"فلسفة التديّن" .. الطريق إلى الله في عالم متحول
الدين، في جوهره، تقوم علاقته بالتديّن على تعاليم تتوالد على شكل أوامر. أمّا التدين من جهة علاقته بالدين فاستجابة من لدن المكلف بإزاء هذه التعاليم المتعالية.
"فلسفة التدين – الطريق الى الله في عالم متحول"، كتاب جديد للدكتور حبيب فياض، وهو بمثابة أطروحة دقيقة وحساسة في معالجة خاصية التديّن بالالتزام الديني ومحاولة جريئة لمقاربة هذه المسألة بكل ما لها وما عليها.
كتاب فياض يُعد خطوة أولى على طريق تأسيس ما يمكن تسميته بفلسفة التديّن، حيث يتضمن المباحث الأولية المطلوبة لبلورة مفهوم هذه الفلسفة، بالإضافة إلى صياغة هندستها المعرفية المشتملة على موضوعها ومنهجها ومسائلها ومبادئها وغاياتها، هذا فضلاً عن ترسيم الحدود المائزة لها عن غيرها من المجالات المعرفية، التي تتقاطع معها من قبيل فلسفة الدين، وكل ما يتصل بها من علم الكلام.
تهدف فلسفة التديّن، كما يوضح المؤلف فياض، إلى الجمع بين البحث النظري في التديّن والبحث التطبيقي في الدين؛ بمعنى دراسة الدين متجسّداً في الواقع ودراسة التديّن متجلّياً في النصوص. يتمحور الجهد الأساسي في فلسفة التديّن على تشميل الفعل التديني وجعله انعكاساً لشتى أنواع التعاليم الدينية، وتحديداً على مستوى فاعلية المسألة الفقهية والقيمية، إلى جانب تحويل المسألة الاعتقادية من مسألة ذهنية ونفسية إلى مسألة التزامية تطبيقية في شقيها التعبدي والقيمي.
الكتاب صادر في بيروت عن دار الفارابي، 2023، ويقع في 374 صفحة من القطع الكبير، ويتضمن مقدمة وخمسة فصول.
التنظير الفكري للفقه وعلم الكلام
الخوض في فلسفة التديّن لا يعني التخلّي عن التنظير الفكري للدين أو التقليل من شأنه، بل محاولة الحدّ من غلوائه النظري والعمل على ربطه بالممارسة وتنقيته من الشوائب وجعله قابلاً للتطبيق، وإخراجه من كونه مجالاً للمبارزة والسجال والدوران في حلقة مفرغة من التنظير. ذلك أنّ المفكّر غالباً ما يسقط في مطب الكلمات والمصطلحات على حساب الوقائع والأفعال، على غرار التمسك بالوسيلة على حساب الغاية، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالدين الذي يتمحور دوره على الأعمال في واقع عالمي قائم على الاضطرابات والتحولات.
يشكل كتاب "فلسفة التديّن" مدخلاً لإخراج منظومة علم الكلام، كما يوضح المؤلف، من جهة الفقه والقيم من محدوديتها المعهودة وإعادة إنتاجها بما يتلاءم مع شمولية النصّ واحتياجات الواقع. فلا يعود علم الكلام محصوراً بالعقيدة التقليدية، بل يصار إلى إعادة إنتاجه في ثلاثية: العقائد (أصول الدين والإلهيات والوجوديات)، المعرفة (العلوم الإنسانية والوضعية)، الأديان (الأديان السماوية والفلسفات الروحية). كذلك، علم الفقه لا يبقى مقتصراً على الشأن الفردي التقليدي، بل يندرج إلى إعادة إنتاجه في ثلاثية: فقه الأفراد (العبادات والمعاملات)، وفقه الأمة (الدولة، الوطن، الجماعات، الأحزاب، المجتمعات)، وفقه الحقوق (التشريعات القضائية حقوق البشر، والحدود). وصولاً إلى مسألة القيم الدينية حيث لا تقف حدودها عند الشأن الأخلاقي المعهود، بل يصار إلى إعادة إنتاجها أيضاً من خلال ثلاثية: علم الأخلاق (الفعل)، وعلم المنطق (التفكير)، والفنون (الجمال).
