ماري عجمي.. "أديبة الشام" لم تأخذ حقها من التاريخ

سورية دمشقية كانت صاحبة الصرخة الفكرية النسائية الأولى في العالم العربي.. من هي ماري عجمي؟

في الحديث عن دور النساء السوريات في الحياة السورية في القرن الماضي، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، لا بدّ من أن يبرز اسم ماري عجمي، التي كتبت عنها الأديبة كوليت الخوري،  عام 2000، وقالت: "لا بد من أنها لم تأخذ حقها من التاريخ، ولم تحتلّ المكانة التي تليق بها في سِجِلّ المجد".

ووصفتها الأديبة وداد سكاكيني بأنها "أديبة الشام"، بينما وصفتها الأديبة نادية خوست بأنها "متألقة الروح، وطنية، حادة البصر والبصيرة، جريئة وعملاقة، وكتبت بلغة مضرجة كالفجر".

أما سعيد الجزائري فجاهر برأيه فيها مراراً: "الرائدة الأولى ماري عجمي، فتاة دمشق، هي صاحبة الصرخة الفكرية النسائية الأولى في العالم العربي".

تُعَدّ عجمي المرأة السورية التي استطاعت أن تمنح إعلام بلدها في أحلك ظروفه أول مجلة نسائية، لذا تُعَدّ رائدة الصحافة السورية، كما ساهمت في هذه النهضة النسوية عبر مشاريعها التنويرية، والعمل في الصحافة، وتأسيس النوادي الأدبية والمدارس.

البحث عن ماري عجمي

  • شهداء السادس من أيار 1916
    شهداء السادس من أيار/مايو  1916

يمكن العثور على الكثير بشأن ماري عجمي وحياتها ونشاطها، ثقافياً وأدبياً وسياسياً، في مراجع متعدّدة، أولها "معجم أعلام النساء" لمحمد التونجي، وكذلك في الموسوعة التي حررها نبيل صالح، بعنوان "رواية اسمها سورية"، في فصل "صرخة في زمن الخوف". ويسرد فيه حكاية عجمي، ولاسيما تلك الفصول المتعلقة بحبيبها بترو باولي، الذي لقّبته بالكاتب "الباتر"، بالإضافة إلى المعتقلات العثمانية، وحكايتها مع جمال باشا السفاح.

كما يتطرق إلى كتاب عيسى فتوح، "أديبات عربيات"، الذي يقول فيه إنّ الحديث عن عجمي، كشاعرة فحسب، لا يعطيها إلّا صورة نصفية، إذ يكمن النصف الآخر في كفاحها، سياسياً وأدبياً. ويذكر أخيراً، وليس آخراً، كتاب إحسان هندي، "أشهر شاعرات الحب في بلاد الشرق والغرب"، والذي يورد حكاية حياتها بكثير من الإيجاز. وأيضاً، ظهرت ماري عجمي كشخصية درامية في مسلسل "حرائر" عام 2015، في إطار مشروع إبراز الوجه المشرق للمرأة السورية.

في الطرف الآخر، ثمّة كتابان أُفرِدا عن ماري عجمي، أولهما كتاب ميشال جحا، الذي يحمل اسمها، وصدر عن "دار رياض الريس" عام 2001، ويتضمن أعمال عجمي النثرية، ورتّبها المؤلف ضمن 5 مواضيع، هي: المرأة، وطنيات، الفن والجمال، صحافة، تربية واجتماع.

أما الكتاب الآخر فهو "وقائع الندوة الثقافية، ماري عجمي، أديبة من عالم آخر"، وصدر عن وزارة الثقافة السورية. ويصدّر عجمي أديبةً متفوقة سبقت زمانها بأزمنة، سيرتها سيرة وطن، وأدبها أدبٌ وطني، وحياتها في تفصيلاتها حياة امرأة عاشت لوطنها وسوريتها.

مع ذلك، يكتب عبد الغني الملوحي في كتابه "عبقريات شامية"، بعد وفاة ماري عجمي بأعوام: "لم نُقِم لها تمثالاً في حياتها، وهي جديرة بذلك. ولم نطلق اسمها على شارع، وهي أهل لذلك أيضاً".

وُلدت ماري في 14 أيار/مايو 1888. أبوها يوسف عبده عجمي، حموي الأصل، وانتقل جده إليان الحموي إلى دمشق قبل زمن، وهناك اكتسب اسم العائلة عجمي بسبب تجارته مع العجم، كما تشير عدة مراجع.

درست ماري الابتدائية في المدرسة الآيرلندية في دمشق، ثم درست الإعدادية في المدرسة الروسية، إلى أن درست التمريض في الجامعة الأميركية في بيروت، وتجوّلت بعد ذلك في مصر وفلسطين والعراق في رحلة عملت فيها في مدارس تلك البلاد، وكتبت خلالها بعض المقالات الصحافية.

