"بناية الشيوعيّين": معركة نشر الثقافة ومواجهة عصر التفاهة
إحدى قصص المجموعة "القنصل" تعبّر عن اغتراب المثقّف اللبناني وصراعه الدائم في وسط اجتماعي تُهيمن عليه طبقتان متناقضتان ومتشابكتان؛ طبقة قليلة العدد، لكنها غنية بالسلطة والمال... وطبقة أخرى كبيرة العدد، فقيرة الحيلة.
في مجموعته القصصية "بناية الشيوعيّين"، لا يخفي مهدي زلزلي تحيّزه للكتابة والثقافة، إذ يحضر "الكاتب" و"المثقّف" كشخصية رئيسة في معظم القصص، بحيث يمكن اعتبارها "العمود الفقري" للمجموعة.
يدرك الكاتب أنّ حياكة الشخصيات لا تكتفي بالأسماء والوجوه، بل تحتاج إلى حيّز المكان الذي يترك تأثيره على كلّ شخصية ليؤدّي دوراً فعّالاً في تشكيل ملامحها، ويشكّل مع البعد الزمني لكلّ قصة شفرةً خاصّة، تسهّل على القارئ فهم مجتمع مليء بالتناقضات المتجانسة.
يظهر الكاتب البعد النفسي بوضوح ليكشف مكنونات النفس البشرية وأعماقها، إذ يعمد إلى تكرار تيمة الحلم في أكثر من قصة، مما يمنح الشخصيات مساحة للبوح بآلامها وآثامها وهواجسها، مكرّساً ساحة الحلم ملاذاً ومطهّراً يلجأ إليه الأبطال للتنفيس عن آلامهم والشعور بالأمان من عقاب الذات والمجتمع. إنّ المجتمع اللبناني، المثقل بأعباء الحروب المتكررة والأزمات المزمنة، والعادات الاجتماعية المتغيّرة وفقاً لموجات تأثير غربية هجينة، يضاعف اغتراب الفرد عن ذاته الأصيلة، الخالية من التصنّع.
تحوي المجموعة تصويراً حيّاً لحقبة متصلة من الواقع اللبناني، حيث تبرز تأثيرات الأزمة الاقتصادية على مختلف أطياف المجتمع اللبناني. لقد طالت أزمة المصارف في عام 2019 الطبقات كافة، بدءاً من أصحاب رؤوس الأموال وصولاً إلى متوسطي ومحدودي الدخل، وللمرة الأولى اتّحدت هذه الطبقات في مطالبها باستعادة حقوقها.
وتبرز تيمة الفساد في المجموعة، عبر صور متعدّدة، لتعكس المعاناة اللبنانية الجامعة، كما في قصة "انتحار شرطي المرور"، التي تدور حول شرطي مرور أُهين من قبل مرافقي أحد المسؤولين فقط لأنه كان يقوم بواجبه. هذه القصة تظهر عمق الفساد السياسي والاجتماعي، الذي كرّس طبقةً من أمراء الحرب، الذين استطاعوا أن يبنوا لأنفسهم حصانةً ومكانةً عصية على القانون والأعراف.
وتأتي قصة "القنصل" لتعبّر عن اغتراب المثقّف اللبناني وصراعه الدائم في وسط اجتماعي تُهيمن عليه طبقتان متناقضتان ومتشابكتان؛ طبقة قليلة العدد، لكنها غنية بالسلطة والمال وتتحكّم في الأمور، وطبقة أخرى كبيرة العدد، فقيرة الحيلة، تسير وفق مخاوف طائفية يغذّيها الطرف الأول ليضمن بقاءه مسيطراً. يجد المثقّف اللبناني نفسه ضائعاً بين هذين الطرفين، فلا هو يستطيع مهادنة النخبة الفاسدة، ولا هو مقتنع بالانجرار إلى النزعات الطائفية التي لا تبني وطناً قائماً على العدل والمساواة وكرامة الإنسان.
تتجلّى هواجس الكاتب ومخاوفه من تهميش فكرة الرمز وأهميته في الوجدان اللبناني، فيبيّن الهوّة بين المجتمع البسيط المهمّش والعالم الموازي له، حيث دفع الفساد السياسي بالطبقة البسيطة ومحدودة الدخل إلى الاعتماد على رموز محلية وحلول بديلة لحلّ مشكلاتهم. ينجح الكاتب في إظهار البعد النفسي لإهانة فكرة الرمز وكيف تتحوّل هذه الإهانة إلى ندبة نفسية عميقة في الوجدان، وتساهم في تشكيل وعي الإنسان ورسم ملامح شخصيته.
يعكس مهدي زلزلي في مجموعته معاناة شعب كامل، ظلّ يلهث خلف حلول بديلة لكلّ ما حُرم منه من حقوق الأمن والأمان والمساواة وأبسط مقوّمات الحياة الكريمة، وهو الكاتب الجنوبي الذي يجسّد معاناة كلّ لبناني، بغض النظر عن انتمائه وهويّته، إيماناً بأنّ ما يجمع اللبنانيين يفوق كثيراً ما يفرّقهم.
قد تبدو المقدّمات في هذه المجموعة القصصية تقليدية، بحيث تدفع القارئ للتساؤل عن القصة التي ستتولّد من هذه البدايات، إلا أنّ السرد المحكم واللغة الرشيقة يسحبان القارئ إلى عوالم متجدّدة من الاحتمالات، ليصلا به في النهاية إلى خاتمة مذهلة. هذه البراعة في خلق قصة فريدة من مقدّمة بسيطة أشبه بحلّ معادلة رياضية، بحيث تبدو البداية بسيطة، لكنّ الحسابات بين البداية والنهاية دقيقة، والمفارقات قوية ومفاجئة.
لغة الكاتب الغنية بلمسات شاعرية واضحة، تتجلّى بقوة في العناوين ودلالاتها، فهو يأسر القارئ بجمال العنوان وشاعريته قبل الغوص في القصة، كما في "موت مقهى" و"تلك المرأة في الطابق الثامن"، حيث تدفع هذه العناوين القارئ للتساؤل عمّا تحمله من أسرار وأخبار.
يكتب مهدي زلزلي بأسلوب متين ورشيق، فيمنح القارئ متعة التنقّل بين قصة وأخرى بخفة، ترافقه الدهشة عند كل خاتمة.
في النهاية، لا بدّ أن "نمشي ونكفي الطريق"، فالاستسلام ليس خياراً للكاتب في معركة نشر الثقافة ومواجهة عصر التفاهة بتفرّعاته التكنولوجية وفراغاته الأيديولوجية. ولا بدّ لـ "وجهٍ يُريحُ المتعبين" من الظهور وسط الأزمات اللامتناهية، في بلدٍ وإن كان صغيراً، إلا أنه عصيّ على الصعاب، فأرضه جُبِلَت بسائلٍ أحمر ثمين، يرخص فقط لتراب لبنان.