الثابت والمتحول في التديّن والإيمان
وقد حرص المؤلّف في هذا الكتاب، على بلورة العديد من الآراء والنظريات الجديدة في سياق تلقّي الإيمان وفَهم الدين والتديّن وتصويب الكثير من المفاهيم الدينية وما يتّصل بها من ممارسة تديّنية، وصولاً إلى رسم مسار تديّني عملي بالاستناد إلى الربط بين النظرية والتطبيق، بين الثابت والمتحوّل، بين المطلق والمحدود؛ بالإضافة إلى التمييز بين المفاهيم المتقاربة والمتداخلة، وملء الفراغ التطبيقي الذي يحتاجه الدين بوصفه نظرياً، والفراغ النظري الذي يحتاج إليه التدين بوصفه تطبيقياً، بدءاً من العلاقة مع الله، والإيمان به في هذه الحياة، مروراً بالفعل التديّني في مقام التجربة والتكليف، وصولاً إلى ملاقاته تعالى في العالم الآخر.
إن فلسفة التديّن نمط من الإرشاد الفلسفي الذي يبحث في كيفية تحويل موضوعاته النظرية المجرّدة إلى قضايا قابلة للتطبيق على النحو الأتم والأفضل.
وبالعموم، فإن التفكير في الدين )التفكير العقلاني) غالباً ينتج عنه ما يمكن أن يسمّى بفلسفة الدين، بينما "التفكير به" (التفكير بواسطة الدين أو التفكير الديني) يندرج في إطار ما يُسمّى بالمعرفة الدينية التي هي أقرب إلى جعل الفكر الديني في طور الخروج من دائرة الإشكاليات إلى حيز النظريات، ومن ثم تحويله إلى منظومات معرفية قابلة للتمثل النظري والالتزام الفعلي من قبيل علم الفقه، والكلام، والأصول، والحديث والسيرة.
المعرفة الدينية ومعرفة الدين
يلاحظ فياض أنه يتفرع ممَّا تقدم، ضرورة الإشارة إلى أنّ ليس كلُّ معرفة بالدين تنتج عنها بالضرورة معرفة دينية. بمعنى أن هناك فارقاً بين مقاربة الدين معرفيّاً بناء على محددات منهجية وإبستمولوجية، بهدف فهم الدين وما يتصل به من ظواهر وفق هذه المحددات، وبين أن يُصار إلى استخراج المحتوى المعرفي الذي ينطوي عليه الوحي وفق مُحدّدات منهجية ومعرفية معتمدة داخل منظومة المعرفة الدينية. الحالة الأولى تتأتّى من الخارج الديني بشكل حيادي على نحو الاستطلاع والتقويم، فيما الثانية تتأتى من الداخل الديني بنحو منحاز بغية تسييل تعاليم الوحي في أنماط نظرية تشكّل في مجموعها مرجعيات إرشادية للإيمان والالتزام الديني. وفي الإجمال تطبيق (المعرفة) على الدين، أي صيرورة الدين موضوعاً للمعرفة يتأتي وفق ثلاثة أشكال كما يرى فياض:
الأول: المعرفة الدينية بالذات (معرفة الدرجة الأولى) وهي المعرفة المستمدة مباشرة من الوحي فتنتظم في إطار المجالات المعرفية الأساسية التي ينطوي عليها الخطاب الوحياني؛ وهي العقائد والوجوديات (المعرفة الكلامية) والتشريعات (المعرفة الفقهية) والقيم (المعرفة الأخلاقية).
الثاني: المعرفة الدينية تتبع (معرفة الدرجة الثانية) وهي المعارف الإنسانية التي لیست مستمدة بمضمونها من النص الديني، بل هي عبارة عن معارف وضعية إنسانية، لكن يصار إلى تأطيرها دينياً من خلال إخضاعها للمعايير المعرفية والقيمية المتضمنة في مجالات المعرفة الدينية من الدرجة الأولى.