عادت ماري إلى سوريا عام 1909، بعد أن بدأت السلطنة العثمانية محاولتها تتريك المنطقة، وسَجْنَ كل من يعارضها.

حاولت ماري إذّاك زيارة السجون، وتمكنت من دخولها ولقاء كثيرين من معتقلي الرأي في ذلك الوقت. ويمكن العثور على هذه القصة كاملةً في "رواية اسمها سورية"، التي أشرنا إليها.

يروي ميشال جحا في كتابه، الذي ذكرناه، أنّ ماري التقت شابّاً من أصل يوناني يقيم ببيروت، ويدعى بترو باولي، اجتمعا معاً على مقاومة العثمانيين. عمل باولي مراسلاً لمجلة "العروس" في بيروت، وجمعته علاقة حب بماري، إلّا أنها لم تدم طويلاً، إذ اعتقله العثمانيون وضمّوه إلى قافلة المناضلين الذين أُعدموا في 6 أيار/مايو عام 1916 في ساحة الشهداء في العاصمة اللبنانية. وأيضاً يمكن العثور على القصة الطويلة، والتي يتعذّر إيرادها هنا، في موسوعة نبيل صالح.

 العروس

  • ماري عجمي ومجلة
    في فترة الاستعمار الفرنسي حاول الفرنسيون إقناع ماري بالكفّ عن مهاجمتهم في المجلة

"إلى الذين يؤمنون بأن في نَفْس المرأة قوةً تُميت جراثيم الفساد، وأن في يدها سلاحاً يمزق غياهب الاستبداد، وأن في فمها عزاءً يخفف وطأة الشقاء البشري … أقدّم مجلتي لا كغريبة تُثقل بها عواتقهم، بل كتقدمة إلى من يليق بهم الإكرام وتناط بهم الآمال". هكذا قدّمت ماري عجمي مجلة "العروس"، التي أنشأتها وتولت إدارتها عام 1910، على هذا النحو، وهي أول مجلة تنشئها وتديرها وتحررها امرأة في الوطن العربي. 

قُسمت المجلة إلى عدة أبواب، أبرزها "حديث ذو شجون"، وتحكي فيه ماري عن انطباعها ورأيها في بعض القضايا، وما تطالعه في المجلات الأجنبية. كما يوجد باب المباحث النفسية، وباب الفنون الجميلة، وباب الرواية، وباب تدبير المنزل، وباب الاجتماع، ثم زاوية للأخبار الأدبية والأخبار الخاصة المتفرقة. أمّا المقالات، التي يعلو نقد ماري فيها، فوقعتها باسم "ليلى".

يكتب عيسى فتوح، في تقديمه ديوان ماري عجمي، كثيراً عن مجلة "العروس". ويذكر أنّ من بين مَن كتب فيها آنذاك: روز شحفة والدكتورة أنس بركات، زوجة نصير المرأة جرجي نقولا باز، بالإضافة إلى زينب فواز وأديل عجمي وسلمى كساب وسلمى جنبلاط ونازك العابد وغيرهن.

أمّا من الرجال فكتب في المجلة أديب فرحات وجورج قصاص وإيليا أبو ماضي والرصافي وبدوي الجبل والأخطل الصغير. وتشير مراجع أخرى إلى أنّ جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وعباس محمود العقاد وغيرهم كتبوا فيها أيضاً.

بدأت المجلة وعدد صفحاتها 32 صفحة، ثم انتهت بعد أن تضاعفت إلى 64 صفحة. في المرحلة الأولى، 1910–1914، صدر في المجلة 3 مجلدات، وقعت في أكثر من 1500 صفحة. وفي المرحلة الثانية، 1918 –1926، صدر منها 7 مجلدات، تقع في نحو 5400 صفحة.

في فترة الاستعمار الفرنسي، حاول الفرنسيون إقناع ماري بالكفّ عن مهاجمتهم في المجلة، في مقابل مبالغ ضخمة من المال تُدفع إليها، لكَّنها رفضت، وازدادت مقالاتها حدة، فردّوا عليها بتعطيل المجلة نهائياً.

