مسالك الأيديولوجيا في رواية الأمير عبد القادر الجزائري

في هذه الرواية يأخذنا فيها الكاتب واسيني الأعرج بين ربوع معسكر ووهران وتلمسان وسهول اغريس ومتيجة والمدية ذهاباً إلى بلاد القبائل وتدحرجاً نحو قبائل أولاد نائل، عبوراً واد ملويّة ركوباً البواخر نحو ليون وبوردو وباريس...

  • مسالك الأيديولوجيا في رواية الأمير
    مسالك الأيديولوجيا في رواية الأمير

شغل التاريخ البشريّة وذلك الانشغال جُلب إلى الأعمال الأدبيّة والعمل الروائيّ على التحديد، فقضية استدعاء التاريخ أمر مشروع في الآداب، لأنّه يساعد الأجيال على توضيح بعض الغموض ويسندهم في حاضرهم، لكنّ العمل الروائي لا يخلو من الرغبة في السرد التخييلي حتى حينما يأخذ من بطله الشخصية التاريخية، ومن ثمّ فالقراءة هنا لا تتعلق فقط بالعمل الروائيّ بل وجب أن تتعلّق بتاريخ الشخصية كونها تاريخاً علينا إنقاذه من الأيديولوجيا الروائية التّي سيتمّ تمريرها لدواعٍ ذاتيّة جداً، الأمر يتعلّق أيضاً بمدى وجود التاريخ كمادة تاريخية ووجوده كفعل روائي، يتعلّق بتلك النسب بين البعد الحقيقي والبعد التخييلي التّي اعتمد عليها الكاتب، وأيّ منهما كانت له حصة الأسد.

 وفي رواية "الأمير مسالك أبواب الحديد" وعلى مدى 634 صفحة يأخذنا فيها الكاتب واسيني الأعرج بين ربوع معسكر ووهران وتلمسان وسهول اغريس ومتيجة والمدية ذهاباً إلى بلاد القبائل وتدحرجاً نحو قبائل أولاد نائل، عبوراً واد ملويّة ركوباً البواخر نحو ليون وبوردو وباريس ومارسيليا من دون أن يواصل بنا إلى دمشق.

سنعيدُ اكتشاف حركة التاريخ كلما تحرّكت الشخصيات الرئيسية والشخصيات الثانوية التّي تمّت الاستعانة بها لترميم الفراغ  بالسرد ولو على حساب الحقيقة، فإعادة إحياء الأحداث كعمل روائيّ ينتهي إلى ما استوقف الكاتب وشدّ اهتمامه فسعى لتكون له البطولة، إذ لا يمكن كتابة التاريخ روائياً مستقلاً عن مسالك الأيديولوجا التّي يُسحب إليها القارئ في غفوة منه بين الحكي. لقد  اختار الروائي واسيني الأعرج أن يسرد مرحلة لأحد أبرز الشخصيات الجزائرية والتّي تعدّ "المؤسس للجزائر الحديثة"، فهل استطاع واسيني حقاً كتابة التاريخ من خلال كتابته عمله الروائي "الأمير" أم أنّه كان يروي عن التاريخ؟ فبين كتابة التاريخ ورواية التاريخ شعرة  قد تكون حاجزاً لعبورك نحو الحقيقة التاريخية.

 في كتابة الرواية التي تعتمد أحداثها على شخصيات تاريخية مسالك عديدة تمنعنا من الوصول إلى الحقيقة في الوقت الذّي يعتقد القارئ أنّها تسرد فيه الحقيقة، استحضار التاريخ بأسماء شخصياته وتواريخه المحددة ومواقعه العامة المعروفة يكفي لبناء السرد التاريخي، لذلك لجأ الكثيرون لتعبئة تلك النقائص بما يحملونه من فكر أو رغبة أو رسالة، الهوامش المتخمة بالكتابة الروائية قد تساهم في تحوير التاريخ نفسه. 

وفي رواية الأمير هنالك "أمير" شطر منه ينتمي إلى تاريخ الجزائر وشطر آخر ينتمي إلى "أمير" واسيني الأعرج، حيث أراد من خلال هذه الشخصية المعروف عنها التسامح وإرساء القيم الإنسانية أن يجرّدها نوعاً ما وعن طريق السرد من أشياء هامة يشعر القارئ خلال قراءته أنه يتعمّد خلق صورة ينتظرها كمعنيّ بهذا العمل، كأنها موجّهة لجمهور محدّد ومن المؤكد ليس الجزائري، وهو نوع من الأيديولوجيا الروائيّة التّي يمكنها أن تتحوّل إلى تاريخ ما دامت تتعلّق بالشخصية التاريخيّة خاصّة عند القرّاء الأبرياء من التاريخ نفسه.