الثالث: معرفة الدين المستقلة؛ ونعني بها ما يتأتى من إعمال المعارف الوضعية بشتى مجالاتها في الموضوعات الدينية، على الصعيدين النظري والعملي، بدءاً من النصوص الوحيانية والمقدَّسات ومنظومة الاعتقاد، مروراً بالمفاهيم المتفرعة عن ذلك، وصولاً إلى الممارسة التدينيّة بظهوراتها وتداعياتها الفردية والمجتمعية.
المعرفة الفلسفية ومعرفة الدين
يجزم المؤلف فياض، نظراً لعدم كون كلّ معرفة بالدين معرفة دينية بالضرورة، وليست كل فلسفة دين هي بالضرورة فلسفة دينية؛ حيث تنطوي فلسفة الدين على معنيين: الأول هو كونها فلسفة دينية، بمعنى استخراج التعاليم الفلسفية من الدين، والثاني بمعنى اتخاذ الفلاسفة من الدين موضوعاً لهم والبحث فيه من خلفيات فلسفية. هذا النحو (الثاني) من التفلسف حول الدين جعل الفلسفة والدين في حالة تناظر وتقابل، ذلك أنَّ التنظير الفلسفي حول الدين شكّل من دون منازع الإطار الأشمل والأعمق لدراسة الدين من الخارج بكل متعلقاته الفعلية؛ بدءاً من موضوعات وجود الله، وحقيقة الدين، والحياة بعد الموت والوحي، والأنبياء ولغة الدين والقداسة وتوقعات البشر من الدين، ما استولد في المقابل دفعاً دينياً ومعرفياً وفلسفياً، لمواكبة ما ينتج عن ذلك أو لمعارضته.
التحولات المعرفية الفلسفية والغرب
لم يكن التنظير الفلسفي حول الدين في الغرب المعاصر وليد لحظة محدّدة، بل هو نتاج مسار تاريخي طويل ارتبط بمجموعة من العوامل المتداخلة التي شكّلت في ما بينها، وفي مرحلة متأخرة، بيئة فلسفية اتخذت من الدين مجالاً نقدياً على أرضية مختلفة عمّا كان عليه النقد للدين في القرون الوسطى وبدايات عصر النهضة.
مهما يكن، فإنّ قصة الفلسفة والدين في الغرب ليست حكراً على مرحلة تاريخية محددة، بل هي علاقة لازمت الفكر الغربي في مختلف حقبه التاريخية وصولاً إلى عصرنا الراهن، فظلت مقولة الدين محوراً تتبلور في ضوئه آراء المفكرين والفلاسفة الغربيين ونظرياتهم سواء أكانوا مؤيدين للمسألة الدينية أم معارضين لها. ذلك يعني أنَّ الدين ترك بصمته في المسارات المعرفية متعدّدة الحقول والمجالات في مختلف التجارب الغربية، وهنا يشير فياض الى مسارات عدة:
أولاً، يُعيد التاريخ إنتاج ذاته وفق ما يستجد من وقائع متراكمة تعيد صناعة المفاهيم على إيقاع التحولات التي تقتضيها محدّدات العلاقة بين الفكر والواقع بإيجاد تحولات عميقة في بنية العقلية الغربية والوعي التاريخيّ الغربي بكل متعلقاته، حيث بدأ العمل على إعادة النظر إلى الدين من خلفية عقلانيّة منمَّقة، فاتّخذ الفلاسفة من الدين موضوعاً لهم وبدأوا البحث في الجدوى من الوجود الديني وحدوده وصلاحياته ودوره في الحياة والمجتمع. وهذا ما مهد في ما بعد إلى ظهور مسارين متوازيين: فلسفة الدين كاتجاه مستقل لدراسة الدين بنحو متحرر من ربقة القداسة الدينية، والإلهيّات الحديثة كاتجاه منحاز لإعادة إنتاج وتحديث التعاليم الدينية. ذلك كله لم يحصل نظرياً من دونِ استحضار دائم، في إطار المراجعة والنقد والتجديد للممارسة التديّنيّة التاريخية المشوّهة بوصفها، كما تم افتراضها، انعكاساً مباشراً أو غير مباشر للتعاليم الدينية.
