فوضى الكوكب، كوكب الفوضى!
إذا كنّا نشهد حالياً فوضى على كوكب الأرض، فمن غير المستبعد أن تتحوّل هذه الأرض بفعل سياسات الظلم والتمييز والاحتكار إلى كوكب الفوضى!
ما عاشته شوارع العاصمة والمدن الفرنسية مؤخّراً من أعمال احتجاج عنيفة على مقتل مراهق من أصل جزائري برصاص الشرطة، لا يمكن تحليله وفهمه فقط لجهة ارتباطه بالحادثة نفسها، واعتباره مجرد ردّ فعل على تسرّع الشرطة في اللجوء إلى إطلاق النار. فما شهدته باريس تشهده عواصم أخرى مثل لندن وبرلين والكثير من المدن الأميركية، ويتكرّر بشكل متسارع في هذه الدولة أو تلك من الدول التي كانت تبدو في مأمن من هذا العنف الجماعي، وتقتصر الاحتجاجات فيها على تظاهرات وإضرابات معظمها سلمية.
لكنّ المشهد بدأ يتغيّر ويتسارع في العقدين الأخيرين، بفعل عوامل كثيرة سياسية واقتصادية واجتماعية، وبفعل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وتصاعد ظاهرة التمييز العنصري، وتزايد مشاعر الكراهية والنقمة على المهاجرين واللاجئين إلى بلاد ظنّوها النعيم المرتجى. ولعل صعود الكثير من التيارات اليمينية إلى سدة الحكم في أكثر من بلد أوروبي يعطينا فكرة عن المسار الذي تتجه إليه الأمور.
فعلى الرغم من انفتاح العالم على بعضه بعضاً عبر الفضاء الافتراضي، وتحوّل كوكب الأرض إلى ما يشبه قرية كونية كما بات يُقال، فإن كثيراً من الجماعات والمجموعات العرقية والدينية وسواها صارت أكثر انغلاقاً وانعزالاً، وأكثر قلقاً على مصيرها وخوفاً على هويّتها، ولجأت إلى خطاب عنصريّ مقيت للتعبير عن هواجسها ومخاوفها من الآخر، وغذّت مشاعر الرفض لاندماج المهاجرين واللاجئين في مجتمعاتهم الجديدة.
يضاف إلى الصراع "الهوياتي" والأيديولوجي الصراع على فرص العمل ومصادر الدخل ولقمة العيش. صحيح أن كثيراً من الدول تحتاج إلى العمالة الوافدة وإلى أصحاب المهن الحرة والحرفيين نتيجة نقص هذه الكفاءات لديها، لكن الصحيح أيضاً أن "أتمتة" أو "رَوْبَتة" العالم تجعل الجميع قلقاً على وظيفته ومجال عمله. الذكاء الاصطناعي وحده يهدّده بالاستغناء عن 300 مليون وظيفة دفعة واحدة بحسب تقرير لمؤسسة "غولدمان ساكس".
حلول الآلة الذكية مكان الإنسان يتسارع ويتزايد، وكلما تضاعف هذا الأمر زادت البطالة أكثر وضاقت فرص العيش، وارتفعت مشاعر الثورة والغضب لدى جميع المتضرّرين من الواقع المستجد على امتداد المعمورة. أضف إلى هذا الواقع نسب التضخّم الهائلة التي تسبّبت بها حرب أوكرانيا والأزمات الاقتصادية في أكثر من بلد.
ما يفاقم هذا الواقع المزري أن العولمة الاقتصادية والمالية جعلت الاقتصاد العالمي أشبه بحجارة الدومينو، ما إن يقع حجر حتى تكرّ الحجارة كلّها. فما يحدث هنا يصيب هناك، لا أحد في منأى أو مأمن. وما يزيد الطين بلة أن "الفلسفات" الاقتصادية المتحكّمة بالعالم اليوم تخلو من أي بعد إنساني.
إذ لا شيء يشغل القوى المتحكّمة باقتصادات العالم، عبر كثير من المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد وسواها، التي تبدو وكأنها فاقدة لأيّ مشاعر إنسانية، لا هدف للشركات العملاقة العابرة للقارات سوى المال ثم المال ثم المال، وفي سبيل هذا الأمر تسقط كلّ القيم والمبادئ. يتراجع دور الدولة الراعية تدريجياً، لتحلّ محلها "الدولة الشركة" التي تسنّ قوانينها لمصلحة الأثرياء على حساب الفقراء، والقطاع الخاص على حساب القطاع العام.
سبق أن حذّر عالم الفيزياء البريطاني الشهير ستيفن هوكينغ قبل وفاته بسنوات من هذا الواقع المرير، ومن نتائجه الكارثية مستقبلاً، حين أشار إلى "أن الزيادة السكانية والعدائية البشرية وتغيّر المناخ يمكن أن تتسبّب بدمار البشرية"، معرباً عن اعتقاده أنه "إذا كان لدى جنسنا فرصة في النجاة، فإن أجيال المستقبل ستحتاج إلى إنشاء حياة جديدة في الفضاء"!
كما حذر هوكينغ من مخاطر الذكاء الاصطناعي، وتزايد الاعتماد على الروبوت عِوض الإنسان. وهذا ما بدأنا نعيشه بالفعل، فالعدائية البشرية تتزايد يوماً بعد يوم، والآلات الذكية تحلّ محل البشر، البطالة تزداد ويزداد معها الفقر والشعور بالغبن والظلم، وكلها وقائع لا تؤدي إلا إلى الهاوية.
هل أقسى من أن تدفع بحرية إحدى دول المتوسط مئات اللاجئين إلى الغرق كي تمنعهم من الوصول إلى برّها، ثم ينشغل الإعلام العالمي لأيام طوال بفقدان خمسة مغامرين أثرياء أحبّوا مشاهدة حطام سفينة "التايتنك"، فيما يتعامى عن الآلاف من المهاجرين الحالمين بحياة أفضل على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، الذين يقضون غرقاً في الماء قبل تحقيق حلمهم المنشود!
العالم بصيغته الحالية، وبأفكار المجانين الذين يقودونه متعطشين لمزيد من المال والسلطة، يتجه نحو مزيد من الخراب والفوضى، ومشاهد العنف في شوارع باريس وبقية المدن الفرنسية سوف نشاهد مثيلاً لها في أكثر من عاصمة ومدينة، طالما بقي الظلم والتمييز والعنصرية والبطالة والإجحاف.
سنبقى هكذا ما لم تحدث ثورة ثقافية تولّد فلسفات ورؤى جديدة في الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع، تنتصر لحق الإنسان في العدالة والمساواة والحياة الحرة الكريمة، وتعيد الاعتبار لحق الناس، كل الناس، في خيرات الأرض التي لا يمكن أن تستأثر بها "نخب" تسيطر على صناعة القرار، وتحتكر التطوّر التكنولوجي وتمضي في مشاريعها وفق مقولة "بعد حماري ما ينبت حشيش(عشب)".
وإذا كنّا نشهد حالياً فوضى على كوكب الأرض، فمن غير المستبعد أن تتحوّل هذه الأرض بفعل سياسات الظلم والتمييز والاحتكار إلى كوكب الفوضى!