من الزعيم إلى السيد: القضية واحدة والشهادة واحدة

إرفع رأسك يا سعادة وكن مطمئناً، وأنت القائل: "إن فيكم قوة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ"، وها هي المقاومة الإسلامية التي يقودها حزب الله تفعل ما آمنت به وهي تغيّر وجه التاريخ.

شكل استشهاد الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، صدمة عند جمهوره "الأممي" في سياق المواجهة على "طريق القدس"، الذي وضعه بعد الاعلان عن "طوفان الأقصى" من قبل المقاومة الفلسطينية. ذلك "الطوفان" الذي شكل خطوة جريئة وواضحة لمنع "التطبيع العربي - الصهيوني"، وصدمة الاستشهاد شبيهة بما حصل مع الزعيم أنطون سعادة عشية إعدامه.

كما أكد كل من استشهاد نصر الله من جهة، وإعدام سعادة من جهة ثانية، القيمة الأخلاقية والمعنوية والرمزية التي حملاها في مبادئهما وجعلاها نبراساً للمقاومين على امتداد وطننا وعالمنا العربي. فقد أكد استشهاد نصر الله وإعدام سعادة، أنه كلما توهمنا أن زمن القائد ولى وحقبات انتظار القائد المخلص قد طويت، يفاجئنا الراهن الاجتماعي والسياسي بحقيقة مغايرة تجبرنا على المراجعة.

والحال أننا نشهد في هذه اللحظة التاريخية تبلور مطلبية جماهيرية تنادي باسم القائد الملهم وإعادة زمن وجوده الجسدي، عبر صعود خطاب تقديسه في صورتها "السيكولوجية الجماهيرية". لقد كتب غابريال غارسيا ماركيز في ذكرى رحيل بورخس: "إن المتميزين لا يرحلون كأفراد، يرحلون، باعتبارهم مرحلة متوهجة، صار رحيلهم خاتمتها". 

**

قد يكون من الحكمة حينما نبحث عن أحوال وطننا الذي يعيش أجواء غير طبيعية، أن نتساءل ما الذي يمكن أن يؤثر فيه ويغيره؟ كيف يمكن أن يتحسن وما الذي أدى به إلى ما هو عليه الآن؟ وكيف لنا أن نواجه "مهندسي الفوضى" في العالم؟ وهل اكتشف هؤلاء الأشرار شيئاً جديداً لا يزال المقاومون يجهلونه؟

لعل الإجابة عن هذه التساؤلات تحتاج من المهتمين بقضايا وطنهم أن يتفحصوا جوانب عدة لفهم الوضع وتفسيره، وتقديم الحلول إن كان ذلك ممكناً. لكن المؤكد أن جزءاً من ذلك الحل يكمن في دراسة سيكولوجية شعوب عالمنا العربي. ما الذي يحرك هذه الشعوب وما الذي يؤثر فيها؟ ما الذي دفعها منذ بداية القرن العشرين لتأسيس حركات المقاومة لمواجهة الجهل وغياب الهوية ووجود الاحتلالات؟ 

في هذه القراءة نحاول تقديم مقاربة واقعية لشخصيتين كان لكل منهما مكانتها ورمزيتها في جمهورها والمؤمنين بمبادئها وقضيتها المركزية فلسطين، إضافة إلى سعي كلٍ منهما في الدعوة لقيام مجتمع مواطنة بوصفها حلاً عقلانياً نحو تحقيق العدالة الاجتماعية في وطن غني بعناصره التعددية: المذهبية والطائفية والإثنية. 

لعلنا هنا سنرى أنفسنا مستشهدين بمقاربة موضوعية لكل من شخصية الزعيم أنطون سعادة والسيد حسن نصر الله، وبداية تأسيس ظاهرة ثقافة المقاومة في الحزبين، السوري القومي الاجتماعي وحزب الله، كثقافة بديلة ومضادة لثقافة الهيمنة والاستعباد وانتهاك حقوق الإنسان وحريات الشعوب ومواجهة الاحتلالات لأمتنا. 

