"ترانيم في سيمفونية الحياة" بجزئها الثالث.. عن ثورة الفلسطينية المستمرة

ييقول الروائي البقاعي في ختام روايته: "نتطلع بثقة وأمل أن تكمل الأجيال هذا الطريق لاستكمال ما لم نتمكن من بلوغه، ونحن على ثقة بأنهم سينجحون في ذلك، وسيحققون المعجزة وينتصرون على المستحيل، وسيضعون حداً لهذه المهزلة التي تسمى اتفاقية أوسلو، وأكذوبة السلام".

  • "ترانيم في سيمفونية الحياة" بجزئها الثالث.. عن ثورة الزيتون المستمرة

إن كان الجزء الأول من رواية المناضل الفلسطيني كمال توفيق البقاعي "ترانيم في سيمفونية الحياة" والمعنون فرعياً بـ"الجزيرة" يماهي النضال في سبيل الحقوق الوطنية مع مثيله من أجل العدالة الاجتماعية، والجزء الثاني الذي يحمل عنوان "رياح التغيير" يتحدث عن المقاوم العاشق، والتماثل في الحب الموجَّه تجاه الوطن وذاك المتعلق بالزوجة الحبيبة، فإن ثالث أجزاء الرواية المعنون فرعياً بـ"بلاد الزيتون" يتمحور حول الدمج بين السيرة الذاتية ونظيرتها النضالية، لا سيما بعد اكتفاء بطل الرواية "عدنان" من الغربة واقترابه أكثر من أرض فلسطين التي تبقى بوصلة كل مناضل شريف، فكيف إن كان من أبنائها الذين تنسموا هواءها وذاقوا خيراتها إلى جانب عذابات التهجير القسري عنها.

إقرأ أيضاً: ترانيم في سيمفونية الحياة.. الجزيرة".. كل الحب قليل على فلسطين

تبدأ "بلاد الزيتون" بالتذكير بهزيمة أيلول الأسود التي لحقت بالثورة الفلسطينية في الأردن، لكن ليس في إطار التأسّي، وإنما باعتبارها انعطافة بيَّنت ضرورة مراجعة الأسباب المؤدية إليها، والتي نجمت عنها انطلاقة الثورة المعاصرة "لتجدد الأمل بالانعتاق من كل عقال يكبح الكبرياء والعنفوان والشموخ الفلسطيني من الانبعاث من جديد، والانطلاق في مسارات الحياة ودروبها المختلفة لفرض إرادته وإيقاعه الصاخب في وجه أعداء البشرية، وحثالات العصر الإمبريالي القبيح" وذلك بحسب توصيف الروائي البقاعي. انبلاج الزمن الثوري الجديد جعل عدنان يقرر الاستقرار في لبنان وذلك بغية الالتحاق بمسيرة شعبه وخدمة قضيته الوطنية، بعد سفره القسري إلى قطر لست سنوات ومن ثم إلى الكويت لمثلها من الأعوام تقريباً. 

المخيمات منطلق الثورة 

ذاك الاستقرار في مخيمات بيروت مكَّنه من التقاط التغيير الجوهري الحاصل لها، إذ تحولت من مجمعات سكنية مؤقتة لأناس التُقطوا في لحظة معينة وحشروا في هذه الأماكن مثل سردين في علب من التنك، إلى منطلق لثورة يتناغم أفرادها بإرادتهم الموحدة لصناعة ذاتهم الجديدة، من خلال بناء مؤسسات تحتضن الثورة وأفكارها، وتناهض مراكز القمع ومواقع المكتب الثاني ومخافر المهانة والذل التي كانت تسوم المخيمات اللبنانية عذابات مريرة، ساعدها في ذلك "اتفاق القاهرة" مع السلطات اللبنانية الذي خلَّص المناضلين الفلسطينيين من المخبرين وعناصر الأمن وأذنابهم، وجعل من مخيمي نهر البارد والبداوي في الشمال اللبناني، ومخيم الجليل في بعلبك، وعين الحلوة في صيدا، ومخيمات البص والبرج الشمالي والرشيدية في صور، إلى جانب مخيمات بيروت، كلها بمنزلة خلايا نحل للعمل الثوري، لذا انطلق عدنان إلى مكتب الجبهة الوطنية لتحرير فلسطين بالقرب من مخيم شاتيلا للقاء أحد أبرز قادة العمل الوطني الفلسطيني في لبنان والملقب بـ"أبي عدنان" الذي سلَّم الراية لبطل الرواية، وأولى مهماته كانت تثبيت البنية الهرمية للجبهة على مستوى المناطق كافة، خصوصاً بعد نجاحه التنظيمي حين كان في الكويت، وكي يكون متفرغاً لذلك اتفق مع زوجته سهير أن تعود إلى الأردن وتواصل عملها الوظيفي، واستأجر هو بيتاً صغيراً في بيروت كي يكون ملاصقاً لقلب الشعب اللبناني الذي كان ينبض بحيوية مع قلب القوميين العرب في معاركهم كافة، ويعيشها معهم، ويسكن همومهم، لا سيما من انضوى في إطار الحركة الوطنية اللبنانية من الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة كمال جنبلاط، والشيوعيين اللبنانيين، ومنظمة العمل الشيوعي، إلى البعثيين والقوميين الاجتماعيين والناصريين وغيرهم "ممن قدموا آلاف الشهداء للحفاظ على عروبة لبنان وصيانة الثورة الفلسطينية وبناء أسطورة الصمود الكفاحي للشعبين اللبناني والفلسطيني على طريق دحر الاحتلال الإسرائيلي، وفرض انسحابه إلى الشريط الحدودي، بعد احتلاله بيروت عام 1982، وذلك نتيجة صمود أسطوري في وجه أعتى هجوم عرفته المنطقة"، ويضيف البقاعي: "إنه الشعب اللبناني وطلائعه المناضلة، التي واصلت نضالها البطولي، وتمكنت من دفع العدو الصهيوني إلى الانسحاب المذل والفرار من الجنوب اللبناني إلى داخل المناطق المحتلة من فلسطين، أي المقاومة الإسلامية البطلة في حزب الله". 

