مكّنتنا من إنتاج الأسطورة والفن.. أي دور للرموز في حياتنا؟
ابتكر الإنسان جهازاً إضافياً يتميّز به عن الحيوان وهو الجهاز الرمزي. كيف يعمل وما هو دوره في حياتنا؟
رأى الفيلسوف الألماني أرنست كاسيرر (1874- 1945) في كتابه "فلسفة الأشكال الرمزية" الصادر عام 1923، بأنه لا يوجد أدنى اختلاف بين الإنسان والحيوان من الناحية البيولوجية، فالاختلاف إنما يوجد في نمط العيش.
إذ إن الإنسان يمتلك جهازاً إضافياً به يتميّز وهو الجهاز الرمزي، جهاز ابتكره لنفسه، ومكّنه من إنتاج الرموز واللغة والأسطورة والفن، لتسهيل الحياة عليه وتدعيم عملية التواصل مع بني جنسه، فالإنسان يفهم الرموز ولديه القدرة على تأويلها.
إذن فالإنسان "حيوان رامز"، لا يدرك الواقع، ولا يتواصل مع الآخرين، إلا من خلال أنساق رمزية يحيا فيها بواسطتها، فقد أحاط الإنسان نفسه بأشكال لغوية وصور فنية، ورموز أسطورية إلى حد أنه لا يستطيع أن يعرف شيئاً من دون هذا العنصر المتوسط المصطنع.
وذهب الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود (1905- 1993) المذهب نفسه، فتصوّر أن ما من نشاطٍ إنساني ذي بال إلا والرمزية لُبُّه وصميمه، "فالنشاط العلمي يَرتدُّ آخِر الأمر إلى رموز، والفن والأدب قائمان على الرمز، وكذلك الدين والأخلاق، وكذلك الحياة الاجتماعية في ترابُط أفرادها، بل كذلك الفرد الواحد في صحوِهِ وفي نعاسِهِ على السواء"[1]، ويكفي التذكير بأن هذه الحياة الاجتماعية مُستحيلة بغَير لغة، واللغة علامات ورموز "فالإنسان رامِز في شتَّى عصوره وفي مختلف نواحي نشاطه الفكري؛ وقد ازدادت هذه الحقيقة وضوحاً في عصرنا الحاضر، فاهتمَّت الفلسفة المُعاصرة بالرمز ودلالته"[2].
في تعريف الرمز
يشمل تعبير الرمز (symbole)، تقليدياً، ثلاث مجموعات متميزة من المعاني. ينسب المعنى الحالي إلى مفهوم الرمز معنى قريباً من التشبيه الرمزي: الحمامة رمز السلام، والأسد رمز الشجاعة، والصليب اللاتيني رمز المسيحية، والصولجان والتاج هما رمزان للملكية أو القوة. يمكننا القول عموماً إن هذا المعنى يندمج مع معنى تجسيد (كائن، حيوان، شخصية ...)، لحقيقة مجردة (الفضيلة، الحال، القوة، الاعتقاد...).
المعنى الاشتقاقي للكلمة اليونانية σ́υμϐολον، المشتق من الفعل συμϐ́αλλω، "أنا أضم" (أجمع) (je joins)، يعرّف غرضاً مقسماً إلى قسمين، وامتلاك كل من الجزءين من قبل شخصين مختلفين يسمح لهما بالإجتماع والتعرف على بعضهما البعض.
عندما يُحكم على المرء بالعيش في وضع التخفي، أو في مناسبات أخرى مماثلة لها، فإن تقسيم الأوراق النقدية إلى قسمين يسمح بالتعرف والكلام بأمان لشخصين لا يعرفان بعضهما البعض: تجزئة الورقة النقدية، أو بالأحرى الإجراء الذي أتاح ذلك، هو رمز حرفياً. وينطبق الشيء نفسه، على مستوى أكثر تجريداً، على استعمال "كلمة المرور"، وكذلك، وبطريقة أكثر تعقيداً، على أي صيغة تسمح حيازتها وتعبيرها لأعضاء نفس المجتمع بالتعرف على نفسها على هذا النحو: كان لرمز الرسل (le Credo = قانون الإيمان)، على سبيل المثل، هذا الدور في المسيحية. ولهذين المعنيين الأولين علاقات واضحة بينهما. ليس لديهما علاقة مماثلة مع المعنى الثالث، أي الرمز المنطقي الرياضي، والذي يقصد به أي علامة بيانية قد تشير إلى عدد أو حجم.
الإنسان "حيوان رامز"، لا يدرك الواقع، ولا يتواصل مع الآخرين، إلا من خلال أنساق رمزية يحيا فيها بواسطتها، فقد أحاط الإنسان نفسه بأشكال لغوية وصور فنية، ورموز أسطورية إلى حد أنه لا يستطيع أن يعرف شيئاً من دون هذا العنصر المتوسط المصطنع.
