبب باندثار بعضها ووصول ما تبقّى منها إلى حافة الاندثار، وهذا يتطلّب العمل الجاد للحفاظ على ما تبقّى من حرف يدوية وحمايتها، عبر إقامة الندوات والمهرجانات ودعم المعارض وتمكين الأسواق التراثية، إضافة إلى تقديم الدعم والتسهيلات وتوفير متطلبات أصحاب المهن للحفاظ على أعمالهم.
صناعة الصابون من زيت شجر الغار
لطالما عرِفت شجرة الغار بفوائدها الصحية والروحية والجمالية،إذ يساعد الزيت المستخلص منها على تقوية الشعر ومنحه الرائحة الزكية، كما يساعد على الشفاء من الأمراض الجلدية، ويحفظ نعومة الجلد، ويخفف من آلام الظهر، إضافة إلى ذلك امتاز شجر الغار بقدسيته عبر التاريخ، من خلال ارتباطه بالأكاليل التي تزيّن هامات الأبطال.
لزيت شجرة الغار فوائد عديدة أخرى، فهو يشكّل الأساس في إنتاج صابون الغار، الذي يعدّ حكراً على السوريين، وفي هذا السياق، يؤكد الحرفي توفيق صلاح (62 عاماً) من منطقة كسب بريف اللاذقية، أن صناعة صابون الغار من الصناعات الزراعية القديمة، كونها تعتمد على الإنتاج الزراعي النباتي، ولا سيما مادة زيت الزيتون أو الزيت الحلو المخلوط مع زيت الغار والصودا ومواد أخرى، حيث يتم تسخين الخليط وتحريكه حتى يصبح متماسكاً ويكون الناتج هو الصابون السائل، قبل أن يوضع في قوالب خشبية مختلفة تعطي لألواح الصابون أشكالها النهائية.
ويؤكد صلاح في مقابلة مع "الميادين الثقافية" أن بلدة كسب اشتهرت بصناعة صابون الغار منذ مئات السنين، وهي اليوم مجمع كبير للحرفيين الذين يعملون في هذه المهنة، حتى أطلق البعض على المنطقة اسم "كسب الغار"، نظراً لكميات صابون الغار التي كان يتم إنتاجها سنوياً قبل الحرب. لكن الوضع تغيّر بشكل جذري خلال السنوات القليلة الماضية، حيث انخفضت كميات الإنتاج وأغلقت العديد من الورشات أبوابها.
مدير السياحة في مدينة اللاذقية فادي نظام، أكد لـ "الميادين الثقافية" أن وزارة السياحة تعمل للحفاظ على المهن التراثية من الاندثار، والترويج لها كجزء من التراث الوطني السوري، ولذلك تمت الموافقة على إحداث حاضنة تراثية تدريبية وسوق مهن تقليدية في المدينة، والهدف من الحاضنة تكريس وجود المهن التراثية وتحويلها لاحقاً إلى مصدر جذب سياحي واستثماري.
وأشار نظام إلى أن الحاضنة ستضمّ أغلب الحرف التقليدية والتراثية مثل: "صناعة الفخار، وصناعة الصمديات، وصناعة السفن، وتطعيم الخشب بالصدف، وصناعة السجاد، والحرير والبروكار والأغباني، وأواني القش، والرسم بالرمل، والحرف الجلدية، والحفر على الرخام"، وسيكون الهدف من الحاضنة تدريب أصحاب المهن للمهتمين بها، وذلك من أجل الترويج لها والحفاظ على وجودها وحمايتها.
مناديل الحرير ليست بمنأى
تعدّ صناعة الحرير الطبيعي يدوياً كنزاً أثرياً في الساحل السوري، لما تشكّله من قيمة اقتصادية وتراثية موجودة منذ زمن طويل في منطقة تكثر فيها أشجار التوت التي تعدّ المصدر الوحيد لغذاء دودة الحرير أو دودة القزّ.