فهل تعمّد واسيني أن يكتب عن واسيني تحت برنوس الأمير عبد القادر؟ 

يفتتح الكاتب واسيني الأعرج عمله "الأمير" بين أمواج بحر الجزائر التي تحمل قارباً عليه جون مويبي الذاهب نحو أصفى مكان سيرمي فيه أكليلاً أو تراباً للقس ديبوش كما وعده على تلّة مرسيليا أمام الكنيسة، وبخار السفينة التّي ستنقل الأمير إلى منفاه يختفي بين الزرقتين، وتنتهي على مرفأ الميناء الجزائري حيث ستوضع جثة القس ذاته بعد أن حظي بجنازة ملكية مفتوحة لم تربط فقط سكان مدينة الجزائر وقتها بل ربطت القارئ منذ بداية الرواية بخبر وفاته، لينتهي العمل بوداع لم تحصل عليه أشرف الشخصيات التّي سقطت في ميادين القتال داخل العمل. 

وبين هذا الحدث الذّي يعدّ كمزدوجتين أو كنقطتين زمنيتين يفتحها جون موببي سيخوض الكاتب على لسانه غمار السرد الروائي التاريخي المليء بالروح الصوفيّة التّي تذكّرنا قليلاً بعلاقة جلال الدين الرومي بشمس الدين التبريزيّ، فلا تعرف هل هي رواية خاصة "بالأمير عبد القادر" أم بالقس "ديبوش" لكثرة ما وجّهت الأنظار إلى سياق آخر، صحيح أنّ العمل يتعلّق "بالأمير عبد القادر بن محيي الدين" لكنّ الهالة التّي أحيط بها القس "ديبوش" تمنعه من أخذ دور البطولة كما هو منتظر من التاريخ، لقد حوِّل "الأمير" إلى إكسسوار روحي، ووضع الروائي في هذه الشخصية المسيحية كلّ رغباته في بناء علاقة ما بين الشرق والغرب وسماحة الأديان، بالرغم من أنّ "ديبوش" شخصية كانت متحمّسة جداً لتنصير المسلمين وبناء الكنائس على حساب المساجد. 

شخصية "ديبوش" جمعتها و"الأمير" علاقة تتراوح ما بين العداء والتقاتل وتتخلّلها أوقات هادئة وصافية أحياناً، لم يتوقّف الأمر على الشخصيتين بل انسحب حتى الأحداث الأشدّ دمويّة، إذ توظّف الطريقة المرتخية في وصف المقاومة الشعبية ضد الاحتلال مرفقة بتلك الهالة والمسحة المستسلمة لعذوبة التحليق داخل عالم التسامح والتعايش ولو على حساب الحقّ والباطل، حتى لا تعود تميّز بين التاريخ الحقيقي والتاريخ الذّي يريد الكاتب من خلاله نقل رسالته نحو العالم، وحيث يبالغ في تفصيص واقعة ما فيطيلُ عندها الحديث ويراها الأهمّ، يمر مرور الكرام على واقعة قد تكون أهمّ منها في التاريخ، وهو نوع من الانتقائية التّي تحضر فيها الأنا الكاتبة حضوراً يغيبُ فيه الحدث التاريخيّ. 

استخدام الحقائق التاريخية غالباً ما يكون الدّافع منه هو تغييب الحقيقة أو استصغارها، وقد حافظ الكاتب واسيني الأعرج على أمانة بعض الأحداث التاريخية وعلى تواريخها ومراسلات الأمير باللغتين وهذا ما شكّل هيكل الرواية، البيعة، حصار وهران، حصار معسكر، سقوط تكدامت، حصار عين ماضي "الزاوية التيجانية"، حصار "العقون" ابن سلطان المغرب للأمير، إغارة زمالة عاصمة الأمير المتنقّلة، عقد اتفاقية الاستسلام، الأسر وغيرها من الأحداث الواقعية التّي  سيتأكّد القارئ بنفسه من وجودها لكنها لا تأخذ شكل البطولة رغم أن العمل ككل مثارٌ لأجل أن يسلّط عليها الضوء.

والبطولة هنا لا تتعلّق فقط بسرد الحدث التاريخيّ بل باللغة والأدوات التّي ساهمت في سرده، يمكنك أن تتحدّث عن واقعة ما في عدة صفحات لكن الأسلوب وأدوات التعبير التّي قرّرت استخدامها لذلك لا تقول شيئاً، فمن كان بطلاً في التاريخ قد يغدو شخصاً ثانوياً في الرواية والعكس صحيح كما قال جورج لوكاتش.

يعمل الكاتب على محدودية سردية حول واقعة تاريخية حتى لا يتورّط في التّاريخ، فيصفُ لنا بغزارة الهوامش التّي رافقت المتن، فتتبادلان الأهمية، ونستذكر يوم" البيعة" الذّي سيصبحُ فيه الأمير عبد القادر سيداً على القبائل وقائداً لجيش سيقاتل ببسالة حتى تتقطع به السبل، ويحاصره سلطان المغرب والجيش الفرنسي فيما بعض القبائل أدارت له ظهرها. 