ثقافة المقاومة هنا باعتبارها قضية وجودية ترتبط بكينونة الإنسان المقاوم، وبمدى معرفته الواعية لهويته وللتحديات التي تواجه هويته هذه، وفي امتلاكه لرؤية تتناسب مع أهداف هذه المقاومة، واليقين بجدواها.

لا، لم يغب مفهوم المقاومة في ثقافتنا الموروثة، فهي ترتكز على المواجهة بدلاً من الاستسلام للقاهر الداخلي أو العدو الخارجي، وحيث تنشط الحركات الشعبية وتجنيد الجماهير. يقول الشهيد غسان كنفاني في مقدمة مؤلفه "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968": "ليست المقاومة المسلحة قشرة، هي ثمرة لزرعة ضاربة جذورها عميقاً في الأرض... ومن هنا، فإن الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليست أبداً أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها".

**

إن التاريخ يتغير نوعياً الآن، وينتقل من مرحلة استجداء الأنظمة العربية للعون والتمسك بقرارات "الشرعية الدولية" إلى مرحلة التحرك الفعلي من خلال مقاومة الشعوب، في عصر كاد شعبنا ينسى تاريخه النضالي الطويل تحت وهم أن العالم قرية واحدة تحت مظلة العولمة. وثقافة المقاومة هي الضمان الأول لحركة النهوض والتحرر من العبودية والاحتلال إلى السيادة والاستقلال.

ولا يهم هنا إن كان حزب الله حركة إيمانية دينية، طالما هو في طريق تحقيق ما كان يصبو إليه سعادة، الذي لم يخطئ في إيمانه بشعبه عندما قال: "إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ".

لا شك أن المخيال العقـائدي المُشترَك هنا بَين الشهيدين، سعادة ونصر الله، تكاد تكون واحدة في عناصرها المتآمرة الداخلية والخارجية، وإن اختلف الزمان (نحو قرن من الزمن) وتوسعت دوائر التآمر والخيانات من الخارج والداخل وداخل الداخل!

ولكل من الشخصيتين "كاريزماه. يقول الباحث والمفكر، هشام شرابي، وهو يتحدث عن سعادة في كتابه "جمر ورماد: "كان له "كاريزما" هائلة من الصعب تفسير تأثيرها. في كلامه وتحدثه سيطرة تامة، لا يرفع صوته ولا يؤشر بيديه. كانت حياته مشدودة بخيط لا مرئي إلى هدف واحد استحوذ كل وجوده واهتماماته. كانت حياته مشدودة بخيط لا مرئي إلى هدف واحد استحوذ كل وجوده واهتماماته".

وهكذا كان للشهيد السيد نصر الله كاريزما، وفي ذلك يقول محمد حسنين هيكل: هو "سيد في الكلام والخطابة، وهو سيد في الوقار واللين، وسيد في القيادة والحنكة.. إتضح بعد لقائي معه انه أكبر من لبنان بكثير".

نعم، لقد كان الشهيد نصر الله قائداً سياسياً وعبقرية تنظيمية لم تشهد الساحة اللبنانية بل العربية مثيلاً لها بعد استشهاد سعادة.

**

بين تموز/يوليو 1949 وأيلول/سبتمبر 2024 خبرتنا الصعاب، ورأينا الدمار والخراب والخيانات والانقسام الشعبي، ولكن ما ضعفنا ولا استكنا، ولم يدخل اليأس إلى قلوبنا البتة ولن يدخل.

فمن كان يؤمن بالزعيم سعادة (العلماني) والسيد نصر الله (الإسلامي المؤمن) فقد استشهدا. ومن آمن بمبادئهما وبقضيتهما الفلسطينية المركزية فالمبادئ باقية وفلسطين باقية ما بقيت الحياة.

