غزة وسط الجحيم في رواية "ملابس تنجو بأعجوبة"
في نوع من السيرة الذاتية يروي الغول حقيقة مر بها وأحداث عاصرها وشخصيات التقاها، في كل ذلك الجنون وذاك الرعب اللذين يتعرضون لهما: "كانوا أطفالاً يا الله، أطفالاً يحبون الحياة، ولا يعرفون معنى الموت".
كأن غزة منذوره للشهادة والموت، وكأن التهجير والتشرد قدر أبنائها الطيبين، الذين يُقتلعون، في كل يوم، من بيوتهم وأراضيهم،وتمارَس ضدهم كل أنواع التنكيل والإجرام. في روايته "ملابس تنجو بأعجوبة" يلتقط ابنها؛ ابن غزة "يسري الغول"، صورة عذاباتها وأوجاعها، وهي من إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر لعام 2024 وهي الثالثة بعد "غزّة 87" الصادرة عام 2017، و"مشانق العتمة" الصادرة عام 2021، كما يذكر أن لديه ست مجموعات قصصية.
تأتي العتبات النصية بداية في مفارقة للمعنى الظاهر، كأن للملابس أهمية بعد موت أصحابها لتنجو من حرائق الموت، لنلمس عمق المرارة والسخرية السوداء في هذا العنوان، الذي يعقبه استهلال بقول للكاتب سعيد كحلوت: "جميع أرجاء المدينة باتت تدرك أن كل الطرق تؤدي إلى الحرب، وأنا وحدي ما زلت أبحث عن طريق يوصلني إلى حبيبتي، لعلني أعطل العدم" في اختزال لواقع جحيمي يبقى فيه الحب بوصلة الخروج من نفق الموت والحرب والدمار.
يبدأ صاحب "مشانق العتمة" نصه من بؤرة التوتر في الحدث المتفجر بهاتف يأتي لسعيد رافع من العدو الصهيوني لإخلاء المكان قبل تدميره خلال عشر دقائق. وما إن يصبح في الشارع مع زوجته وابنته المولودة حديثاً حتى ينهار البناء بمن فيه من السكان الذين لم يوفقوا في المغادرة، وسط الهلع والرعب لتبدأ سلسلة النزوح من المكان إلى المكان، إذ يتجمع الناجون في مدرسة كمرحلة موقتة تجهز على عجل كي يجتمع بها من حالفه الحظ ونجا من المقتلة.
في هذا التجمع تتفاعل شخصيات الرواية لعرض شرائح المجتمع، فيظهر الكاتب سعيد رافع، الذي يحاول إتمام رواية مكلف كتابتها، وحارس العمارة الثرثار هادي المفعوص المشكوك في أمره،والضابط كاف، والشاب المتمرد مازنجر رامي، الذي يظهر أنه يتوق إلى التخلص من عمه الذي سرق إرثه، وذلك غاية طموحه، وهو العاشق للحياة الشغوف بمتعها ومجونها، وفي ذلك الجو المتخم بالعويل والفجيعة يضبط بموقف غرامي مع سيدة تكبره سناً، الأمر الذي يؤلّب المجموع ضده ويتعرض لإطلاق النار على رجله من الضابط كاف، لكن الضابط ذاته يتعاطف معه بعد أن شهد بلاءه وتضحيته في إنقاذ الأطفال والنساء والشيوخ عند الغارات المتتالية التي تعرضت لها المدرسة، وهي الملجأ الموقت لهم،والتي قضى فيها عدد كبير من الأبرياء.
ينقب سعيد الكاتب في أنقاض المبنى في إثر التدمير الذي حصل عن مخطوطات كتبها الوزير "علام البكير" الذي لقي مصرعه مع زوجته في تفجير البناية، ومن مذكراته يلقي الكاتب الضوء على شخصية في غاية الأهمية، "البكير" الذي تربى في بيئة... متشددة تحكمها سلطة من نوعها، ولكنها في الوقت ذاته قامعة لحسه الفني، وهو الفنان الرسام الشفاف العميق الإحساس. هذا التناقض الذي يعيش به في ذاته جعله يبتعد بالتدريج عن الجماعة المتشددة وينصرف إلى فنه الذي تقابل مع عشق جديد لصبية تتوافق مع ميوله وهواياته وأنجب منها بنتاً سمّاها "ميس"، أهدى إليها مذكراته ليشرح لها تاريخ تقلباته الفكرية وقناعته لبعض الحروب بأنها حروب بالإنابة، ولتكون نوعاً من المحاكمة لتجربته ورفاقه إذ يقول: "ماذا فعلنا؟ وكيف حدث هذا كله؟ من المسؤول عن الهزيمة التي تعرضت لها القضية من المسؤول عن سقوطنا جميعاً في القاع".
لا يغيب عن باله تشريح الواقع السياسي والاقتصادي، وخصوصاً لجهة الصدام المستمر بين حماس ورام الله، وتأثيره السلبي في القضية. ويوضح ما يقدمه ذلك من خدمة مجانية إلى عدو غاشم لا يرحم، كما يتطرق إلى الواقع الاقتصادي.
تنتفض شخصية الكاتب سعيد رافع على الراوي العليم الذي يحكي عنه ويقرر التحدث بنفسه بشكل مباشر، منتقداً بعض شخصيات، مثل الضابط كاف أسوة بالشخصيات التي تتحدث في النص مباشرة.
يحلل الغول، على لسان أبطاله، ويبين حقيقة المواطن البسيط،وهو المحاصَر براتبه وقوت عياله.
يتبع الكاتب أسلوب تعدد الأصوات السردية، الأمر الذي يوضح تباين العقليات والتناقضات التي تعصف بكل منها، فتبدو شخصية المرأة متباينة، إذ يطرح نموذج خديجة، زوجة الوزير البكير المتدينة العاقر، تقابلها عشيقته السافرة الفنانة، والتي لا يؤثر فشل العلاقة العاطفية في تأكيد وجودها واستمرار مشروعها الشخصي.
كما نلاحظ صوت الزوجة روان المتعلمة، لكنها تبحث عن وسيلة للهرب من هذا الجحيم. ومن مشهد العاشقين في حمى الحرب والفضيحة، ينفذ إلى أعماق مشاكل المرأة المطلقة بين زوج وإخوة يسرقون ميراثها ولا يعيشون وحدتها، ولا يأبهون بما تحتاج إليه. ودائماً المرأة هي الحلقة الأضعف، وكل من لا يستطيع مواجهة خصمة يعود ليصب غله على المرأة، أماً كانت، أو أختاً، أو زوجة.
في نوع من السيرة الذاتية يروي الغول حقيقة مر بها وأحداث عاصرها وشخصيات التقاها، في كل ذلك الجنون وذاك الرعب اللذين يتعرضون لهما: "كانوا أطفالاً يا الله،أطفالاً يحبون الحياة، ولا يعرفون معنى الموت". حياة مرعبة وقاسية عاشوا ويعيشون فيها لإجبارهم على ترك أرضهم تحت قصف الطائرات الصهيونية، وكلهم سواسية أمام الموت الذي لا يوفر أحداً. ومع ذلك، فإن الفلسطيني لا يموت، وسيظل يعيش ويكتب ويرسم توقاً إلى حريته المنشودة.