يشير "المعجم الفني والنقدي للفلسفة" لأندريه لالاند (1876- 1963)، في طبعته عام 1926، إلى هذه المجموعات الثلاث من التعريفات، عندما يرى في مفهوم الرمز:
أ- هو ما يُمثل شيئاً آخر بموجب مطابقة نظيرية، يُطلق على كل علامة عينيّة تنبّه "بنسبة طبيعية" إلى شيء غائب أو مستحيل الإدراك: "الصولجان رمز الملكية".
ب- منظومة متواصلة من الأطراف أو الحدود التي يمثل كل منها عنصراً من منظومة أخرى: "الرمز هو مقارنة لا يُعطى لنا منها سوى الحدّ الثاني، وهو منظومة كنايات أو توريات متوالية". وينقل لالاند عن الفيلسوف برونشفيغ (1869- 1944) قوله: "ليس هذا المعنى الدقيق لكلمة رمز، فالرمز يتعارض مع الإشارة الصنعيّة في كونه يمتلك قوة تمثيل داخلية، مثلاً الأفعى التي تعض ذيلها، رمز الخلود".
ويُعلق لالاند إثر مناقشات مع زملاء له في جلسة يؤرخها في 7/3/ 1918 بالقول:"إننا ننتقل عبر تحولات طفيفة مما هو طبيعي إلى ما هو صنعيّ. ومن ثم عمّم مختلف الكتّاب استعمال هذه الكلمة وتوسّعوا فيها إلى هذا الحد أو ذاك، فورقة كتابة لا تساوي قرشاً يمكنها أن تصبح رمزاً لملايين"[3].
ج- صيغة المعتقد القويم "رمز نيقية Nicée".
والفكرة الرمزية هي تلك التي تقابل الفكرة المنطقية. ويأخذ علم الرمزيّات على عاتقه الكشف عما كان خفيّاً، مستوراً وراء علامات وإشارات بالغة التنوّع [4].
يبدأ التأمل حول الرموز عند الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913- 2005) من اكتمال اللغة والمعنى، يبدأ من وسط اللغة المتحققة وحيث قيل كل شيء بطريقة ما، وحيث يريد التأمل هذا أن يكون الفكر بكل مسلماته.
ويعتبر الفيلسوف الفرنسي أن "المهمة الأولى بالنسبة للتأمل ليست البدء، ولكن أن يتذكر مجدداً من وسط الكلام. ولكن، في معارضتنا إشكالية الرمز مع البحث الديكارتي، والهسرلي (نسبة إلى هسرل) في البحث عن نقطة بداية، فإننا نربط وثيقاً هذا التأمل بمرحلة محددة من الخطاب الفلسفي: يجب علينا إمكان توسيع النظر، فإذا ما أثرنا مسألة الرمز الآن، وفي هذه المرحلة من التاريخ، فذلك لصلتها مع بعض قسمات "حداثتنا"، ومثابة رد على هذه "الحداثة" نفسها. فاللحظة التاريخية لفلسفة الرمز هي لحظة النسيان وأيضاً الإحياء. نسيان كشف النقاب عن الأسرار القديمة (الكِهانة)، نسيان إشارات المقدس، خسران الإنسان نفسه بوصفه منتمياً إلى المقدس.
هذا النسيان، هو عِوض المهمة العظيمة في تغذية البشر، لإشباع الحاجات بالسيطرة على الطبيعة بوساطة تقنية كوكبية. إن الإعتراف الغامض بهذا النسيان هو ما يُحركنا ويستنهضنا لإحياء وبعث اللغة التامة. وفي العصر نفسه، حيث باتت لغتنا أكثر دقة وأكثر محافظة على المعنى، وفي كلمة، أكثر تقنية، ومؤهلة أكثر لتلك الأشكال الصورية التامة، المسماة "المنطق الرمزي" تحديداً، وفي هذا العصر نفسه للخطاب الذي أردنا فيه إعادة تذخير لغتنا، منه أردنا الإنطلاق مجدداً من تمام اللغة. وهذا أيضاً هدية من "الحداثة"، لأننا، نحن المحدثين، رجال "فقه اللغة"، والتفسير، و"ظاهراتية الدين"، و"التحليل النفسي للغة". وأيضاً هو العصر نفسه الذي طور إمكانية إفراغ اللغة وإعادة تعبئتها من جديد. اذاً، ليس الندم على قارة أطلنطس (des Atlantides) المنهارة هو ما يحركنا، لكن الأمل في إعادة إحياء اللغة، بعيداً من صحراء النقد"[5].