75 عاماً فقط تفصل بين الشهادتين، وبين حالة الفقد الأولى والثانية، كنا كمجتمع منقسم نحيا لنرى كيف تحيا أمتنا وتنتصر قضيتنا، الزعيم والسيد. نعرفهما تمام المعرفة وآمنا بهما قائدين عمّدا نضالهما بشهادة الدم ليكونا قدوة لأجيال لم تولد بعد. وهو ما قاله يوما الشاعر أدونيس: "انطون سعادة هو أهم شخصية فكرية في تاريخ العرب الحديث، وأفكاره هي الوحيدة التي أثبتت التجربة أنها صالحة، خصوصاً أنه قَرَن كلامه بالفعل. مات من أجل أفكاره"("النهار" - 7 كانون الأول 2013)، وهكذا كان الشهيد السيد حسن نصر الله.

**

الذي دفعنا للجمع بين الرمزين إذن، هو النظر في معنى الالتزام لدى "الزعيم" و "السيد". الأمر الذي يدعونا منهجياً إلى التساؤل: ما الالتزام؟ ما هي مقتضياته؟ بأي معنى تكون "مغامرة" الالتزام محنة القائد ونكبة القائد؟ 

وبعبارة أدق، كيف يعيش القائد موته إذن؟ وفيم تتمثل رهانات ومآلات تجربة الالتزام في سياق النضال في عصرنا الحديث والمعاصر؟ ما مقاصد الالتزام القومي عند "الزعيم"، والديني عند "السيد"؟ 

لطالما شكلت المقاومة العرض التاريخي. الحدث الذي فجر طاقات الشعوب وصحح مسار التاريخ. الضرورة التي تستثير اختيارات الشعوب فتختار بدائل أخرى غير التي فرضتها الإرادات الخارجية وقوى التسلط الداخلي والقهر الخارجي، والقادرة على عزل الخطاب الانهزامي الذي يتناقض مع وعي الأمة وضميرها وروحها، ويراهن على هزيمتها؛ فهي عززت فكرة النظام والوجود والحياة والبقاء والاستمرار، وتحدت أجواء الانعزال والصمت والتخاذل.

الحياة إقرار، الاستشهاد في سبيل حياة حرة وكريمة تأمل. الحياة معطى، الاستشهاد خلق. الحياة شعور، الاستشهاد موقف. الحياة نسيان للتذكر، الاستشهاد تذكر بلا نسيان.

حينما تلاقي شهيداً، معلوماً وغير مجهول، حسياً أو أثيرياً، يتوقف الزمان الفيزيائي لفترة، ربما صغرت أو كبرت، لكنها أساساً صاغت زمناً مفارقاً: كم الأشخاص الذين تغير مجرى وجودهم مطلقاً، حين اختبارهم صدمة فقدان عزيز؟ 

وهنا يتشكل "الجمهور النفسي" من خلال تعاطي أفراده مع قضايا مشتركة، بشكل يخضعون خلاله لتأثيرات مشتركة، ومعه تغدو الميزة الأساسية للجمهور هي انصهار أفراده في روح مشتركة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية، وتخفض من مستوى الملكات العقلية. وهذا يعني أن الروح الجماعية التي تسودهم تجعلهم يحسون ويفكرون ويتحركون بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة التي كان سيحس ويفكر ويتحرك بها كل فرد لو كان معزولاً، بحسب ما قصده غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير".

فالإنسان كائن رمزي بطبعه، أبدع الرموز وتشكل على صورتها، واستطاع عبرها أن يشيد مملكته الفكرية الواسعة عبر تقاطعات الزمان والمكان.
**

إرفع رأسك يا سعادة وكن مطمئناً، وأنت القائل: "إن فيكم قوة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ"، وها هي المقاومة الإسلامية التي يقودها حزب الله تفعل ما آمنت به وهي تغيّر وجه التاريخ.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.