عن عودة روسيا إلى الشرق الكبير

 يؤكد سيرغي لوزيانين في كتابه أن مشروع بوتين عودة روسيا إلى الشرق قد دخل مرحلة التنفيذ.

  • كتاب عودة روسيا إلى الشرق الكبير
    كتاب عودة روسيا إلى الشرق الكبير

لا بد للباحث السياسي في العلاقات الدولية أن يعود إلى كتاب "عودة روسيا إلى الشرق الكبير" للقائم بأعمال مدير معهد الشرق الأقصى التابع لأكاديمية العلوم الروسية سيرغي لوزيانين، إذا أراد أن يفهم الأهداف الروسية في العالم.

وكما قال أحدهم إن "قراءة كتاب عن موضوع ما، خير من أن تقرأ عنه ألف مقال"، فإن هذا الكتاب يشكل مرجعية أساسية لفهم أبعاد المشروع الأوراسي الذي يحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تأسيسه من جديد.

يبدأ لوزيانين بتوضيح أن "الشرق الكبير" بالنسبة لروسيا هو 51 دولة شريكة في منطقة المحيط الهادئ والشرقين الأدنى والأوسط واَسيا الوسطى والجنوبية.

ومع ذلك يؤكد أن هناك تبايناً في الدور الخاص لكل من هذه الدول في سياسة روسيا الخارجية. فهناك دول يزورها الكثير من الأثرياء الروس للإستجمام، وهناك شركاء استراتجيون، تتميز العلاقات معها بعمق خاص.

وبحسب لوزيانين، فإن "الشرق الكبير" يضم مجازياً المناطق التالية: منطقة شرق أفريقيا، منطقة الشرق الأدنى (إلى روسيا)، بلدان الخليج، منطقة الشرق الأوسط، منطقة بلدان جنوب اَسيا، منطقة اَسيا الوسطى، منطقة جنوب القوقاز، منطقة شمال شرق اَسيا ومنطقة جنوب شرق اَسيا.  

يحاول الكتاب تسليط الضوء على أهم اتجاهات سياسة روسيا الخارجية وإنجازاتها في "الشرق الكبير" مستنداً على الوقائع والأحداث التي جرت في ولاية الرئيس بوتين الثانية (2004 – 2008). وقد وضع الكاتب نصب عينيه ثلاث مهام هي:

المهمة الأولى الكشف عن خصوصية سياسة بوتين. والمهمة الثانية تعريف القارئ ببعض قضايا سياسة روسيا الشرقية في بعض المناطق الأكثر تعقيداً، بما فيها بشكل خاص مسألة ما يعرف بـ"الترانزيت العربي" لروسيا، ومعضلة بوتين الإيرانية، والتحديات والإمكانيات التي تواجه روسيا في سياستها تجاه الصين.

أما المهمة الثالثة فهي محاولة استقراء السيناريوهات المحتملة لتطور السياسة الروسية في الشرق.

وقد لوحظ منذ عام 2004 أن الرئيس بوتين قد بدأ بتصحيح أولوياته في السياسية الخارجية. وكانت الأولوية للبلدان القريبة من روسيا جغرافياً والتي ترتبط معها بمصالح مشتركة مثل الصين وإيران والهند وكازاخستان وتركيا وأرمينيا وأوزبكستان وأذربيجان وقرقيزيا وطاجيكستان وفيتنام والجزائر وسوريا وكوريا الشمالية وأندونيسيا وماليزيا وباكستان ومنغوليا. ومن الطبيعي أن لكل من هذه الدول مكانها الخاص في السياسة الروسية.

وهناك قائمة أخرى تضم البلدان غير المهمة كثيراً بالنسبة لروسيا وهي: جورجيا والعراق وأفغانستان وليبيا والمغرب وتونس واليابان وسنغافورة وبورني وتايلاند وبورما. وفي حال تحسّن العلاقات السياسية لأي  بلد من هذه البلدان مع روسيا، فإنه يمكن أن تنتقل بسرعة إلى قائمة البلدان التي ترمز إلى الألولويات المفتاحية لروسيا. 

يقول لوزيانين: في مطلع القرن 21 بدأ الشطر الاَسيوي الشرقي من المجتمع العالمي يحاول تقوية دوره بشكل جذري في العلاقات الدولية الكونية، معتمداً بشكل أساسي  على "زعزعة" أسس "العالم أحادي القطب" الذي تكون في تسعينيات القرن العشرين، بيمنا يتطلع الشطر الغربي من المجتمع الدولي على الحفاظ على الهيمنة العالمية الأميركية.

ويؤكد لوزيانين "أن جزءاً كبيراً من العالم لا يريد أن يعيش وفق الإملاءات الأميركية وإنما يسعى للتطور وفق قوانينه وتشريعاته"، ولهذا يعتبر المؤلف أن "منظمة بريكس أو منظمة شنغهاي للتعاون ولدت كتجمعات دولية خارجة على الطاعة الأميركية. وهي مشاريع تحاول الدول المشاركة فيها أن تصيغ أنظمة تعاون متبادل في ما بينها ومع الدول الأخرى بما فيها الولايات المتحدة من دون أي رقابة وإملاءات قسرية من قبل واشنطن".