في ضوء الاهتمام الذي أبداه كثير من فروع المعرفة الإنسانية في مسألة الرمز، نريد أن نفحص تلك التي وضعتها في مركز تفكيرها والتي طورت أدوات مفاهيمية فاصلة. وكل فرع معرفي، أي التحليل النفسي وعلم الاجتماع وعلم الظواهر، حدد مفهوم الرمز بشكل مختلف، ما يبرز تعدد المعاني للكلمة. علاوة على ذلك، نلاحظ أن "الرمز" في داخل كل تخصص، يُستخدم بمعانٍ مختلفة. ففي مجال علم النفس، قام سيغموند فرويد (Sigmund Freud) (1939 - 1856) وكارل غوستاف يونغ (Carl G. Jung) (1961 - 1865) بدمج الرمز في عملية تفكيرهم، لكنهم لم يستغلوه بالطريقة نفسها.
الاعتبارات النفسية والاجتماعية والأنثروبولوجية للرمز
في بداية القرن العشرين المنصرم، أحدث فرويد ثورة في عالم علم النفس. فالنظام الذي يبنيه واسع ومعقد، لأنه يتكوّن من عدة موضوعات بحثية يتم فيها استدعاء الرمز باستمرار. للحصول على معرفة أفضل بعلم النفس البشري، يستكشف التحليل النفسي الفرد اللاواعي ويشرح أن الرموز تحدد الطرائق النفسية للإنسان. يرسخ التحليل النفسي الفرويدي نظريته في الإدراك الجندري لأداء الإنسان. في الواقع ، يبني المحلّل النفسي النمساوي نموذجه على مفهوم يسمّى "الرغبة الجنسية"، وهذه طاقة نفسية تتحقق على مستوى اللاوعي في شكل نبضات جنسية. ووفقاً له ، فإن البشر عرضة باستمرار لمفاهيم اللذة (غرائز الحياة) والتدمير (غرائز الموت) [6]، وكلاهما مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالعملية الليبيدية (نسبة إلى الليبيدو).
منذ ذلك الحين، يستثمر الرمز هذه الازدواجية انسجاماً مع تجربة شخصية لحساب التطور النفسي الفردي: يستخدم فرويد الرموز لشرح مراحل تطور الإنسان وعمل النفس الشبيه بالحلم [7]. ومع ذلك، وبحسبه، تنقسم عملية نمو الطفل إلى مرحلتين رئيسيتين تحددهما فترة الإخصاء غير الأوديبي وفترة الإخصاء الأوديبي، والأخيرة مشروطة بعقدة أوديب (Oedipus complex) [8]. والعقدة هذه موجودة عند الأطفال من كلا الجنسين، لذلك في عام 1909 رفض فرويد اقتراح تلميذه يونغ لاستخدام إسم آخر لتعيين نفس الظاهرة عند الفتاة الصغيرة.
أحدث فرويد ثورة في عالم علم النفس. فالنظام الذي يبنيه واسع ومعقد، لأنه يتكوّن من عدة موضوعات بحثية يتم فيها استدعاء الرمز باستمرار. للحصول على معرفة أفضل بعلم النفس البشري، يستكشف التحليل النفسي الفرد اللاواعي ويشرح أن الرموز تحدد الطرائق النفسية للإنسان.
مثل "عقدة أوديب" عند الأولاد، يوصي يونغ باستخدام عبارة "عقدة إلكترا" (complexe d’Électre)[9] الذي يفسر تطور الطفلة الصغيرة. بغض النظر عن وجاهة تفسير كل من فرويد أو يونغ، فإن النهجين يعكسان، على مستوى اللاوعي، مخططاً متطابقاً، أي رغبة يشعر بها الطفل تجاه والد من الجنس الآخر وعداء تجاه الوالد من نفس الجنس. وبالتالي، فبفضل إعادة استثمار الأسطورة وقبل كل شيء في الرسالة الرمزية ذات الصلة، قام فرويد بتطبيع الأداء النفسي. في الواقع، يجب أن يمر الطفل الصغير بمرحلة الحب لأبوين من الجنس الآخر وكراهية من نفس الجنس لإكمال عملية تحديد هويته. يتيح اللجوء إلى الأسطورة للمحلل النفسي النمساوي تبرير وربما إضفاء الشرعية على النموذج الذي يقوم ببنائه لمراعاة التطور النفسي الطبيعي للطفل.
يستغل فرويد الرموز، من خلال الأساطير، ليقوم أيضاً بتحليل الأحلام، ولكن هذه المرة لاعتبارات مرضية. في تفسير الأحلام ، يشرح أن الأحلام، من خلال الرموز التي تحتويها، تعبّرعن فكرة مصدومة، لأنها تمثل صوراً بديلة يطوّر محتواها الكامن خطاباً مكبوتاً بآلية للرقابة النفسية.
