عن الاستثمار في التعليم والرأسمال البشري
يدعم الاستثمار في التعليم النمو الاقتصادي. ولزيادة رأس المال البشري ينظر الى الاستثمار العام في التعليم والتدريب كمصدر رئيسي للنمو الاقتصادي طويل الأجل.
تأخذ العديد من الظواهر التربوية أبعاداً اقتصادية وهو ما يعرف باقتصاديات التعليم التي تزداد أهميتها في عصرنا الراهن يوماً بعد يوم. وانطلاقاً من هذا لا بدّ من فهم الظاهرة التربوية في سياقها الاقتصادي والتعرف على أهمية الاستثمار في الرأسمال البشري ودور التخطيط التربوي في تنظيم العملية التربوية.
نشر المركز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية في برلين عام 2022 كتاب "اقتصاديات التربية واتجاهات التعليم" للدكتورة آمال كزيز وتناول محاور عديدة كما يلي:
أولاً: مدخل عام حول التربية والتعليم
التربية: هي عملية اجتماعية تسهم في إعداد الفرد إعداداً يليق بمجمل المعاني والقيم الاجتماعية، وتتمتع التربية بعدة خصائص فهي عملية ديناميكية واجتماعية متكاملة ومجال تفاعلي بين مؤسسات التنشئة والطفل. كما أنها تعبّر عن الخصائص الثقافية للمجتمع كونها تعد الفرد للحياة الاجتماعية بما يتناسب مع طبيعة المجتمع.
أما التعليم فهو فعل تدريب أو تعليم الفرد لاكتساب المهارات والمواقف المرغوبة بما يمكنه من التفكير بشكل نقدي حول قضايا مختلفة وإعداده للحياة. ويشمل عمليتي التدريس والتعليم ويكتسب أهميته من دوره في تنمية مهارات التفكير وإنمائه بمعارف ومعلومات متنوعة، بالإضافة والإسهام في التنمية الاجتماعية في المجتمع. ومن أهم أهدافه الارتقاء بالفكر الإنساني وتنمية المجتمع من خلال الاستثمار في رأس المال البشري(المتعلم).
اتجاهات التعليم الحديثة في المؤسسات التعليمية
1-التعليم المستقل: من خلال دعم التلاميذ في تحمل المسؤولية والتعلم بشكل مستقل.
2-الدروس الافتراضية: التعلم الالكتروني يمكن كلاً من المعلم والمتعلم من التواصل بشكل فعال بواسطة الصوت والفيديو والحوار المكتوب والتشارك في التطبيقات، أي إمكانية التعلم في أي مكان وأي وقت متاح للمتعلم فهو مطلب مهم في ظل الظروف والأزمات العالمية.
3-المدارس الفعالة والأقل فعالية: المدارس الأقل فعالية هي التي تقبل التلاميذ في أي مستوى من الذكاء. أما المدارس الفعالة فهي أساس نشط بين قدرات الفرد التعليمية واستخراج مواهبهم حيث تمنح المدارس العامة القدرة على تعليم المتعلم من ذوي القدرات المحدودة.
4- مدارس الميثاق: هي قريبة لفكر المدارس الخاصة تكون خاصة بمنطقة جغرافية محددة وتعتمد توسيع آفاق التمويل في المنظمات الاجتماعية، لكن يبقى مضمون المناهج تحت إشراف كامل من الدولة.
ثانياً: مدخل عام حول اقتصاديات التربية والتعليم
اقتصاديات التعليم من المنظور التاريخي
اقتصاديات التعليم: هي علم يسعى إلى تطبيق الفكرة الاقتصادية على التربية والتعليم بهدف ترشيد الإنفاق على التعليم وإعداد الكوادر البشرية ذات الكفاءة والجودة بأقل تكلفة ممكنة وقياس مساهمة التعليم والتربية في تنمية الاقتصاد.
ففي أوائل ستينيات القرن العشرين كانت بدية ظهور هذا العلم برغم جذوره التاريخية الممتدة على الأقل إلى أفلاطون وبعض حكماء الصين بعد الميلاد، حيث أكد تيودور سولتز وهو أشهر مؤسسي هذا العلم في خطاب له على استثمار رأس المال البشري وأكد على دوره في عملية التنمية.
وفي عام 2016 اقترح المنتدى الاقتصادي العالمي أن التعليم يؤثر على إنتاجية البلد من خلال زيادة القدرة الجماعية للقوى العاملة على تنفيذ المهام بالإضافة الى دور التعليم العالي في تطوير العمل اعتماداً على التكنولوجيا المتطورة.
