غياب الفنان "أسعد": انتكاسة للفن المسرحيّ اللبناني
رحل عبد الله حمصي المعروف بــ"أسعد" كجزء من الخسارات اللبنانية المتفاقمة.. فمن يوقف هذه الهزائم؟
ودّع لبنان أحد أبرز وجوهه الكوميديين، عبد الله حمصي الذي عرف بـــ "أسعد"، أحد أركان فرقة "أبو سليم الطبل" الكوميدية التي أدّت دوراً بارزاً في تركيز الفن والفكاهة الشعبية، ووثّقت بتهكّم الكثير من شخصيات العصر، وشارك أسعد في أفلام لبنانية مع الرحابنة، وفي مسلسلات تلفزيونية مشتركة مع فرقة أبو سليم، أو لوحده.
برز "أسعد" إلى جانب العديد من الوجوه التمثيلية الفنية -مسرحاً وسينما (وتلفزيون لاحقاً)- في خمسينيات القرن الماضي في طرابلس عندما بلغ ازدهار الفنون الاستعراضية فيها مرحلة عالية من التقدّم والتنوّع، وليس من الغريب إدراك أن المسرح سبق السينما في المدينة لعقود من الزمن، ويعود ذلك إلى مرحلة "خيال الظلّ" الوافد من تركيا، وكانت عروضه تؤدّى في المقاهي الشعبية، واشتهر منها "مقهى الرمانة" في الأسواق الداخلية للمدينة، وعُرِضت فنونه على يد فنانين طرابلسيين قبل القرن العشرين، وفي عقوده الأولى.
يمكن ترصّد تطوّر المسرح مع أول مسرحية وضعت في طرابلس على يد ميخائيل ديبو (1842-1924) بعنوان "الشيخ الجاهل" عام 1872، وعُرِضت على خشبة المدرسة الأرثوذكسية في الميناء بطرابلس. لكن الشيخ إبراهيم الأحدب، الأديب والشاعر الطرابلسي المعروف (1826- 1891) سبق أن وضع العديد من الروايات المسرحية التي انتشرت في العالم العربي، لكن ليس ما يشير إلى عرض أي منها في المدينة.
لكنّ القفزة النوعيّة الكبيرة لتحفيز الفنون كانت نحو سنة 1896 بتأسيس والي طرابلس حسن الانجا آنذاك صالة مسرحية مصغّرة عن أوبرا القاهرة، حملت اسمه وعُرِفت بداية بمسرح "الانجا"، وقام بهندستها مهندس إيطالي، وكانت من أولى الأبنية الحديثة التي نشأت خارج نطاق المدينة القديمة، تأسيساً لانطلاق طرابلس الحديثة، وما لبثت أن تحولت بعد سنوات إلى "زهرة الفيحاء".
اشتهر مسرح الانجا باستضافة كبار فناني العرب، وثمة من يتحدث عن زيارة سيّد درويش للمسرح، لكن المؤكّد حضور كبار الفنانين الذين ظهروا في مصر في ذلك العصر إلى المسرح وأدوا فيه عروضهم الراقصة، أو المسرحية، أو الغنائية، ومن الفرق فرقتا التمثيل المسرحي بقيادة الشيخ سلامة حجازي، وزكي عكاشة وإخوانه. كما زار المسرح كبار الفنانين مثل الفنانة المصرية بديعة مصابني ذات الأصل الطرابلسي، وفتحيّة أحمد، ويوسف وهبة، وأم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، وأسمهان، وفريد الأطرش، وسواهم الكثير، إلى أن تحوّل المسرح إلى سينما أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، وأطلق عليه مستثمروه من آل الحكيم الجدد اسم "البيروكيه"، وبقي المسرح صالة سينمائية ومسرحية، وأدى فيه مسرحيون طرابلسيون ظهروا في ثلاثينيات القرن الماضي العديد من المسرحيات الشهيرة، وأبرزها مسرحية "الصديقان"، و"جان دارك" لبريخت، قدّمتها فرقة "نبتون" التي أسّسها رفيق الرفاعي، ومعه ممثلون معروفون مثل عوني المصري وفؤاد الأدهمي وآخرون.