ينوي فرويد الوصول إلى تفسير للأحلام وفاقاً لنمط متكرر (تظهر صدمة معينة دائماً بنفس الطريقة في الأحلام)، وأيضاً بحسب السياق المجتمعي للحالم. يتطلب تحليل الأحلام ليس فَهْم الرسالة الرمزية فحسب، والتي غالباً ما تكون ليبيدية في المفهوم الفرويدي، والتي ترمز إلى صدمة الحالم، ولكن أيضاً الارتباط الحالي بالحدث في الحياة اليومية، الذي أيقظ الصدمة النفسية وأطلق الحلم.
على عكس فرويد، يُدرج يونغ الرمز في عملية تفسيرية متعددة. ويزعجه اقتصار التفسير الفرويدي على "الهوس" الليبيدي والتطور الفردي، وهو من اقترح على معلمه التمييز بين النشاط الجنسي للصبي والفتاة من خلال مراعاة "عقدة إلكترا". هذا الاختلاف في وجهات النظر يخفي مسافة عميقة بشكل متزايد بين الرجلين، حتى اللحظة التي يحرر فيها يونغ نفسه من النموذج الفرويدي ويؤسس علم النفس التحليلي، المعروف أيضًا باسم "علم نفس الأعماق" (psychologie des profondeurs) [10].
يلوم يونغ فرويد لأنه لم يمارس غير قراءة للظواهر النفسية تعتمد على علم العلامات، أي أنه فسرها تفسيراً منهجياً بالقياس إلى ظواهر أخرى معروفة من قبل أو ظواهر يمكن إيجادها بالتذكر أو التداعي (تداعي الأفكار) أو إعادة البناء، وتلك هي على سبيل المثال، حال التفسير الذي يرتكز على سببية جنسية. فهذه القراءة مهما كانت خصوبيتها، قراءة مختزلة من حيث أنها تستبعد البعد الخاص بالرمز [11].
يستغل فرويد الرموز، من خلال الأساطير، ليقوم أيضاً بتحليل الأحلام، ولكن هذه المرة لاعتبارات مرضية. في تفسير الأحلام ، يشرح أن الأحلام، من خلال الرموز التي تحتويها، تعبّرعن فكرة مصدومة، لأنها تمثل صوراً بديلة يطوّر محتواها الكامن خطاباً مكبوتاً بآلية للرقابة النفسية.
فالفهم اليونغي للرمز هو جزء من الرغبة في تبرير وجود اللاوعي الجمعي الذي يجمع الثقافات معاً. بعبارة أخرى، يقترح علم نفس الأعماق وصف اللاوعي الجمعي من أجل فهم المسلمات النفسية التي تميز الإنسان. يتم استدعاء مثل هذه المسلمات أيضاً في عمل علم الاجتماع، ولا سيّما من خلال الأنثروبولوجيا والأتنولوجيا.
من خلال تبني موقف مختلف، يبني عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي ستروس (Claude Lévi-Strauss) (1908- 2009) أفكاره على منطق بنيوي (logique structurale) ويوجه بحثه نحو الأداء المجتمعي وليس الفردي. منذ نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، عمل ستروس في مجال العلوم الاجتماعية. فمارس علم الاجتماع المقارن من خلال دراسة الأداء المجتمعي للحضارات المختلفة، ولا سيما تلك الخاصة بهنود البورورو(Bororos) في وسط البرازيل أو هنود جنوب آسيا. ووفاقاً له يمكن اعتبار أي ثقافة مجموعة من الأنظمة الرمزية في مقدمها اللغة، وقواعد الزواج، والعلاقات الاقتصادية، والفن، والعلم، والدين. والأنظمة الرمزية عنده هي الأساطير، ويتمثل نهجه في تحليل الطرائق البنيوية للأسطورة المستخدمة في التنظيم المجتمعي. لذلك يتم تصور الثقافة، مثل اللغة، كنظام بنيوي. في كتابه الأنثروبولوجيا البنيوية، يستند ستروس في طرائق تفكيره إلى المنظور اللغوي[12].
الرمز في المعاجم العربية
وإذا يممنا النظر شطر معاجم اللغة العربية، وجدنا جملة من التعريفات للرمز: إذ جاء في لسان العرب لإبن منظور أن "الرَّمْزُ: تصويت خفي باللسان كالهَمْس ويكون تحريكَ الشفتين بكلام غير مفهوم باللفظ من غير إِبانة بصوت إِنما هو إِشارة بالشفتين وقيل الرَّمْزُ إِشارة وإِيماء بالعينين والحاجبين والشفتين والفم. والرَّمْزُ في اللغة كل ما أَشرت إِليه مما يُبانُ بلفظ بأَي شيءٍ أَشرت إِليه بيد أَو بعين ورَمَزَ يَرْمُزُ ويَرْمِزُ رَمْزاً ".