عوامل ظهور اقتصادات التربية والتعليم
يرى اقتصاديو التعليم أن عوائد التعليم ميزة مستحقة من حيث تحقيق الكفاءة والجودة، وهذا يعني أنها تفيد الآخرين أكثر من الشخص المتعلم ويبقى كل هذا في سياق صناع القرارات والسياسات التعليمية. وتصميم نظام تعليمي لتحقيق النتائج المرجوة خطوة صعبة من حيث محددات التعليم(خصائص المرحلة ونظام التمويل واستقلالية المدرسة - والحضور من المدارس الخاصة أو سن الالتحاق بالمدرسة - خصائص النظام التعليمي في كل بيئة). لا ننكر أيضاً أننا بحاجة الى إسهام حقيقي في تطوير مؤسسات التعليم وفتحها على قطاعات المجتمع كعملية استثمار فعلية. ولا يتحقق هذا كلّه إلا من خلال توفير متطلبات التعليم السليم الذي يفرض الإنفاق على التعليم.
أهمية اقتصاديات التعليم
تبرز أهميته في المساعدة على تحليل القضايا والمشكلات التربوية والتعليمية والارتقاء برأس المال البشري المكوّن للمجتمعات وتوزيعه على قطاعات المجتمع وفق استراتيجيات ذكية تساعد على تحقيق التنمية.
فهدف اقتصاديات التعليم هو كيفية التوظيف الأمثل لمخرجات التعلم في الحياة العملية والتأكيد على الربط بين الجانب التعليمي والعملي.
العلاقة بين النظم الاقتصادية والتعليم
النظم الاقتصادية والتعليم يتأثران بطبيعة المجتمع والمجال الثقافي الذي يعيشه الفرد، إضافة إلى الموارد البشرية والمادية التي تتيح فرص خدمات أكثر فعالية لمجال التربية والتعليم. فمن خلال الاستثمار الأمثل لليد العاملة وتزويد القطاعات بكفاءات وخبرات مهنية وعملية، ينعكس ذلك على المجتمع بعوائد أكبر ليكون قادراً على مواجهة التغيّرات الاجتماعية والمحافظة على التوازن الاجتماعي.
نماذج عالمية في التنمية الاقتصادية
كوريا الجنوبية وضعت خطة خماسية 1967-1971 لتعليم العلوم والتكنولوجيا بالتساوي مع الخطة الخماسية الثانية للتنمية الاقتصادية، وشيدت المدارس المهنية وأصبحت اليوم من اقتصاديات العالم الكبيرة. أما الولايات المتحدة فعملت على تعزيز(التعليم للجميع). وكذلك كرواتيا قدمت نظامها التعليمي معرفة وتحفيزاً وتدريباً لبعض المهن التي ينبغي أن تنعكس في أثار اقتصادية ملموسة.
ثالثاً: مدخل عام حول التربية والتنمية المستدامة
مفهوم التنمية
التركيز على القدرات البشرية والمادية للمجتمع لتنميته وتحسين نوعية الحياه فيه.
التعليم والتنمية الاقتصادية
التعليم هو صناعة الاستثمار وتنمية الأفراد واكتسابهم المواهب. هو تكلفة حقيقية لكنها بمثابة رأس مال ثابت وثروة شخصية تعد بدورها جزءاً من ثروة المجتمع. والتنمية الاقتصادية تربط بطبيعة رأس المال البشري الذي يساعد على تحقيق هدف تنمية المجتمع. لهذا يجب إعداد الفرد وفق احتياجات المجتمع الاقتصادية لضرورة توفيق مدخلات ومخرجات التعليم وفق احتياجات القطاعات الاجتماعية ليساهم في إدارة الموارد البشرية والاقتصادية.
رابعاً: المدارس النظرية لاقتصاديات التربية والتعليم
- نظرية رأس المال البشري: تشير هذه النظرية إلى أن الاستثمار في رأس المال البشري سيؤدي إلى نواتج اقتصادية أكبر، لكن من الصعب إثبات صحة هذه النظرية. فالقوة الاقتصادية تعتمد إلى حد كبير على الأصول المادية الملموسة.
- نظرية تجزئة سوق العمل: تفرض وجود أسواق عمل منفصلة عدة:
سوق أولية مستقلة: هناك دوران للعاملين في أخر القيادة.
سوق عملية أولية تابعة: هناك ثبات نسبي غير إبداعي في الإدارة والإنتاج.
سوق عمل ثانوية: هناك دوران في العمل أقل لأنها هامشية.
ويرتبط تجزؤ سوق العمل غالباً بنمط المؤسسة التعليمية الخاصة ومؤسسات التعليم العالي التي بالتخصص العلمي للرأسمال البشري الذي يوزع حسب احتياجات سوق العمل وقطاعاته.