ولم يكتف عدنان بوضع هيكلية شاملة لعموم المنظمة الحزبية في لبنان، وإحداث التوافقات بين منظمة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" والجبهة الوطنية لتحرير فلسطين، بل سعى لجمع أكبر قدر من المعلومات عن طبيعة المنطقة الفاصلة بين الأراضي اللبنانية والفلسطينية، وطبيعة السياج الفاصل والإجراءات الأمنية المتخذة على امتداد منطقة القطاع الأوسط للجنوب اللبناني، لأنها ستكون مسرحاً لعمليات المقاومة في الداخل الفلسطيني، التي بدأت أولى نشاطاتها باصطياد دورية للعدو الإسرائيلي داخل السياج الشائك، وكان عدنان مشاركاً في هذه العملية إلى جانب عناصر من الحركة الوطنية، وحينها "أطلق الكلاشن الروسي ألحانه الصديقة فيما خرس العوزي الإسرائيلي بالكامل". 

معزوفة المعركة

يصف البقاعي حالة بطله بالقول: "في البداية، سادته رعشة من الخوف والترقب، غادرته مباشرةً مع انطلاق معزوفة المعركة ورائحة البارود، كان في حالة عناق جميل مع الموت. كان يشعر بأن الدنيا تمنحه أجمل ما لديها، وفي لحظة واحدة شعر بأن كل ما كان يعد نفسه للحصول عليه منذ طفولته قد تحقق، كان في مواجهة مع الموت متسلحاً بإرادة فولاذية تقبض على الحياة بكل قوة، أجل نحن طلاب الحياة وعشاقها وليس هناك من أحد في هذه الدنيا أكثر استحقاقاً وجدارةً منا في مواصلة الحياة والتمتع بكل ما فيها، وعلى رأسها متعة مواصلة النضال. كان يقول دائماً، الموت هو وجهنا الآخر، وهو ظلنا الذي يواكبنا بصورة دائمة، وهو زميل حياتنا وصنوها". 

إقرأ أيضاً: "ترانيم في سيمفونية الحياة.. الجزيرة".. كل الحب قليل على فلسطين

إيمان عدنان ذاك مؤسس على مقومات الحق في الأرض، ولذلك فإنه يفنِّد المقولات الإسرائيلية ويحاجج في ادعاءات الصهاينة المستمرة بأنهم شعب الله المختار، وبأن فلسطين هي وطنهم، بينما لم يعثر أحدهم على هيكلهم المزعوم، ولن يعثروا، حتى إن عاصمتهم السياسية "تل أبيب" بنيت على أراضي مدينة يافا وقرابة تسع عشرة قرية بينها "الشيخ مؤنس، العباسية، عرب السوالمة، يازور، الخيرية، الرسوف، فجة، الجماسين، وغيرها"، و"سكانها جاؤوا من جهات الدنيا، ووضعوا كل إمكانياتهم في إشادة الأبنية الشاهقة والشوارع الفارهة وكل ما عرفوه من أسواق وبارات وملاهٍ ودور للفسق والمجون والقمار، علَّ هذا يؤمن راحتهم ويشبع أوهامهم بأنهم بناة حضارة عمرها لا يتجاوز عمر فلاح فلسطيني نشأ على هذه الأرض ولا يزال يكدح في ترابها ويعيش على خيراتها" والقول لعدنان.