ويتضح أن لفظة الرمز إبانة بالإشارة من غير كلام، والرمز كما يتضح هنا هو إشارات جسدية حسية يراد بها معانٍ ودلالة.
وجاء أيضاً في "تاج العروس" لمؤلفه محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أن "الرَّمْزُ بالفتح ويُضَمُّ ويُحَرَّك: الإشارة إلى شيءٍ مما يُبانُ بلَفْظ بأَيّ شيءٍ أَو هو الإيماءُ بأَيِّ شيءٍ أَشرتَ إليه بالشَّفتين، أَي تحريكهما بكلامٍ غيرِ مفهوم باللفظ من غير إبانةٍ بصوت أو العينين أَو الحاجِبين أَو الفَمِ أَو اليَدِ أَو اللسان وهو تَصويتٌ خَفِيٌّ به كالهَمْس".
وجاء في "القاموس المحيط": "(رمزَ) إليه رمزاً: أومأ وأشار بالشفتين أو العينين أو الحاجبين أو أي شيء كان. فـ(الرمز): الإيماءة والإشارة والعلامة. وفي علم البيان: الكناية الخفيّة".
وقد تضمن المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية إشارة إلى "أن الرمز هو علامة يتفق عليها للدلالة على شيء أو فكرة ما، ومنه الرموز العددية والرموز الجبرية، ويقابل الحقيقة والواقع".
وفي مكان آخر يعرف المعجم الرمزية بأنها "نسق من الرموز للدلالة على معان خاصة أو التعبير عن حقائق ومعتقدات، ومنه الرمزية الأدبية والرمزية الفنية، وكثيراً ما اعتمد في الطقوس والتعاليم الدينية"[13].
أبعاد الرمز
ساد الرمز حياة البشر، وسهل عليهم عملية التعرف والتقارب، في كلمة أو شكل أو لون، فالتنين، على سبيل المثال، هو طوطم الأمة الصينية القديمة ورمزها، حيث الإعتقاد بوجود علاقات وثيقة بين البشر وبين الحيوانات والنباتات في الطبيعة، لذلك كان يتم اختيار نوع من الحيوانات أو النباتات كطوطم للقبيلة، باعتبار أنه يمكن للطوطم أن يدافع عنها، وفي الوقت نفسه يكون رمزها وأرومتها.
وتعد نجمة داوود من أكثر الرموز الدينية والسياسية إثارة للجدل في العصور القديمة والحديثة، وتسمى أيضاً بخاتم سليمان، فهناك بعض الأدلة التاريخية التي تشير إلى أن هذا الرمز أستخدم كرمز للعلوم الخفية التي كانت تشمل السحر والشعوذة، وهناك أدلة أيضاً على أن هذا الرمز تم استعماله من قبل الهندوسيين من ضمن الأشكال الهندسية التي استعملوها للتعبير عن الكون والميتافيزيقا، وكانوا يطلقون على هذه الرموز تسمية ماندالا Mandala ويرجح أن اليهود اعتمدوا هذه النجمة رمزاً لهويتهم الدينية في القرون الوسطى.
وقد وظفت النجمة السداسية في الديانة الهندوسية كرمز لاتحاد القوى المتضادة مثل الماء والنار، والذكر والأنثى، كما توظف كرمز للتجانس الكوني.
وفي بعض الديانات الوثنية القديمة كانت النجمة السداسية رمزاً للخصوبة والإتحاد الجنسي حيث كان المثلث المتجه نحو الأسفل يمثل الأنثى والمثلث الآخر يمثل الذكر.
ولكن القيمة الرمزية لنجمة داوود تضاءلت وسقطت إثر استخدامها شعاراً للحركة الصهيونية ومشروعها الإستيطاني في العام 1879.
ساد الرمز حياة البشر، وسهل عليهم عملية التعرف والتقارب، في كلمة أو شكل أو لون.
ويعد الصليب المعقوف (Svastika) على سبيل المثال من أكثر الرموز حضوراً في الحضارات الإنسانية الشرقية والغربية، حيث يرمز إلى الحياة والسعادة في الحضارات الشرقية في الصين والهند واليونان، وفي حوض البحر المتوسط. وفي الطب يمكن الإشارة إلى عصا اسكليبيوس، وهي رمز يوناني قديم متعلق بعلم التنجيم وبشفاء المرضى في الطب [14].
