عصا برائحة البارود
لو كان للعصا السنديانية أن تتكلم لأقسمت بأنها شهدت معجزةً ذلك النهار، ولشهدت على نفسها بأنها تعبت ولم تتعب أم حسن وهي تصعد الجبل تحمل على ظهرها حقيبة كبيرة ثقيلة تُرهق أكتاف الرجال.
تأخّرت في الوصول إلى ساحة القرية ولما وصَلَت لم يكن أحدٌ في انتظارها. وقفَتْ وحيدةً تحمل عصاها في يد، وحقيبة أدويتها في اليد الأخرى. لا شيء سوى حفيف شجرة الصّفصاف وبعض رائحة البارود.
اتّكأتْ على عصاها السنديانية القديمة، أخذت نفساً عميقاً لعله يبرّد حرارة الآه في وجدانها، ثم زفرت وحوقلت ورمقت بطرْفها آفاق السماء كأنها تُطمئِنُ قلبها إلى أنّ هناك من لن ينساها.
لم تلُم الحاجةُ أم حسن أحداً من أبناء قريتها الذين نزحوا جميعاً ونسَوها. فالحرب قرعت طبولها صباح ذلك اليوم، والناس خرجوا زرافاتٍ ووحداناً من تلك المنطقة الحدودية التي أوّل ما دهمها الخطر.
وقفَتْ هناك لا تعرف لماذا أو ماذا تنتظر. وقفت كلوحة نفيسةٍ مدهشة، وكأنّ تجاعيد وجهها المضيء إحدى حكايات جنوب لبنان، وكفّاها بيادر القمح المتماوجة مع نسائم الصبح المتنفّس من عبق العطاءات.
وبينما هي في لحظة تأمّل تكشف عجز الإنسان أمام الموت وأمام الحياة، وإذا بقذيفةٍ تسقط في الوادي القريب فتنتبه مجدداً إلى أنها وحدها في وسط الساحة، وهدير الطائرات الحربية عاد يضجّ في الفضاء، فتسرع بكل ما أوتيت من قوة وتعود أدراجها إلى بيتها القديم على أطراف القرية مسلّمةً أمرَها لـ "أبو خيمة زرقا".
**
تجاهل الألمَ الذي استولى على رجله المصابة بطلقٍ ناري، في إثر معركة كبيرة على أطراف القرية خاضها مع إثنين من رفاقه المقاومين ضد قوّة صهيونية مدرّعة. ربط قدمه بخرقةٍ ليحبس الدم، ومشى يعرج ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، حتى إذا نفدت طاقته استند إلى أحد رفيقيه وتوجّهوا جميعاً إلى أقرب بيتٍ لاح أمام أنظارهم.
كان بيتاً صغيراً مبنياً من الحجر الصخري، بابُه الخشبيُّ قديمٌ وشبه مهترئ يسهل خلعه والدخول للإحتماء ومحاولة تطبيب الجريح.
كسر أحدُ المجاهدين القفل وتقدم يتبعه الآخر والجريح، وإذا بمكنسةٍ من خلف الباب تهوي على رأس الأول وصوت عجوز تصرخ:
- اخرج من بيتي أيها الصهيوني يا ابن الكلب ...
- صلّي على النبي يا حجة ... آآخ ...
لم يتمالك الجريح نفسه من الضحك أمام هذا المشهد حتى أنه غفل عن الألم.
- اضربي يا حجة هذا صهيوني .. قال الثالث محرّضاً وهو يغلق الباب مبتسماً، حتى كأن من يراهم لا يصدّق أن هؤلاء عادوا لتوّهم من معركة شرسة قتلوا فيها 3 اسرئيليين وجُرح أحدُهم والطائرات الحربية ما زالت تلاحقهم.
عندما استوعبت المرأة العجوز الأمر، كان الثلاثة جالسين على الأرض يتنفّسون الصّعداء.
- ماذا تفعلين هنا يا حاجّة؟ بادر أحدُهم بالسّؤال مستغرباً وجودها رغم كل هذا القصف العنيف المتواصل منذ أيام. لماذا لم ترحلي كبقية الناس؟
لمعت دمعةٌ في عين العجوز. لكنها كابرت وقالت:
- ربما شاء الله أن أبقى هنا لاستقبلكم..
