كتاب الوصايا
لا مظلومية اليوم أوضح من مظلومية الشعب الفلسطيني، ولئن كان البعض ضالاً أو مضللاً، فإن مقتلة غزة كشفت النقاب عن كل شيء، وأسقطت الأقنعة عن كل الوجوه، حتى بات من الممكن القول إنها (غزة) اليوم معيار إنسانية كل إنسان أينما كان.
لا يجد كتّاب غزة وشعراؤها أفضل من الكتابة سبيلاً إلى تأكيد حقهم في الحياة والحرية.
هنا، أي في غزة، يغدو للحبر مذاق آخر. إنه حبر ممتزج بالدم والنار والبارود. فالكلمات الطالعة من جوف اللهب، ومن تحت الركام، مشوبةً بالدخان والغبار لا تشبه سواها من كلمات. كل كلمة تبدو أشبه بطفلة ناجية من المقتلة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي على مرأى العالم ومسمعه.
مَن يقرأ النصوص الشعرية والنثرية الآتية إلينا من قلب غزة يكاد يسمع لها صوتاً، إنها أشبه بصرخة هائلة يطلقها هؤلاء كسراً لصمت العالم وتواطئه مع القاتل. كل كلمة تُكتب تحت هدير الطائرات المعادية، وفي غمرة القتل والتدمير، تصير شبيهة بلوحة "الصرخة" الشهيرة للفنان التعبيري النرويجي إدفارد مونك الذي رسمها في عام 1893.
تتوالى الأيام والسنين والعقود والقرون، وتظل صرخات المظلومين والمقهورين والمضطهدين عالية مدوية في وجه عالم تسوده شريعة الغاب، وتطغى فيه القوة على ما عداها. وفي حين تتقدّم البشرية علمياً وتكنولوجياً نرى أنها تتراجع إنسانياً وأخلاقياً حيث تتجرّد السياسة، التي معناها تدبُّر شؤون الناس وتصريفها، من كل بُعد إنساني، وتتخلص حتى من المفاهيم الأيديولوجية التي تميّز حكماً عن آخر، لتصبح مجرد لعبة مصالح اقتصادية وعسكرية، وصراعات هيمنة ونفوذ لا قيمة فيها للشعوب، لا سيما الشعوب الواقعة تحت سيطرة نظم مستبدة ومتخلفة.
لأن الراهن على هذا النحو، تصير صرخة المبدعين أدباً وفنّاً أكثر أهمية وإلحاحاً. فهؤلاء هم بطبيعتهم الأكثر انحيازاً إلى الإنسان أنّى كان في معزل عن جنسه وجنسيته وعرقه ودينه ولونه. وغزة اليوم هي الاختبار الأكثر وضوحاً للضمير الإنساني، بعيداً من كل الخلفيات الأيديولوجية والاعتبارات السياسية. فما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي من جرائم ومجازر تفوق الوصف، تجاوز كل الاعتبارات والذرائع التي يحاول الصامتون والمحايدون التلطي وراءها.
لا يمكن لمثقف حقيقي، سواء أكان شاعراً، رسّاماً، موسيقياً، مغنياً، ممثلاً، أن يبقى على الحياد. لا حياد بين الحق والباطل، بين القتيل والقاتل، بين المظلوم والظالم. ولا مظلومية اليوم أوضح من مظلومية الشعب الفلسطيني، ولئن كان البعض ضالاً أو مضللاً، فإن مقتلة غزة كشفت النقاب عن كل شيء، وأسقطت الأقنعة عن كل الوجوه، حتى بات من الممكن القول إنها (غزة) اليوم معيار إنسانية كل إنسان أينما كان.
"كتاب الوصايا" الصادر عن "دار مرفأ" في بيروت، هو الكتاب الأكثر تأثيراً فيّ بين الكتب التي قرأتها مؤخراً، وهو شهادات مبدعات ومبدعين من غزة في مواجهة الموت (بعضهم استشهد). الكتاب فكرة وتحرير الشاعرة والمترجمة الفلسطينية ريم غنايم، كتب مقدمته كلٌّ من الكاتب الكندي الأرجنتيني ألبرتو مانغويل والفيلسوفة والناشطة النسوية الأميركية جوديت بتلر، وأهدته غنايم "إلى روح الفنانة التشكيلية الفلسطينية هبة زقّوت (1984 - 2023) التي ارتقت مع طفلها من جرّاء القصف الإسرائيلي في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023. اللوحات داخل الكتاب رسمتها هبة بعناية فائقة وهي هنا تؤكد أن الفنّ يواسي من كسرتهم الحياة".
مِن الكتاب:
أوصي المجانين أمثالي، الغارقين في الخيال، أن يتحوّل بعضهم إلى زمّار يأخذ الأطفال إلى مغارة بعيدة، يعزف كل رجل فيهم مقطوعته الموسيقية عند الفجر ليذهب الملائكة الصغار إلى مغارة لا مكان فيها للموت.
(يسري الغول)
**
إذا كان الموت لزاماً عليَّ، فليأتِ بأملٍ وليأتِ بحكاية.
(رفعت العرعير)
**
تبكي المدينة وأبكي، أبكي كثيراً، هذه وصيتي، صوتي النهائي، أريد أن أنجو!
(هناء أحمد)
**
نظّموا حفل عشاء كبيراً، ولا تنسوا كاتشاب دمائنا، ولا فلفل قهرنا، ولا عصير دموعنا، ولا صراخنا.
(أمل أبو عاصي اليازجي)
**
للحظة، للحظة واحدة فقط، اهتزت جذور المنزل ثم استكان، والصوت الصاعق من الخارج قد توقف، وهدير الطائرات قد غفا واستسلم، وبقيت وحدي أشعر بثقل كبير على جسدي.
(ليليان أسامة أبو القمصان)
**
إن الحياة التي نعيشها في ظل الحرب، ليست حياة بمعنى الكلمة وإنما نعيش على قيد ما يشبه الحياة، نحاول أن نصل إلى الموت قبل أن يصل إليه الآخرون ممن نُحب.
(حسين حرز الله)
**
إن كنت سأموت، فليكن موتاً نظيفاً. لا ركام فوق رفاتي، لا جروح في رأسي أو صدري، لا دمار في مخدعي، لا آنية ولا كؤوس متكسّرة.
(مصعب أبو توهة)
**
أنا أيضاً خائفة من الموت وحدي من دون أمي وإخوتي، وخائفة أكثر من الحياة وحدي.
(ميار الجزّار، 12 سنة)
**
…وأعلم أنني سأشرق بين الابتسامات طفلاً يعضُّ على الحياة كأنها الأبد.
(يوسف القدرة)