- النظرية الكلاسيكية لأزمة التعليم: إن التقسيم غير العادل لقطاعات المجتمع وعدم توازنها مع متطلبات التخصص العلمية يؤدي إلى انفصال المجال التعليمي والاقتصادي. وهذا يؤثر على عمليات التطور والنمو الاجتماعي.
- نظرية التنافس على العمل وخط الانتظار: الإنتاجية ليست خاصية الفرد بل خاصية مكان العمل، فرب العمل مستعد لدفع أجر عادل لحملة المهارات بما يؤدي إلى إنتاج عوائد قياسية.
- نظرية المصفاة: إن التعليم لا يزيد شيئاً في الإنتاجية الفردية للعامل بل يكشف عنها لرب العمل أي أن التعليم يلعب دور المصفاة على بوابة سوق العمل أو داخله.
خامساً: التمويل والاستثمار في التربية والتعليم
سياسات التمويل المدرسي: التمويل ليس مجرد تخصيص مورد مالي فقط بل حساب احتياجات القطاع وتحديد أفضل طريقة لتصميم سياسات التمويل المدرسي التي تكون فيها الموارد المتاحة موجهة لدعم التدريس عالي الجودة وتوفير فرص التعليم المتكافئة لجميع الطلاب. والسياسات التمويلية هي إما مركزية محددة من الجهة الحاكمة "الدولة" أو لامركزية محددة من جهات وهيئات دولية ومحلية.
الاستثمار في التعليم
عملية الاستثمار لا تأخذ أبعاد (الاستثمار المالي) فقط، بل تتعدى ذلك الى الاستثمار في الرأسمال البشري أي "الفرد" وهو ما يحقق عوائد ومنافع كبيرة ويساعد على فتح آفاق تنموية بأبعاد تربوية اقتصادية تعليمية توازي متطلبات المجالات المادية والبشرية في آن واحد.
أهمية استثمار رأس المال البشري في التعليم
يدعم الاستثمار في التعليم النمو الاقتصادي. ولزيادة رأس المال البشري ينظر الى الاستثمار العام في التعليم والتدريب كمصدر رئيسي للنمو الاقتصادي طويل الأجل ويعتبر الفرد الأكثر أهمية في الاستثمار الرأسمالي البشري. ويسمح الاستثمار في التعليم الاستيعاب الأسهل للتكنولوجيا الأجنبية.
الحاجة الاجتماعية والاقتصادية للتمويل والاستثمار في التعليم
يعتبر رأس المال البشري المحدد الرئيسي في النمو الاقتصادي لارتباطه بمجموعة واسعة من الفوائد غير الاقتصادية مثل تحسين الصحة والرفاهية. وتعتمد مساهمة التعليم الإيجابية في التنمية على نوعيته وملائمته لاحتياجات المجتمع في المراحل التنموية المختلفة.
-التعليم استثمار أو استهلاك
كانت النظرة إلى التعليم قديماً على أنه مجرد خدمة تقدم للفرد من دون عائد منه، ما يعتبر أن الانفاق على التعليم استهلاك لا عائد منه. ولاحظ العديد من المتخصصين الفوق الجوهرية بين المتعلم وغير المتعلم في القدرة الإنتاجية وسرعة مواكبة التطورات والتحسين في أساليب الإنتاج. فاستخدام المعرفة المكتسبة للابتكار والابداع والتطورات التكنولوجية ينعكس ايجاباً على مستوى التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع.
كما أن تحول الفرد من مجرد مستهلك في المجتمع الى محط للاستثمار فيه يحقق نظرة مستقبلية مبنية على آفاق وأهداف لتطوير حياه الفرد وتنمية مجتمعه.
فالتعليم إذاً استثمار لأنه يعتمد على غاية تحقيق أكثر عائد ومنفعة للمجتمع والفرد وليس مجرد استهلاك.
سادساً: العائد والفاقد والكفاية في التربية والتعليم
العائد في التربية والتعليم: وهو ناتج الاستثمار الفعلي في الرأسمال البشري بما تتطلبه حاجات المجتمع من تنميه وتطور على مستويات عديدة ولا يتحقق إلا من خلال المخرجات التعليمية التي تم الانفاق عليها.
العوائد غير النقدية من التعليم: وهي كل ما يعود على الفرد والمجتمع من مزايا عدا الاقتصادية منها جراء الاستثمار في التعليم. فالسياسة التعليمية تخلق توازناً متكاملاً ما بين الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها.