تقول ماري عن ذلك: "بعد أيام قليلة انقضت على استيلاء فرنسا على دمشق، جاءني شرطي برقعة يدعوني فيها رئيس الوزراء إلى اجتماع أراد عقده، فخَطَطْتُ عليها كلمة (تبلَّغت)، وأبيت أن ألبي الدعوة. وبعد انعقاد الاجتماع، سألت عن القصد منه، فقيل لي إنَّ مدير المطبوعات الفرنسية خطَبَ في الحضور، وهم الكتَّاب، وعلَّمهم (كيف يكتبون) ووزَّع عليهم ورقاً بلا ثمن، ووعدهم بالمساعدة. ولم يمرّ ردحٌ طويلٌ على ذلك، حتّى طفق أحد معارفي يتردّد عليّ كلَّ مساء، محاولاً إقناعي بأنّني إذا هتفت لفرنسا وأنشأت الفصول، مُعدّدةً الإصلاحات التي تقصد والتي قام الانتداب علينا من أجلها، فزتُ بأجرٍ شهريّ ضخم من الذهب الوهّاج. وفاجأته يومها بقولي: ما هي تلك الإصلاحات التي تريد أن أكتب عنها؟ قال: عليّ أن آتيك بقائمتها مرّة بعد أخرى، وعليكِ إقناع القوم بها شفاهاً وخطابةً وكتابةً. قلت له: لِتنجِز فرنسا أوّلًا ما تعدنا به من إصلاحات، فأترنّم بذكرها مجّاناً. وكان جوابي هذا له آخر عهدي به".

"النادي النسائي الأدبي" ونشاطات أخرى

  • ماري عجمي
    ماري عجمي

بعد توقف "العروس"، تابعت ماري نضالها، ثقافياً وأدبياً وسياسياً، وأسست "النادي النسائي الأدبي" مع نازك العابد في حي القصاع في دمشق، ثم "جمعية نور الفيحاء" وناديها، و"مدرسة بنات الشهداء" عام 1920. كما انتُخبت عضواً في لجنة النقد الأدبي في "جمعية الرابطة الأدبية" عام 1921، وكانت المرأة الوحيدة في تلك الرابطة. وشاركت مع فاطمة مردم وسلوى الغزي في تأسيس "جمعية يقظة المرأة الشامية".

قالت عجمي، في افتتاح النادي، إن "إصلاح البلاد لا يتمّ ما لم يوجد التوازن بين الجنسين في العلم والمعرفة، ليتعاونا معاً في الوصول إلى مركز كل منهما العلمي. إنّ صرخة النساء في طلب المساواة طبيعية لا مناص منها، وبرهاني على ذلك يقتضي الرجوع إلى التاريخ. فإن قلّبتم صفحاته تَرَوْا الأمومة أقدم عهداً من الأبوّة".

وضم النادي، كما تشير المراجع، نساءً من عائلات دمشقيّة وبرجوزايّة عريقة. وهدف، بصورة رئيسة، إلى تحرير المرأة من القيود المجتمعيّة المحافظة، وإلى حصول المرأة السوريّة على كل حقوقها السياسيّة والقانونيّة والاجتماعيّة، وإلى تحرّر المجتمع السوري على نحو عام، من الاحتلالات المتعاقبة على البلاد، بالإضافة إلى نشاطات أدبيّة متعدّدة.

شكّل النادي أيضاً واحدة من الجمعيات والنوادي النسائيّة، التي نشطت في المدن السوريّة الكبيرة، والتي عُنيت بالأدب والسياسة وبدور المرأة في المجتمع، لتشكّل ما يُمكن أن يُسمى "الموجة النسويّة السوريّة الأولى".

حين توقّفت الرابطة الأدبية عن العمل، فتحت ماري بيتها الدمشقي العتيق في حي باب توما، مستقبلةً فيه الأدباء من أعضاء الرابطة الأدبية، في يومي السبت والثلاثاء من كل أسبوع، سالكةً درب رفيقتها ماريانا مراش، التي فتحت قبلها بأعوام في مدينة حلب أول صالون أدبي نسائي في الشرق. كما توجهت إلى الترجمة بسبب إتقانها الإنكليزية، إذ ترجمت لكاتبات أميركيات وإنكليزيات، مثل دوروثس دوكس ولويزا آلكوت وآلن روبنسون. وترجمت رواية "المجدلية الحسناء"، ورواية "أمجد الغايات" لباسيل ماسيوز. كما تُعرف ماري بمواقفها الداعمة للفلاحين والعمال السوريين.

الموت وحيدة

تتّفق المراجع كلها على أنّ ماري عجمي ماتت وحيدة، "كأن التاريخ يعيد ما حدث لماريانا مراش قبلها بأعوام طويلة، وكأنه مصير حاملات مشاعل التغيير في زمن العتمة والجهل والركود".

تُوُفِّيت في 25 كانون الأول/ديسمبر 1965 عن 77 عاماً. وتقول روزا ياسين حسن، بعد أعوام على وفاتها، ما يشبه ما كتبته كوليت الخوري: "لم نجمع آثارها المشتَّتة في مجلتها، وفي عشرات الصحف والمجلات، ولم نحدّث الجيل الصاعد في الكتب المدرسية بشيء من أخبارها، ولم نروِ له صفحة من كفاحها. لقد نسيناها كما نسينا سائر عظمائنا في الجهاد، وطنياً وفكرياً وعلمياً".