ورغم القيمة الكبيرة التي تمثلها هذه الصناعة التقليدية، يكافح العاملون في تربية دودة القزّ للحفاظ على هذه المهنة التراثية من الاندثار، حيث تحوّلت اليوم إلى عبء على المربين الذين يواجهون صعوبات كبيرة لاستمرار أعمالهم، بعضها متعلق بالبيئة ومستلزمات التربية والحصول على البيوض من الخارج، والبعض الآخر مرتبط بتطور إنتاج الحرير الصناعي والمنسوجات الجاهزة، وهو ما جعل هذه الحرفة تواجه خطراً كبيراً.
يقول خضر الإبراهيم (51 عاماً)، أحد مربي دودة القزّ وصانعي مناديل الحرير في منطقة وادي القلع بريف اللاذقية: "تم إهمال تربية دودة القز وتراجعت صناعة الحرير خلال سنوات الحرب، رغم أنها كانت من المحاصيل الاستراتيجية، وهو ما كان يستدعي تطوير الإنتاج وليس إهماله".
ويتابع الإبراهيم في مقابلة مع "الميادين الثقافية": "تدهورت هذه الصناعة لأسباب عديدة، على رأسها ضعف التسويق، وانخفاض كميات البيوض وعدم القدرة على استيرادها، إضافة إلى تحوّل الناس إلى المنسوجات الجاهزة منخفضة التكلفة، وهذه العوامل ساهمت مجتمعة في تراجع إنتاج الحرير الطبيعي إلى مستويات قياسية، وهنا لا يمكن إغفال دور الحرب وآثارها على تراجع هذه المهنة، لكن رغم ذلك، نحاول البقاء في ورشاتنا كما فعلنا خلال الحرب من أجل تجاوز هذه المرحلة والنهوض بصناعة الحرير مجدداً".
وتعدّ خيوط الحرير التي تنتجها دودة القز من أفضل الألياف وأكثرها قوة ومرونة، كما تتميز الملبوسات الحريرية بوزنها الخفيف ولونها اللامع وقدرتها على الحماية من البرد مقارنة بمثيلاتها من النسيجية والقطنية.
وزارة الزراعة السورية وفي محاولة للحفاظ على هذه المهنة، قامت بدعم إنتاج دودة الحرير من خلال جلب آلة حل الشرانق من الصين، كما أجرت محاولات لزيادة عدد الشرانق، وقامت بإنشاء مجمع لإنتاج الحرير في اللاذقية، وزراعة عدد كبير من أشجار التوت الذي تعتمد عليه الدودة في غذائها ضمن جميع المناطق حيث توجد ورشات الحرير على الساحل السوري، في محاولة لإحياء مهنة تربية دودة الحرير "القزّ".
"تراثنا هو هويتنا"، يقول مدير الثقافة في اللاذقية، مجد صارم، إذ لا يقتصر الاهتمام بالتراث على المحافظة عليه في حقبة زمنية محددة، وإنما نقله من جيل إلى آخر، ويكون ذلك عن طريق الجلسات الحوارية التعريفية، والورشات الثقافية في المدن والأرياف، بالإضافة إلى المهرجانات السنوية التي تستهدف الحفاظ على التراث المادي واللامادي، من خلال تعليم أصول هذه المهن وطريقة العمل بها وأهم أساليبها.
ويشير صارم إلى دور وزارة الثقافة السورية في توثيق مسرح خيال الظل في منظمة "اليونيسكو" على قائمة التراث الإنساني، حيث عمدت الوزارة إلى نشر هذا العمل في المناطق الريفية عن طريق الورشات والندوات الثقافية وهي تعمل بالطريقة نفسها لتمكين وتطوير المهن التقليدية التراثية في أرياف اللاذقية للحفاظ عليها.
أمام الواقع الذي فرضته الحرب من جهة، والتطور التكنولوجي والصناعي من جهة ثانية، يعدّ الحفاظ على المهن التراثية ضرورة ملحّة، كجزء من الهوية الثقافية والتاريخية السورية. لذلك، يجب على الجهات المعنية توفير كامل الدعم لأصحاب المهن من أجل الاستمرار في أعمالهم، إضافة إلى التركيز على دور المعارض والأسواق والورشات والدورات التدريبية في الحفاظ على الحرف التراثية التقليدية وحمايتها من الاندثار.