سابعاً: التخطيط التربوي
التخطيط التربوي: هو عملية شاملة في المجال التعليمي التربوي والاجتماعي قائم على معايير منظمة تمكن من وضع خطط مرنة تتناسب مع طبقة المجتمع وسياسات التعليم في كل بلد.
خصائص التخطيط التربوي وأهميته
يساعد التخطيط التربوي في صنع القرارات الإدارية في التعليم وتمكين أصحاب المصلحة في التعليم من اكتساب رؤية اقتصادية في استخدام الموارد النادرة وتمكين الأمة من توضيح خياراتها من حيث احتياجاتها التعليمية ويجب أن يكون التخطيط بأسلوب موضوعي وتفكير تحليلي ودينامي تكاملي.
أنواع التخطيط
-تخطيط استراتيجي: هو تخطيط طويل الأمد يساعد على إعطاء فكرة عامة حول آفاق المؤسسات التعليمية وأهمية تنميتها.
-تخطيط تكتيكي: تخطيط واختيار الأساليب لمساعدة المخططين على تحقيق الأهداف، تعتمد مجال الإدارة بصورة كبيرة.
دوافع التخطيط
ثمة متغيرات بيئية وظرفية مؤثرة على النظام التعليمي منها التكلفة المتزايدة للتعليم والتطور التكنولوجي في جميع أنحاء العالم، والبطالة، وتأثير العولمة على التنمية الوطنية.
الأخلاقيات في التخطيط: هناك مجموعة واسعة من المعايير المرتبطة بالسلوك الأخلاقي للمخططين منها الوعي بحقوق الآخرين والاهتمام بالعواقب بعيدة المدى والالتزام بتقديم معلومات كافية وواضحة ودقيقة في الوقت المناسب والميل الى النهوض بالعدالة الاجتماعية.
دور التخطيط التربوي في التنمية الاجتماعية
العنصر البشري ركيزة أساسية في بناء التقدم الاقتصادي والاجتماعي، حيث أن النظام التربوي في التخطيط منقذ لإشباع حق الأفراد في التعليم والمعرفة ومنقذ من تدني الأوضاع التعليمية وتنظيماتها المؤسسية.
ومن أهمية التخطيط التربوي توفير القوى العاملة المؤهلة وصنع السياسة بصورتها التربوية من خلال التخطيط الفعال.
ثامناً: الجودة في التعليم
-مفهوم الجودة في التعليم: هي تحقيق أكثر عائد من الكفاءة، ومتطلبات نجاج عملية التعليم وفق متغيرات المجتمع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لاستمرار العائد من التعليم وتنمية المجتمع.
تاسعاً: التقنية والتعليم
دور وسائل تكنولوجيا التعليم في العملية التعليمية
لا يمكننا إنكار دور التكنولوجيا ووسائلها في مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية على مختلف مستوياتها ومراحلها، لما تشغله من ضرورة علمية خاصة بما يتعلق ببعض الموارد الدراسية التي وجب ألا نستغني عنها في عملية التعليم والفهم.
التكنولوجيا والتطور والتنمية
استخدام التعليم الرقمي والتكنولوجيا في أطوار التعليم هي تأكيد على ضرورة تلبية طلب الصناعة أو احتياجات سوق العمل بطرق عامة في الاقتصاديات النامية والصاعدة.
لهذا وجب أن تكون هناك رؤية لاقتصاد معرفي عالمي تغذّيه المنافسة الدولية وتدعمها الشبكات الرقمية. هذه الرؤية لها الاستثمار المدفوع في التقنيات والنهج الجديد للتعليم والتعلم وبرامج إعداد بناء المدارس الضخمة حول العالمية كمصادر لبناء مستقبل اقتصادي مستدام.
الخاتمة
حمل هذا الكتاب العديد من الأفكار والطروحات التربوية التي تهتم بقضية التنمية الاجتماعية وتطوير المجتمع من خلال الاستثمار الأمثل للرأسمال البشري أو ما يعرف بمخرجات عملية التعليم، وضرورة إدماج التقنية والجودة في التعليم لتحسين التربية وترقية المجال التعليمي وخاصة بعد ما شهدناه من أزمة وباء "كوفيد"، إضافة إلى إبراز دور المؤسسات المدرسية والتعليمية والجامعية في احتضان الفرد وتكوينه بمجموعة من الوسائل والطرائق البيداغوجية التي تساهم في تشكيل رأسمال ثقافي، مع ضرورة الاستثمار الأمثل في هذا المجال والتركيز على الانفاق الجيد كأساس تنموي مهم. فالتعليم هو مفتاح لأبواب التنمية والحضارة في الحياه الاجتماعية للفرد.