إنّه يوم مهمّ للغاية في تاريخ القبائل وتاريخ الجزائر لكنّ للروائي رأياً آخر، إنّه يوم حقيقيّ لكنك لن تشعر بأهمية تحقّقه في الزّمن حيث أخذ المكان لغة أخرى تنبئ بالشؤم، ستتعلّق في ذهن القارئ طبيعة بائسة لا لأنها مشؤومة في التّاريخ بل لأن الكاتب وعبر أدوات محكمة التواري بطّن ذلك في وصفه ليوم البيعة في افتتاحية "منزلة الابتلاء" عام الجراد، هكذا يسميه العارفون ورجال البلاد والصالحون وزوّار الزاوية القادريّة"، ويضيف" منذ الصباح تبدأ فلول الجراد الأولى تسقط على سهل أغرس مشكلة مظلة سوداء على الحقول والمزار، حتى حوافي وادي الحمام الساخن تصير صفراء من كثرة الجراد العالق بالأطراف وبشجيرات الدّبس والمارمان التي تكسو أطراف الوادي، حتى الرياح الجنوبية التّي هبت ليلة البارحة لم تجلب معها إلّا المزيد من الرّمال والأتربة وأسراباً لا تحدّ من الجراد" صفحة 64.

ويواصل الكاتب خوضه تاريخاً روائياً للأمير تكسوه الهشاشة والاسترسال في المبالغة في التسامح الذّي يلامس في كثير من المرات سقف الجبن لا النّبل حينما كان في أسره بقصر أمبواز، كأنه عمد إلى تجريده من شجاعته وشخصيته التّي نصبت العداء لأكثر من 15 سنة للمستعمرين، تجاوزها الكاتب وصمّم التركيز على حالة يظهره فيها مرتمياً بين أحضان الاستعمار منبهراً به. "روحك غالية عليّ، ومستعدّ لأمنح دمي لإنقاذها، امنحني من وقتك قليلاً لأتعرّف إلى دينك وإذا اقتنعت به سرت نحوه"، صفحة 1. 

في النهاية سيقودنا هذا النّوع من السرد الروائي للتاريخ إلى حلة من قبول ما سلّط علينا، هنالك تبريرات وجوديّة لسيطرة الاستعمار على الضعفاء من وجهة نظر ما، وهنا تلتقي رؤية اليوم برؤية الأمس، ابن التهامي الشخصية المقرّبة للأمير وزوج ابنته يستخدمُ الكاتب غضبها في الأسر على ما آلت إليه أوضاعهم إلى إجابة قاسية من الأمير، قد تبدو واقعيّة لكنها لا تخلو من التبرير "يحفرون الأرض ويستخدمون التربة، ويحوّلونها إلى قطارات بخاريّة وسفن حربيّة وسيارات وقوانين لتسيير البلاد"، صفحة 591. ألا يذكركم هذا بمواقفَ كثيرة شهدناها في الحرب على غزة؟ لا يتوقّف واسيني عن إبداء رأيه على ألسنة الشخصيات التّي استطاع استغلالها لتقول عنه ما يريد قوله، فالمسلمون لا يستطيعون مجارات كلّ هذه التكنولوجيا العسكريّة وكل هذه الحضارة المتسارعة، "لقد طاروا وانكسرت أجنحتنا الصّغيرة" صفحة 517.

فما أهميّة كتابة رواية تاريخية تخوض تاريخاً أيدولوجياً يتعلق بالكاتب أكثر مما يتعلق بالشخصيات التاريخية؟

يخلقُ الروائيّ مسالكه الأيديولوجية حتى حينما يكتبُ عن أمور قد لا تتعلق من وجهة نظرك البريئة بذلك، لأنّ الإنسان مشبّع بوجهات النّظر وأبطال اليوتوبيا والحياة التّي يعتنق قيمها هي حياة في مكان آخر تماماً من حياته، ورغم معرفتنا لخطر الأيديولوجيات داخل الأعمال الروائيّة التاريخية إلاّ أننا لا نستطيعُ أن نقلل من أهميّة  هذا الفعل الأدبيّ، فبمجرد أن ينفخ في الشخصيات روائياً تعادُ معهم مراجعة التاريخ فيحيلنا عمل موجّه روائياً إلى الحقيقة التاريخية، نحن نعرف أن الروائيّ له أسبابه التّي تجعله يلجأ إلى التاريخ، كالبحث عن الذات الضائعة، اكتشاف معنى الاستمرار، الانتماء إلى شيء ضائع إلى الأبد، مسح الغبار عن الصور القديمة، إلّا أنّ أسبابه تلك ستقودنا دائماً نحو الجدل، الجدل هو ما سيحسم كل شيء لأنّه لا يتوقّف عن البحث عن الحقيقة والتشكيك فيها.