وفي مجرى التاريخ الحديث ومن خلال مسار النضال والكفاح ومسعى الإعتراف، جرت الإشارة، على سبيل المثل، إلى الجزائر رمزاً في كونها "بلد المليون شهيد"، وإلى لبنان في كونه "بلد الأرز"، وإلى شتلة التبغ بوصفها رمز الجنوب اللبناني مع ما يتطلبه زرعها وقطفها من تعب وصبر وجهد، وأشير إلى مصر مثابة "بلاد الفراعنة"، وإلى العراق في وصفه "بلاد الرافدين"، وإلى شجرة الزيتون رمزاً لفلسطين. فبات سهلاً إحلال كلمة مكان أخرى أو صورة مكان الكلمة، مثل الحمار رمز الحزب الديمقراطي والفيل رمز الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، أو لون مكان العبارة، مثل اللون الأحمر دلالة على الشيوعية والأخضر على البيئة، وألوان الأحزاب بديلاً رمزياً عن إسمها.
وهذا في إطار الرمز التقليدي، الذي يتطلب اتفاق مجموعة عرقية أو لغوية عليه، بعكس بعض الرموز ذات الحمولة الكونية. وباتت بعض الشخصيات التاريخية مثابة أبطال يرمزون للكفاح، نظير الإمام الحسين بن علي، سبط الرسول الكريم، رمزاً للثورة على الظلم، وشقيقته زينب رمزاً للصبر والتضحية وتحمل المعاناة والعنفوان، وسيمون بوليفار رمزاً للتحرر في أميركا اللاتينية، وفلاديمير لينين رمزاً للثورة البولشفية، وباتريس لومومبا رمزاً لنضال أفريقيا ضد الإستعمار، وعمر المختار رمزاً لمقاومة الشعب الليبي للمحتل الإيطالي والإستشهاد في سبيل الوطن، والشيخ أمين الحسيني، قائد ثورة العام 1936، رمزاً لثورة الشعب الفلسطيني ضد المشروع الإستيطاني الصهيوني، وأرنستو تشي غيفارا رمزاً للكفاح الأممي ونصرة الشعوب المستضعفة.
الرمز في فضاء الأدب
وإلى الخطاب الفلسفي والديني [15] المحمل بالرموز، نجد أن الشعر [16] والأدب عموماً اتخذ اللغة الرمزية وسيلة للتعبير، فقد اعتمد الأدب المقاوم عليه لأن طبيعة الرمز "قائمة على الإيحاء والإبتعاد عن المباشرة وتكثيف الدلالة مع التوسع في الأفق المعرفي والفضاء الإيحائي" [17]. وأكثر من عبّر بالرمز هم شعراء المقاومة الفلسطينية وأبرزهم محمود درويش (1941- 2008) وسميح القاسم (1939- 2014) مستلهمين كل أنواع الرموز الدينية (من القرآن والإنجيل والتوراة)، والأدبية والشخصيات التراثية والتاريخية.
وقد عبروا من خلال الرموز المستخدمة ببراعة عن الواقع المأساوي وقضايا الإنسان المضطهد، ومن خلالها يدعون إلى محاربة دولة الإحتلال الإسرائيلي وتجسيد ثورتهم المستمرة [18].
كذلك اتجهت الرواية [19] إلى اللغة الرمزية لأسباب كثيرة للتعبير عن مسائل وقضايا شائكة وأحياناً محرمة في النقاش العام، وأقرب نموذج إلينا رواية نجيب محفوظ (1911- 2006) "أولاد حارتنا"(1959)، حيث ذهب النقاد إلى عدها تروي قصة الخليقة، لكن من خلال الترميز [20].
كما عبر كثير من الروايات عن نضال الشعوب وممانعتها لأشكال القهر، وكان رمزها شخصية البطل، حامل مطالب الناس، المرتفع بوعيه الشخصي إلى مستوى عمومي، وقد أجاد الروائي السعودي عبد الرحمن منيف (1933- 2004) في رسم صورة البطل الشعبي في أعماله، نظير: شخصيّة إلياس نخلة في رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" [21] (1973) وشخصيّة عسّاف في رواية "النهايات" (1986) وشخصيّة متعب الهذّال في رواية "التيه" (2005) [22]، وهي شخصيّات وقفت لتدافع عن المكان وعن الفقراء وعن القيم الحقيقية [23] من وجهة نظرها ومن وجهة نظر من تمثل.
"أم سعد" رمزاً للشعب الفلسطيني
كتب المناضل والروائي الفلسطيني غسان كنفاني (1936- 1972) مؤلفه "أم سعد" (1969) وأهداها إلى "أم سعد، الشعب والمدرسة"، وأشار في المقدمة: "لقد علمتني أم سعد كثيراً، وأكاد أقول إن كل حرف جاء في السطور التالية إنما هو مقتنص من بين شفتيها اللتين ظلتا فلسطينيتين رغم كل شيء، ومن كفيها الصلبتين اللتين ظلتا رغم كل شيء تنتظران السلاح عشرين سنة"[24]. وعدت الرواية تعبيراً عن طور جديد من معيش الشعب الفلسطيني بعد نكبة العام 1948، رمزه البطل الجديد الذي هو الفدائي.