وينطلق لوزيانين في رؤيته من قناعة مفادها أنه "لا يمكن تطويع عالم اليوم لقاعدة واحدة وحشره في صف أميركي واحد ومهما كانت قوة الولايات المتحدة كبيرة، فإن العالم متنوع ومعقد ومختلف فلا يمكن حصره في إطار أميركي موحّد كما يتصور بعض الساسة في أميركا".

فالولايات المتحدة الأميركية ترى أن كل أيديولوجيا النزاعات تكمن في الصيغة البسيطة: صراع "الخير" أي الغرب ضد "الشر" الصادر على الأغلب من الشرق. واليوم يزداد قيام واشنطن بدور فوج الإطفاء العالمي الذي يحاول إخماد جذوة النزعات بالاعتماد على مزيج بالغ الخطورة من العمليات العسكرية من دون العودة إلى مجلس الأمن الدولي.

ويرى المؤلف أن أحد أسباب هذا السلوك يكمن في "عقدة المنتصر" التي اكتسبتها الولايات المتحدة في الحرب الباردة. وقد أشار وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف إلى ذلك بقوله"إن هذه العقدة ليست مجرد مشكلة نفسانية، فهي تتجلى بشكل متزايد في الجوانب العملية للسياسة العالمية حين تستند أساليب حل هذه المشاكل الدولية أو تلك، لا على التحليل الموضوعي للوضع، ولا على المبادئ العامة للقانون الدولي، بل على"الجدوى السياسية"، بالمفهوم الخاص لواشنطن".

ويعيد لوزيانين القول بأن المعايير المزدوجة في تصور الغرب للإرهاب كظاهرة عالمية أكده الإهتمام الكبير الذي أبداه الغرب أثناء الإعتداء الذي تعرضت له صحيفة "شارلي ايبدو" في باريس، وعدم رؤيته لما تقوم به التنظيمات الإرهابية من قتل واغتصاب ودمار في سوريا. فيتحدثون عنهم وكأنهم ثوار وهذا ما يثير الغضب لدى الآخرين". 

يحاول الرئيس بوتين منذ وصوله للرئاسة عام 2000 تثبيت روسيا كأحد الأقطاب الأساسيين في العالم.  ففي قمة الثمانية الكبار في بطرسبورغ في عام 2006  والتي كانت بالنسبة لروسيا في غاية الأهمية، استطاع بوتين إدخال الإستراتيجية الروسية الغربية والشرقية  على مستوى مشكلة الطاقة وعلى مستوى الأمن والتنمية العالميين، من دون الإخلال بالعلاقات مع البلدان الغربية الكبرى، ومع تحسن كبير في الثقة والتحالف الاستراتيجي مع القادة الاَسيويين. 

يدرك بوتين أن عودة روسيا إلى الشرق مرهونة بالعودة إلى العالمين الثالث والإسلامي. فيذكر لوزيانين أن بوتين بدأ بالحوار السياسي مع منظمة المؤتمر الإسلامي، وقد أعرب عام 2003 عن رغبة بلاده في انضمامها إلى نشاط هذه المنظمة بصفة مراقب كبداية. وفي أيلول/ سبتمبر من نفس العام دُعي بوتين للمشاركة في المؤتمر العاشر للمنظمة بصفة ضيف.

واستطاع بوتين أن يرسخ مواقع روسيا الرسمية وغير الرسمية، ليس فقط في مناطق الشرقين الأوسط والأدنى الإسلامية "الكلاسيكية" بل وفي البلدان الإسلامية في جنوب شرق اَسيا.

 فمنذ وصوله إلى سدة الرئاسة عام 2000 يراقب بوتين المتغيرات العالمية ليغتنم فرصة إعادة روسيا التاريخية، ابتداء من انتصار المقاومة في لبنان عام 2000، وحادثة 9/ 11 عام 2001،ـ وانتصار تموز / يوليو عام 2006. فضلاً عن أنه يحاول منذ بداية عهده الأول عام 2000 مخاطبة الغرب بضرورة الإعتراف بروسيا كأحد الاقطاب الأساسيين في العالم.

ولأن الغرب والولايات المتحدة لم يستجيبا لهواجس روسيا فقد رد بوتين على ذلك، ببيع أسلحة متقدمة لإيران ومشاركة روسيا  إلى جانب الجيش السوري عام 2015 في صد المسلحين الإرهابيين فضلاً عن دعوة روسيا لحزب الله ولحركتي حماس والجهاد الإسلامي والفصائل الفلسطنية لزيارة موسكو.      

وأعتقد أن العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا كرد على عدم احترام مكانة روسيا كقوة عظمى وعدم مراعاة أن روسيا بعد عام 2000 تختلف عن روسيا بعد انهيار الإتحاد السوفياتي عام 1991. 

 يؤكد لوزيانيين في كتابه أن "مشروع بوتين "عودة روسيا إلى الشرق" قد دخل مرحلة التنفيذ. لكنني أعتقد أن النجاح في ذلك يتوقف عما سينتج عن العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا.

يختم لوزيانين تأكيده أن "الشرق الكبير" سيظل قائماً بالنسبة لروسيا لفترة طويلة، لا وبل إلى الأبد.