ثانياً، حدث ذلك كله متزامناً مع جملة من التحولات المعرفية العميقة التي شهدها الغرب على المستوى الفكري والعلمي والصناعي بنحو انعكس على طريقة العيش والسلوك الاجتماعي من خلال التنظير الفلسفي والوضعيّ والعلمي، فولدت مقولات لا دينية (ناسخة للمقولات الدينية السائدة) من قبيل المدنية والعلمانية والليبرالية والأهلية والوضعيّة والعدمية والتجريبية والإلحاد والتنوير والنهضة... فكان نتيجة ذلك الانتقال من الأيديولوجيات إلى المعرفيات، ومن العقائد إلى العقلانيات، ومن الوجود المطلق إلى وجود الإنسان.
ثالثاً، إلى ذلك، لا يخفى أنَّ مفاد الدين قابل للتحول والتأقلم في ظل عدم قبوله الزوال والاندثار، وأنَّ النص الديني يحتمل قابلية المراجعة والتجديد من خلال إعادة القراءة والفهم في ضوء تجدد مناهج التفكير والفَهم واللغة والتأويل، الأمر الذي أفضى إلى ولادة ما يُمكن أن يُسمَّى في الغرب باللاهوت الجديد (ولاحقاً علم الكلام الجديد عند المسلمين) بهدف جعل الدين أكثر قدرة على مواكبة التطورات التي أصابت العالم في مختلف المجالات، وأكثر فعالية في مجاراة التحولات التي طرأت على تفكير الناس وأذهانهم. هذه الولادة أرادت ردّم الهُوَّة الناشئة بين الدين والناس وأرادت أيضاً التعويض على الفعل التديني بعد الإخفاقات التي أُصيب بها (نتيجة المواقف السلبية التي اتخذها القائمون على الدين من العلم والمجتمع).
من هنا ثمة اتجاهات فلسفية - بدأت بالتبلور والصعود منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر - لم تكتفِ بنقد الدين وتقويضه، بل عملت على تنقية الفلسفة من العناصر التي هي مَحطُّ تماثل والتقاء مع الدين، فاشتغلت على إخراج الميتافيزيقا من الفلسفة وهدمها. وتعيد إنتاجها على أساس تقاطع الفلسفة والعلم بديلاً من التقاطع الفلسفي الديني. فبرزت المادية الجدلية، والوجودية ببعض فروعها والفلسفة التحليلية والتجريبية العلمية والوضعية المنطقية، والوضعية المحدثة، حيث خلصت هذه المدارس جميعها إلى القول بضرورة إعادة بناء الفلسفة على معطيات العلم والتجربة بعيداً من المثاليَّاتِ الميتافيزيقية المُسانخة للموضوعات الدينية، وصولاً إلى القول إنَّ سائر القضايا الميتافيزيقية والقضايا الدينية «لا معنى لها»، أي لا وجودَ لها، وتالياً هي خارج معياريَّات التصنيف على أساس الصدق والكذب، والصحة والبطلان، والخير والشر، بما يكشف النقاب عن أنَّ النزعة المضادة للدين لم تتعامل معه كوجود حقيقي قائم بذاته وتنتج عنه تجارب سيئة ومحبطة، بل تعاملت معه بوصفه انعكاساً حقيقياً وفعلياً لوجود وهمي وباطل.