فبدلالتها الرمزية، تعد أم سعد "شخصية إنسانية منسجمة مع باطنها، تكاملت منذ البداية حتى نهاية الرواية. شخصية فاعلة بالمعنى الفني اخترقت الواقع ووعته من ممارستها اليومية فاكتسبت بذلك بعداً اجتماعياً تتحرك بحرية وفقاً لطبيعتها وتتصرف طبقاً لمعاناتها، وتتصل بالواقع المعاش، وبقضية الشعب وبمسيرة ثورته، وتمتزج قضاياها الخاصة بالقضية العامة لتشكل قضية واحدة لا تنفصل، أم سعد شخصية تعددت فيها المعاني فهي الأرض وهي الشعب وهي الوعي وهي الأمل والثورة" [25].
وهي شخصية رامزة تحمل "مواصفات تتجاوز العادي المألوف إلى ما هو أسطوري، فهي مجاز تتكشف في شبكته الرمزية كل القيم الروحية والأخلاقية للشعب الفلسطيني"، وهي "رمز للأرض والثقافة الفلسطينية الجماهيرية المكابدة لشظف العيش، والمتأملة بالكفاح والتحدي".
وهي" الرمز الشامل للكفاح غير اليائس، وللثقافة الوطنية المتأصلة في التحمل والصبر. وكأنها واقع أسطوري، يتجاوز الفرد لتغدو صوتاً جماعياً حوارياً يحمل في ثناياه تعددية صدى الصوت الجماعي الفلسطيني الخارج من المخيم"[26].
في المقام الأخير، لقد حلت الرموز مكان العبارات في المدن والمراكز الحضرية الكبرى، تسيّر وتيسّر حياتنا ببضع إشارات وأشكال وألوان، وتنأى بنا عن الكلام المسرف، إنه عالم مُواز تسكنه الإيقونات الرامزة والصور، يتوجب علينا تعلم العيش فيه بإتقان أبجديته.
المصادر والمراجع
[1] زكي نجيب مجمود، من زاوية فلسفية (1982)، (القاهرة، طبعة مؤسسة هنداوي، 2019). فصل "الإنسان والرمز"، ص 77.
[2] المصدر السابق نفسه، ص 83.
[3] أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، (بيروت، منشورات عويدات، الطبعة الثانية، 2001) ترجمة : خليل أحمد خليل، المجلد الثاني، ص 1398.
[4] المصدر نفسه، ص 1399.
[5] بول ريكور، "الرمز يُفضي إلى التفكير"، مجلة المحجّة، بيروت، تصدر عن معهد المعارف الحكمية، تعنى بشؤون الفكر الديني والفلسفة الإسلامية. العدد 37، شتاء 2022. ترجمة د. عفيف عثمان. ص 14. (من ص 13 إلى ص 30).
[6] سيغموند فرويد، الموجز في التحليل النفسي (القاهرة، دار المعارف، 1970)، ترجمة سامي محمود علي وعبد السلام القفاش، ومراجعة د. مصطفى زيور.ط 2. ص 18 وما يتبع. (نظرية الغرائز).
[7] سيغموند فرويد، تفسير الأحلام، (القاهرة، دار المعارف، 1969)، ترجمة د. مصطفى صفوان. ص 291 وص 292.
[8] الموجز في التحليل النفسي، مصدر مذكور، ص 102. (عقدة أوديب، عقدة الخصاء). وقد استوحى فرويد المصطلح من أسطورة أوديب الإغريقية، وهي عقدة نفسية تطلق على الذكر الذي يحب والدته ويتعلق بها ويغار عليها من أبيه فيكرهه. مصطلح عقدة أوديب يدل على المشاعر والأفكار والأحاسيس الجنسية التي تبقى مكبوتة في العقل الباطن للطفل تجاه أمه.
[9] استوحى يونغ إسم عقدة إلكترا من إحدى الأساطير اليونانية التي تروي قصة الملك أغاممنون - بطل حرب طروادة - والذي تآمرت عليه زوجته مع عشيقها وقتلته بعد عودته من الحرب، وتمت هذه الجريمة أمام ابنته الأميرة إلكترا التي حقدت على أمها وعشيقها الخائنين، وساهمت في تهريب أخيها الأمير الصغير، ثم عاشت إلكترا عمرها حزينةً على والدها المغدور منتظرةً عودة أخيها الأمير لينتقم من المتآمرين، وعندما عاد الأمير كانت إلكترا المحرض الأساسي ليقتل أمهما انتقاماً لوالدهما الملك.