وعلى قاعدة هذا التطور الفني والثقافي في طرابلس، برزت فرقة أبو سليم الطبل، ومن أركانها عبد الله الحمصي المولود عام 1937، الذي ترعرع في أسرة تتألف من 10 أولاد. أنهى دراسته للمرحلة المتوسطة، والتحق بالعمل في مصنع والده لصناعة "القشدة" الكائن داخل أسواق طرابلس القديمة التي أحبها حتى العشق، إلا أن ذلك لم يحل دون متابعته لممارسة هواياته المتعددة، ومنها السباحة، ورياضة كمال الأجسام. تزوج من هدى تيزاني شقيقة الفنان صلاح تيزاني (أبو سليم).
ولأن هواية التمثيل كانت تدغدغ أحلامه، هو الذي شارك منذ السادسة من عمره بكل الأعمال التمثيلية المدرسية، إلى جانب تقليده لأصوات الباعة المتجولين، وحركاتهم، وتقديمه لمسرحيات على أسطح البيوت، وجد فيه شقيقه الأكبر مشروع ممثل، فرافقه إلى فرقة "النفير" التابعة لكشافة الجراح التي كان يقودها الفنان صلاح تيزاني الشهير بـ "أبو سليم"، الذي تشارك وإياه في إنشاء فرقة "كوميديا لبنان" عام 1957، وقد تعاون الاثنان في تأليف الأعمال المسرحية وعرضها على أحد مسارح طرابلس.
في العام 1958 قدّما مسرحية "المسافر" بحضور الفنانين عوني المصري وعبد الكريم عمر وهما من الرعيل الأول الذي ساهم في نشر الفن اللبناني في الوطن العربي. وقد نصح المصري وعمر كلاً من "أبو سليم" و"أسعد" الذهاب إلى "تلفزيون لبنان" حديث العهد، ومعه كانت الانطلاقة في العام 1960، حيث أُطلق على فرقتهما فرقة "أبو سليم الطبل" وكانت تقدّم أعمالها الفنيّة على الهواء مباشرة.
في العام 1967 كانت المشاركة الأولى لأسعد في عالم السينما، حيث شارك في فيلم "سفر برلك" للأخوين رحباني، ثم في فيلم "بنت الحارس" (عام 1971) حيث أدى دور الحارس للفنانة فيروز.
وفي العام 1973 أدّى أسعد دور البطولة في مسلسل "دويك يا دويك" الذي أخرجه باسم نصر، وكتبه أنطوان غندور لتلفزيون لبنان.
وهكذا ترسّخ حضور عبد الله حمصي في المسرح والسينما والمسلسلات ولم يغب نجمه عن معظم الأعمال الفنية اللبنانية، حيث قدّم أكثر من 1700 حلقة تلفزيونية، وأكثر من 60 عرضاً مسرحياً، وما يقارب من 500 عمل إذاعي، الى جانب عدد كبير من الأفلام. وفي الوقت عينه، بقي "أسعد" مع "أبو سليم"، وفنانين آخرين مثل: فهمان، شكري شكر الله، أمين، وغيرهم.
ونجح أسعد في تأدية الأدوار الكوميدية، والتراجيدية، والناقدة، حيث كان ملتزماً التعبير عن معاناة عامة الشعب إلى جانب شخصيته الهادئة والمرحة.
وعلى الرغم مما قدّمه من أعمال فنية خلال العقود الماضية، فإنه بقي الفنان البسيط والفقير في آن، وهو اعتبر في أحاديثه العامة والخاصة أن أقسى ظلم عاناه في حياته هو ظلم الدولة التي لم تنصف الرعيل الأول من الفنانين حتى إنها "استكثرت عليهم بطاقة ضمان صحي تحميهم من العوز أو الموت على الطرقات وعند أبواب المستشفيات".
وبالرغم من ذلك، وجد "أسعد" عزاءً لنفسه بشهادة الجمهور، وكبار الفنانين، ومحبتهم لهذه النخبة من الفنانين الملتزمين الذين أفنوا زهرة شبابهم في تقديم الفن الراقي.
"أسعد" الذي بقي وفياً لفنّه، أسس "فرقة الفنون الشعبية" التي ظلّت تقوم بالأعمال المسرحية حتى طغى الوضع الأمني السيّئ على أجواء المدينة، فتراجعت أعمالها. رحل "أسعد" وفي قلبه غصّة إقامة مسرح يومي في طرابلس، التي كانت انطلاقته الأولى منها.
أهمل مسرح "الانجا"، أو "زهرة الفيحاء"، أو "البيروكيه" خلال الأحداث، وانهار من دون أن يبقى له أثر في ظلّ إهمال كبير، ورحل "أسعد" كجزء من الخسارات اللبنانية المتفاقمة. فمن يوقف هذه الهزائم؟