الغرب أسقط أحكاماً مبرمة على الدين
يقول فياض إن الخلل الأساسي الذي وقع فيه المنظرون الغربيون على صعيد التفلسف في الدين، هو وضعهم الأديان في إطار نمطي واحد، وعدم أخذهم بالاعتبار مختصات كل دين عن غيره، فجرى الخلط بين الإسلام والمسيحيّة، وإسقاط أحكام موحدة عليهما، في حين أن المسيحية بما هي منظومة قيم، قد خرجت على التعاليم المؤسسة عندما تدخلت بشؤون السلطة والدولة، بينما الإسلام، بحسب ما يُقدِّم نفسه، دين ودولة، وينطوي على مجموعة تعاليم تتكفل بتنظيم السلطة، إضافةً إلى كونه منظومة قيم وتشريعات تعبدية، فلم تشهد العلاقة بين الدين والفلسفة في السياق التاريخي عند المسلمين ما شهدته العلاقة بين الدين والفلسفة في السياق نفسه لدى المسيحيين. فنجد أنَّ موقفَ الفلاسفة المسلمين من الدين تاريخياً لم يكن على غرار السلبية التي اتخذها الفلاسفة الغربيون من المسيحيّة. ففي أحسن الأحوال الخلاف في هذا كان يتمحور حول صراع الفلاسفة المسلمين مع السلطات التي حكمت باسم الدين وليس مع الدين نفسه، أو الفلاسفة المسلمين أنفسهم حول العلاقة بين الفلسفة والدين، وحول ما إذا كان من حق الفلسفة أنْ تُؤدّي دوراً معرفيّاً ماورائياً خارج إطار الوحي إلى جانبِ الوَحْي نفسه وبالعكس.
ولكن قلما نجد في مسار التاريخ الفلسفي الإسلامي فيلسوفاً اتخذ موقفاً حاداً من الدين على أساس رفض الدين برّمته أو الدعوة إلى إقصائه، كما هو الحال بین الفلاسفة في الغرب.
إشكالية مسألة وجود الله
يحدد فياض كيفية تعامل العقل الفلسفي الغربي مع مسألة وجود الله، (إنَّما يندرج في إطار المعرفة البَعْديّة لا المعرفة القبلية)، ما يعني أن وجود الله مسألة نظرية إشكالية لا مسألة بديهيّة. كما يرى أنه ليس المهم التثبت من وجود الله، بل التحقق من وجوده، أي دوره والجدوى من الاعتقاد به يبقى الأهم في هذا المجال ما قام به قبل هؤلاء إيمانوئيل كانط، من خلال إخراجه الدين من دائرة العقل النظري، وإلحاقه بالعقل الأخلاقي، حيث يمكن الاعتقاد، بخلاف ما يظن كثيرون، أنَّ كانط لم يضع الدين في تضاد مع العقل، فهو اعترف بدور الدين ولكنه وضع للعقل حدوداً بإزائه، فأحاله (أي الدين) إلى عالم خارج عقلاني من خلال العقل ذاته، وهذا بحد ذاته يندرج في إطار معقولية الدين. فالمحدودية التي قال بها كانط تتعلق بالعقل أكثر من كونها متعلقة بالعوالم الدينية.
وما تقدّم يضعنا أمام سؤالين: علاقة الله بالإنسان؟ وعلاقة الله بالعالم؟ بالنسبة إلى السؤال الأول، فإنَّ علاقة الله بالإنسان، بحسب ما يرى المؤلف، تتجلّى في ثلاثة أبعاد:
الأول هو البعد الديني، وهو عبارة عن علاقة الله بالبشر من خلال الوحي ورسالات الأنبياء، حيث ينطوي هذا البعد على التعاليم الإلهيّة التي تتأتى على نحو تشريعي لا تكويني، بمعنى أن مراد الباري في هذا السياق يندرج في إطار وحياني يعبّر عن مشيئته تعالى لا عن إرادته.
الثاني هو البعد التكويني، وهو عبارة عن علاقة الله بالبشر من خلال العالم والتكوين بمعنى حصول الحضور الإلهي للإنسان من طريق الكون الذي خلقه تعالى بالفعل. وإذا كان البعد الأول كامناً في كتاب الله المسطور، فإنَّ البعد الثاني متجلٍ في الكون الذي بمنزلة كتاب الله المنثور، حيث يتأتى مراد الباري تعالى في هذا السياق على نحو تكويني لا تشريعي. فالدين بما هو تشريعي ينطوي على آيات وحيانية تربط الإنسان بربّه من خلال الخلق والإبداع الإلهي.