[10] كارل غ. يونغ، علم النفس التحليلي (دمشق دار الحوار، ظ 2، 1997). ترجمة وتقديم نهاد خياطة.
[11] إيلي هومبيرت، كارل غوستاف يونغ: الأساسيات في النظرية والممارسة (دمشق، منشورات وزارة الثقافة، 1991)، (الدراسات النفسية)، ترجمة وجيه أسعد. ص 63.
[12] كلود ليفي ستروس،، الإناسة البنيانية (بيروت، المركز الثقافي العربي 1995)، ظ 1، ترجمة حسن قبيسي.
[13] أنقل هذه التعريفات من بحث: د. علي أسعد وطفة " الرمز ماهيةً وتجلياً؛ الحقل الدلالي للرمز في الفكر الإنساني"، منشور ألكترونياً في مجلة نقد وتنوير، 2021.
[14] نقلاً عن وطفة، المصدر السابق نفسه.
[15] يمكن مراجعة ملف مجلة المحجة رقم 38 الخاص :"الرمز وجدلية العلاقة مع الفلسفة"، ربيع 2022.
[16] للتوسع: محمد علي كندي، الرمز والقناع في الشعر العربي الحديث (السيّاب ونازك والبيّاتي)، (بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2003).
[17] الدكتورة عزت ملا إبراهيمي (وآخرون)، "الرمز وتطوره الدلالي في الشعر الفلسطيني المقاوم"، مجلة القسم العربي في جامعة بنجاب، العدد 24، 2017. ص 137.
[18] المصدر السابق نفسه، ص 159.
[19] أنظر: المنجي بن عمر، الرمز في الرواية العربية المعاصرة (برلين، المركز الديمقراطي العربي، 2021). كتاب ألكتروني.
[20] للتفصيل، يمكن مراجعة: سليمان الشطي، الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001).
[21] ثمة احتمال أن يكون المراد باغتيال مرزوق الإشارة إلى قضية البطل الثاني للرواية "منصور عبد السلام" ومعاناته. يقول الباحث شاكر النابلسي إن إسم رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" ترمز إلى اغتيال الحرية في المجتمع العربي وإلى افتقاد هذا المجتمع للخير والشموخ والعطاء الذي تمثله الأشجار. وذهب إلى أن الشجرة لم تعد ذات الشجرة التي نعرفها بل لها صور ورموز متعددة. تحولت هذه الأخيرة إلى لؤلؤ مكنون، كل واحد يجتهد في كشف كنهه. وأشار إلى أن المراد بالشجرة يمكن أن يكون الحرية ويمكن أن تكون الشجرة رمزاً للمرأة والعطاء ومن الممكن أن تكون الإشارة إلى حب الناس للعمل والإنتاج. أنظر: شاكر النابلسي، مدار الصحراء، (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، عام 1991). ص 56. مذكور عند: محمد رحمت حسين، "التقنية الرمزية في روايات عبد الرحمن منيف"، مقال منشور على الشبكة العنكبوتية.
[22] التيه، أول كتب الخماسية التي أتت لتؤرخ، لتروي، التصور وتسطر، في شبه أسطورة، لمدن الملح؛ تلك المدائن التي انزاحت من عالم الصحراء لتضحى عالماً آخر تنبعث فيه رائحة النفط التي تخدر أحلام ساكنيه وتنقلهم نقلات متسارعة يتخبطون عبرها بين الوهم والحقيقة. مساحات طويلة يعبرونها بأزمان قصيرة ينتقلون خلالها من عالم البداوة إلى عالم الحضر.
[23] صالح ولعة، "صورة البطل الشعبي في روايات عبد الرحمن منيف"، مجلة الحداثة (بيروت)، فصليّة ثقافية تعنى بقضايا التراث الشعبي والحداثة. العدد127 - 128. العام 2010. ص 238.
[24] غسان كنفاني، أم سعد (بيروت، دار العودة، 1969).
[25] نهلة الحسنية، أم سعد من المرجع إلى النص، دراسة في رواية أم سعد، معرض الشوف الدائم للكتاب، 2002، ص 7. نقلاً عن دراسة الباحث الأردني الدكتور محمد حسين عبد الرحيم السماعنة . "صورة البطل في رواية أم سعد لغسان كنفاني"، 2020. منشورة في موقع الناقد العراقي على الشبكة العنكبوتية، ملف رقم 22.
[26] إلياس خوري، تجربة البحث عن أفق ، مقدمة لدراسة الرواية العربية بعد الهزيمة ، (بيروت، نشر منظمة التحرير الفلسطينية، 1974) ص 55. نقلاً عن المصدر السابق..