فلسطين في قلبه.. وديع ضاهر "شيخ الفنانين" السوريين
جامعاً بين الدين والفن، استطاع السوري وديع ضاهر أن يحصد لقب "شيخ الفنانين" في اللاذقية. واليوم، في جعبته أكثر من 70 عملاً مسرحياً.
بيده الأولى رفع مشعل الدين مستلهماً طريق المعرفة وزرع المحبة، وبيده الأخرى حمل لواء الفن ليُعبّر عن ذاته ويتمكّن من تنمية قدراته لإيصال أفكاره بالطريقة الصحيحة، لذلك جاء لقبه بـــ "شيخ الفنانين".
وديع ضاهر، من أبناء الجيل الأول في المسرح السوري، وأحد المؤسّسين للحركة المسرحية في مدينة اللاذقية؛ الرسّام صاحب الريشة التي لا تنضب، ورجل الدين الذي عرف كيف يوظّف أفكاره لبناء قامة اجتماعية وثقافية ودينية مؤثّرة بكل من عرفها وتعامل معها.
ولد وديع ضاهر في مدينة اللاذقية على الساحل السوري عام 1949 لعائلة متوسطة الحال؛ بدأ حياته الفنية في عمر مبكر من بوابة الرسم، حيث رسم خلال المرحلة الابتدائية لوحة جسّدت شخصية "الشهيد جول جمال"، لتحظى اللوحة بإعجاب الكادر التدريسي الذي أرسلها إلى مجلة "المصوّر" المصرية وتمّ عرضها على صفحات المجلة.
تلك اللوحة كانت الشرارة الأولى لولادة نجم فني، امتلكَ القدرة والخامة والأدوات التي مكّنته من الوصول إلى قيادة الحركة المسرحية في اللاذقية، ومن ثمّ معاصرتها على مدى 5 عقود كانت حافلة بالإبداع والتميّز والنجاح، وغنية بالأعمال الاجتماعية والسياسية التي تهم الناس وتلامس أوجاعهم وأفكارهم.
منزل الذكريات
في منزله الكائن بحي"المشروع السابع" بمدينة اللاذقية، فتح وديع ضاهر لــ "الميادين الثقافية" دفتر ذكرياته القديمة، وقلّب صفحاته الحافلة بالإنجازات. تأخذه نظرة الغبطة تارةً، والحسرة طوراً، لكنه لا يملّ من سرد التفاصيل، وذكر كل اسم كان له الفضل في ما وصل إليه؛ منذ دراسته الابتدائية حتى انتشار الحركة المسرحية على نطاق واسع في اللاذقية.
يسرد ضاهر كيف كان عنصراً فعّالاً في الأنشطة الفنية المدرسية، وكيف نقل شغفه من الرسم إلى التمثيل، حيث حظي بعدد من الأدوار في المسرح الطلابي، قبل أن يحوّل إبداعه بعد الدراسة إلى الحياة العملية، من خلال المشاركة مع بعض الأصدقاء في تأسيس الحركة المسرحية في اللاذقية خلال ستينيات القرن الماضي.
يؤكد ضاهر أن المسرح في تلك الفترة لم يكن احترافياً من حيث الأدوات والإمكانات، بل كان عبارة عن جهود ذاتية لمجموعة من الأصدقاء الذين يعشقون هذا الفن، وأرادوا أن يطلقوا الحركة المسرحية في مدينتهم.
في تلك الفترة عمل ضاهر مع زملائه على ترجمة بعض القصص العالمية من مسرح موليير، ثم انتقل إلى الأدب العربي مع روايات نجيب محفوظ وغيره، مع مراعاة القضايا الاجتماعية والقومية في الأعمال المقدّمة، حيث كانت مسرحياتهم قائمة على الالتزام والجدّية.
لم يكن العمل المسرحي في نظر ضاهر عبثياً أو لغاية ترفيهية فقط، بل عملَ "شيخ الفنانين" على جعل أعماله قريبة من القضايا الاجتماعية والسياسية التي تهم الجمهور العربي بشكل عام والسوري بشكلٍ خاص.
ويقول ضاهر: "كنّا نقوم كل سنة بعملين أو 3 أعمال تتناول قضايا هامة تجذب الناس، كالقضية الفلسطينية والوحدة العربية، في سبيل ترسيخ الأفكار الوطنية والقومية لدى الجمهور، وغالباً ما كان أثر العمل حاضراً عند الناس من خلال الثناء على الأفكار التي نطرحها".