أما البعد الثالث فهو البعد الوجداني المتمثل بعلاقة الله بالبشر من خلال النفس الإنسانية ونفخة الروح الإلهية التي وهبها للإنسان وخلقه منها، وإلّا ما معنى ﴿نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾، وكيف نفهم ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾، وما هي الفطرة ﴿الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾؟
ما تقدّم يضعنا أمام مفاد أنّ الله يُعرف من دون تعريف، فهو غني عن التعريف، بل يتعذر تعريفه لأنه مطلق الوجود ووجود محض. فلا حد له ولا رسم كي يُصار من خلالهما إلى تعريفه. كذلك لا ماهية له تحدّه، فهو لا جنس له ولا فصل. إنَّه علة العلل، ولا يعتريه نقص أو جهة إمكانيّة، بل هو واجب الوجود بالذات، ووجوب وجوده من كل الجهات. غير أن انتفاء الماهية عنه إنّما بالمعنى الأعم الذي يقال في جواب «ما هو»؛ أما بالمعنى الأخص فهو تعالى ذو ماهية وماهيته إنّيته، وهي عين وجوده وليست زائدةً عليه.
يفسّر المؤلف: لو أنّ الله ليس موجوداً لما استطعنا افتراض وجوده أو تصوّر ثبوته؛ لأنّ الله تعالى، بحسب مفهوم الألوهية، هو الموجود الوحيد الذي لو كان ممتنع الوجود لما استطعنا أن نفترض موجوديته؛ لكونه عندئذ وتبعاً للفرض عدماً مطلقاً وغير محدود، بنحو يستحيل معه أن يناله الذهن لا بالحمل الأولي ولا بالحمل الشائع. فمجرد وجود مفهوم واجب الوجود بالذات في الذهن لهو دليل على تحققه في الخارج.
وبالعموم، يكفي أن تعجز الفلسفة عن إثبات عدم وجود الله حتى يثبت وجوده، لأنّ عدم وجوده هو الادعاء الذي يحتاج إلى دليل، فيما وجوده ثابت وحقيقة، فلو لم يكن الله موجوداً لاستطاع العقل إثبات ذلك، وبما أنّ العقل لم يستطع إثبات عدمه فهو موجود. فالأصل في مسألة الألوهية أنَّ الله ثابت بالفطرة والبداهة والعقل والوجدان، وأن وجوده غني عن الإثبات، فيما الاستدلال عليه تعالى إنَّما هو من قبيل تأكيد المؤكد وتحصيل المحصل.
مقاربة مسألة الالحاد والنظرة الى التدين
ولمّا كان التأسيس للإلحاد هامشياً على المستوى النظري والاعتقادي والمعرفي، فإنّ دراسات علم النفس الحديث بدأت تعزو الإلحاد إلى أسباب نفسية، حتى باتت مقولة سيكولوجيا الإلحاد متداولة على نحو متلازم مع بعض حالات الاعتلال النفسي. وأثبتت هذه الدراسات أنّ معظم الملحدين واجهوا مشاكل نفسية واجتماعية في المراحل المبكرة من حياتهم من قبيل فقدان الأم أو قسوة الأب، أو التعرّض لمعاناة شديدة ومآسٍ كبرى في الحياة، الأمر الذي يخلق بداية اضطراب في العلاقة مع الله، مروراً بالإعراض عنه وصولاً إلى نكران وجوده. هذا فضلاً عن أسباب أخرى ناجمة من التبليغ الديني المسيء إلى الدين، وعن مفهوم علاقة الله بالبشر والتديّنات المشوّهة التي تدفع إلى النفور من الدين ونبذ الألوهية، إلى جانب عدم قدرة بعضهم على تفسير وجود الشرور والظلم في العالم في ظل وجود الإله. فلو كان موجوداً بحسب فهمهم المحدود لما كان سمح بحصولها.