الغضب الفلسطيني

ولذلك، من يشاركه هذا الإيمان ظلَّ يُقلق الأمن الإسرائيلي، ويقوم بالعملية تلو الأخرى لإحقاق الحق، والانتقام لكل الآلام التي أذاقوها للشعب الفلسطيني، ومن ذلك عندما قصف الطيران الإسرائيلي إحدى مدارس "الأونروا" في مخيم البداوي منتصف سبعينيات القرن الماضي، قام ثلاثة من المناضلين بالتوجه إلى مجمع "ديزينغوف سنتر" التجاري وفتحوا النار على الحراس وكل من يلبس اللباس العسكري وتركوا وراءهم ورقة توضح بأن هذا هو الرد على مجزرة أطفال مدرسة البداوي. 

يقول البقاعي: "تل أبيبهم لن تصمد طويلاً أمام ضربات شعبنا الثابت على مبادئه والصامد في أرضه والمناضل المكافح في كل مناطق وجوده. سنقاتلهم وستلفظهم الأرض، ولن تفيد عناصر قوتهم الجبارة الراهنة، لن تصمد القوة الجوفاء المهزومة من الداخل أمام قوة الشعب المدجج بقوة الحق، وسلاح الوحدة الوطنية، وقوة الإيمان وصلابة الإرادة، وكما انتصرت مدينة عكا على الإمبراطور بونابرت إبان هجومه على المشرق العربي، وكما انتصر صلاح الدين الأيوبي الذي طرد جحافل الاستعمار الصليبي، وكما هزمت جحافل التتار والمغول وغيرهم، فإن عصابات الاستعمار الصهيوني البغيض ستهزم هي الأخرى وما هي إلا مسألة وقت".

وتركز الرواية على أنه في منتصف السبعينيات كانت ذروة المقاومة ضد الاحتلال، وذلك عبر اتحاد الإرادة في كل من فلسطين ولبنان وسوريا بمخيماتها وقياداتها، وكان أبرز تجليات ذلك على الصعيد الدولي اعتراف هيئة الأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطيني عام 1974، لكن كما يرى عدنان أن الاتجاه من حرب الميليشيات إلى التشكيلات العسكرية النظامية أدى إلى تراجع المردود العام للعمليات بشكل ملحوظ، كما أن تحكُّم الأنا بدل النحن في ما يتعلق بقيادات النضال أضعف من جوهر المقاومة الشعبية والتزامها، ومن ذلك ما قام به السادات عندما انحرف عن نهج شعبه الثوري التقدمي وانحاز إلى موقف الالتحاق المتخاذل والمذل والخياني بالعصر الإمبريالي الأميركي من خلال معاهدة سلام مع العدو الصهيوني في شرم الشيخ، وهذا الاتجاه أدخل الثورة الفلسطينية والعربية عموماً مرحلة جديدة تتسم بالخطورة، و لا سيما بعد دخول المنطقة ما سمّاه عدنان "بورصة مشاريع التسويات السلمية التي تقودها أميركا"، التي مارست ضغوطاً سياسية على منظمة التحرير للانخراط فيها، وهو ما عدّه بطل الرواية "مؤامرة على الحقوق الفلسطينية منذ طرحها إلى يومنا هذا".

ورغم الغضب الفلسطيني الكبير والانتفاضات العديدة عليها، فإن أحداً لا يمكنه أن ينكر الارتكاسات التي نجمت عن تلك البورصة القاسمة لظهر المقاومة الفلسطينية والعربية ومنها معاهدة أوسلو مثلاً، لكن رغم كل ذلك وبحسب بطل الرواية "ستبقى (زيتونة الثورة) باسقة دائمة الخضرة مدى الأيام والسنين تخلد الثورة وتشهد أيامها ونضالاتها وإنجازاتها العظيمة وتضحياتها الهائلة"، ويؤكد ذلك الروائي المناضل كمال توفيق البقاعي في ختام روايته بالقول: "نتطلع بثقة وأمل أن تكمل الأجيال هذا الطريق لاستكمال ما لم نتمكن من بلوغه، ونحن على ثقة بأنهم سينجحون في ذلك، وسيحققون المعجزة وينتصرون على المستحيل، وسيضعون حداً لهذه المهزلة التي تسمى اتفاقية أوسلو، وأكذوبة السلام المذل، التي لم تسترد أياً من حقوقنا".