القضية الفلسطينية في قلب "شيخ الفنانين"
لم يمنع العمل المسرحي وديع ضاهر من ممارسة حياته الدينية الخاصّة، لكنه كان يبعدها دائماً عن حياته العامّة، وفي الوقت نفسه يؤكّد أنه استنبط كثيراً من أفكار لوحاته الفنية التي واظب على رسمها من "الكتاب المقدّس"، كما أنه استفاد من أفكاره الدينية في الفن، من خلال زرع بذور المحبة بينه وبين أصدقائه من جهة، وبين الفنانين من جهة ثانية.
أما لقبه "شيخ الفنانين" فيقول ضاهر إن من أطلقه عليه هو الفنان إلياس الحاج، لأنه يدل على الاحترام والمحبة: "حاولت الاستفادة من هذه المحبة ومن هذا اللقب في العلاقات مع زملائي الفنانين، في سبيل نشر المودة بينهم أكثر، وجعل العلاقة معهم قائمة على الاحترام والمحبة المتبادلة".
بعض أهالي حي "المشروع السابع" الذي يقطنه ضاهر تحدّثوا عن صفاته الاجتماعية الصادقة، وروحه المرحة، ورغبته الدائمة بزرع بذور المحبة، وقربه الدائم من الناس، وسعيه المتواصل لمساعدة الأقرباء والغرباء على حدٍ سواء، لذلك كان موضع احترام الجميع، ومصدر فخرٍ لهم على الإنجازات التي حقّقها في مسيرة حياته الطويلة.
من ممثل هاوٍ إلى محترف
عام 1972 كانت الجائزة الأولى التي يحصل عليها ضاهر وهي جائزة "أفضل ممثل هاوٍ"، خلال "مهرجان مسرح الهواة" في دمشق، وكانت الجائزة حينها 1000 ليرة سورية؛ بعدها اضطر ضاهر إلى الابتعاد عن المسرح لمدة 20 عاماً بسبب خطأ إضاءة أدى لإصابة في عينيه أثناء أحد العروض المسرحية.
خلال تلك الفترة لم يترك ضاهر الفن نهائياً، إذ استمر في الرسم داخل منزله، وأقام بعض المعارض الصغيرة، إضافة إلى ذلك خصص "شيخ الفنانين" جزءاً كبيراً من وقته للجانب الديني، الذي كان يشغل مساحة واسعة من وقته يومياً بعيداً عن الإعلام.
إلى جانب العمل المسرحي لم ينقطع ضاهر عن موهبته الأساسية في الرسم، كما ابتكر "الرسم بالحرق الملوّن على الخشب"، ويقول ضاهر إن: "هذا الفن نادر، إذ من الممكن أن يكون الحرق على الخشب شائعاً في العالم، ولكن الحرق الملوّن هو عمل فريد ونادر حيث أتقنته بشكلٍ شخصي، ولدي اليوم 140 لوحة رسم بكلّ القياسات".
في بداية الألفية الجديدة كانت الانطلاقة الجديدة لوديع ضاهر مع المسرح القومي في اللاذقية، حيث عمل مع أصدقائه على ترسيخ دعائم وأساسات المسرح الحرّ القريب من الواقع والمبني على أدوات فنية وفكرية ولوجستية متطورة، أكثر من تلك التي كانت مستخدمة عند بداية تأسيس المسرح في فترة الستينيات من القرن الماضي.
اليوم، يملك وديع ضاهر في جعبته أكثر من 70 عملاً مسرحياً، إضافة إلى 60 مشاركة تلفزيونية بين أدوارٍ أساسية وثانوية، تعامل خلالها مع كبار المخرجين السوريين مثل نجدة أنزور، وحاتم علي، وعصام موسى، وغازي إبراهيم، وغيرهم.
يغلق ضاهر كتاب ذكرياته بحسرة، لكنه يأمل أن تضاف إلى الكتاب صفحات جديدة من الأعمال الفنية، سواء في المسرح أو الرسم، ولا يريد أن تسرق الوحدة أفكاره، بل يسعى لتكون أيامه مليئة بالفن والإبداع ومحبة الناس.