تنطوي العلاقة ما بين الدين والتديّن على أكثر المباحث إشكالية في الربط عموماً بين ما هو نظري وما هو تطبيقي؛ إذ لا يقتصر الأمر على توقف فهم كل منهما على الآخر، بل يتعدى ذلك إلى واحديّة الدين في ظل تعدّد الصّلات التديّنيّة المنتسبة إليه في إطار من التطابق والتقارب والتباين والتقابل، والتعارض التنافر، وصولاً إلى التناقض والتضاد.
وإذا كان الحديث عن موضعة التديّن في عالم متحول، هي في خضم البحث الفلسفي أمراً ممكناً تأسيساً وابتداءً، فإن الفلسفة - بوصفها علماً كليّاً أو ضرباً من ضروب الفهم - ضرورية لإخراج الفعل التديّني من تحيّزاته الجزئية - المطلوبة في كل حال.
وبما أن الدين يقوم في علاقته الإرشادية بالتديّن على منظومة تعاليم مستمدة من الوحي، وهي ثلاثية: العقائد والأحكام والقيم. ويقوم التدين أيضاً في علاقته الالتزامية بالدين على ثلاثية: الفهم والتصديق والعمل. المحاكاة بين الثلاثيّتين من اللوازم الكفيلة بتحقق التدين وتطبيق الدين بأبعاده وغاياته المتعدّدة، طبقاً لهويّته الواسطية، شريطة أن يكون التحقق العملي هو الإطار الجامع لهذه المحاكاة بشتى مجالاتها وأبعادها. فلا شيء من شؤون الدين النظرية ليس على صلة بالعمل، ولا عمل تدينيّاً لا يكون مستمداً من شأن من شؤون الدين النظرية. فالدين، في جوهره، تقوم علاقته بالتديّن على تعاليم تتوالد على شكل أوامر. أمّا التدين من جهة علاقته بالدين فاستجابة من لدن المكلف بإزاء هذه التعاليم المتعالية. في هذه العلاقة، ثمة تعقيدات وموانع تحول دون قدرة المكلّف على محاكاة النّصّ المقدّس محاكاة مباشرة؛ إذ يجب عليه البحث والتفكر لتحصيل المعتقدات.
التديّن هو دلالة ووظيفة، فبينما يتكفّل التديّن الفقهي بإظهار الدلالة، فإنّه لا يكفي وحده في أداء الوظيفة. فالتديّن لا يكتمل في مقام الفعل فضلاً عن الإيمان، إلا باشتماله على معياريَّة الحق والباطل في إطار العقيدة ومعيارية القبح والحسن في إطار الأخلاق، إلى جانب معياريّة الحلال والحرام في إطار الفقه، لينتج من هذه المعياريات الثلاث، الإطار الأشمل للإيمان، حيث تتولّد معياريّة الصح والخطأ وأداء التكليف في الدنيا، وصولاً إلى الفوز والخسران في الآخرة. وهذا كلّه من دون إغفال الأبعاد الغائية التي تعني عدم الاكتفاء بتحصيل الإيمان والالتزام بالتعاليم، بل أيضاً يجب إدراك ما يترتب على ذلك وربطه بأهداف محدّدة دنيوياً وأخروياً.
كتاب "فلسفة التدين- الطريق الى الله في عالم متحول"، يطرح من خلاله الدكتور حبيب فياض: رؤية علمية دينية حيث يوضح أن إشكالية العلاقة بين الدين والتديّن قائمة حصراً على كون الأول تعاليم نظرية والثاني ممارسة تطبيقية، بل ثمة ما هو أبعد يترتب على العلاقة ما بينهما من خلال تضايفهما. الدين نظري والتديّن عملي، لكن حاصل ما هو بينهما تجريبي يطال الذات المتدينة والممارسة الناتجة منها. التضايف بين الأمرين يستولد أمراً ثالثاً يتخطى حالة الجمع إلى التفاعل المنتج لما هو أعمّ.