- "بالمكنسة يا حاجة"؟ سأل الرجل المضروب وعلامات الاستياء ما زالت على وجهه.
أحضرت المرأةُ الماء وسقت المقاومين ثم جلست على بساطها المتواضع الصغير وتناولت آخر حبة دواء في حقيبة أدويتها.
كانت قبل لحظات من دخولهم قد عقدت العزم على الخروج من البيت لأول مرة منذ بدء الحرب. فهي ربما يمكنها الصمود ببعض الطعام المدّخر في غرفة المونة الصغيرة في قبو المنزل، لكنّ حاجتها الملحة للدواء دفعتها لمواجهة خطر النار. ولمّا همّت بالخروج لمحت من نافذة المطبخ 3 رجالٍ يلبسون الثياب المموهة يقتربون من بيتها، فظنّت أنهم جنود العدو فاستعدّت لمواجهتهم على طريقتها.
أحضرت لهم بعض الزعتر والزيتون واستأذنتهم في الانصراف لأنها مضّطرة إلى تأمين الدواء بأي شكل.
لم تنفع محاولة أحد الشبان ثني العجوز عن الخروج، وكان الجريح نائماً يئنّ من الوجع فيما لم يحاول الثالث منعها تجنّباً لأي اشتباك جديد.
خرجَت في اتجاه القرية المجاورة. فعلى رغم المسافة الطويلة التي تحتاج إلى ساعات حتى بالنسبة إلى شاب نشيط، فإنها عزمت على الأمر، فهناك تسكن صديقتُها "أمّ يحيى". هي مثلها تعاني المرض نفسه وتواظب على الدواء عينه. لا بدّ من أنّ أم يحيى في منزلها حيث يوجد ملجأ ولم تغادر، وستعطيني بعض العقاقير، هي تشتري تلك الأدوية الغالية بكميات كبيرة، فزوجها رجل أعمال مهم وغني. أخذت تمنّي النفس بكل ذلك.
مشت طويلاً وهي تفكّر. كانت حاجة الجريح إلى طبيبٍ أو مسعفٍ أو على الأقل لحقيبة إسعافات فيها بعض الحقن الضرورية وإلا بُترت ساقه. وكانت تحتاج إلى دواء القلب وإلا توقّف قلبها.
تردّدت في ذهنها أصواتٌ سمعتها هذا الصباح عند قدوم ضيوفها المفاجئ:
- اصبر يا حسام ... لا يمكن فعل شيء الآن. الطائرات تحلق بكثافة في الأجواء ولا يمكن الخروج قبل حلول الليل.
- ولكن الاسعافات الوحيدة موجودةٌ في المغارة. كيف سنصل إلى المغارة ونقطع الوادي بهذه القدم المصابة؟
- ماذا تعني كيف سنصل؟ أنت ستبقى هنا، وأنا سأذهب لأحضرها ولكن سننتظر الليل. نم قليلاً الآن.
- ولكنكما كلاكما لا تعرفان طريق المغارة. فكيف وأنتما تبحثان في سواد الليل.
- سنجدها إن شاء الله. لا تقلق. حاول أن تنام الآن أرجوك.
انتهى الحوار المتردّد صداه في أصول آذانها. رفعت رأسها. لم يكن أمامها منزل أمّ يحيى، ولا حتى قرية أمّ يحيى. وجدَت أم حسن نفسها واقفةً مدهوشة أمام باب المغارة.
مَن مِن أهل تلك القرية والقرى المجاورة لا يعرف مغارة الشهداء. خصوصا كبار السنّ الذين عاشوا أيام الإحتلال وشهدوا بعض عمليات المقاومة أو سمعوا عنها القصص العظيمة. هنا اجتمعوا وخططوا وصلّوا وصاموا وجاهدوا ... واستشهد بعضهم.
كل الناس هنا تحدّثك عن مغارة الشهداء.. كم شهيدٍ وشهيد عرج من هذا المكان، وكم جريح صمد بها بعد عودته من عملية عسكرية حتى عمدت المقاومة إلى تجهيز المغارة بالأدوية والمستلزمات الطبية حتى صارت أشبه بالمشفى الميداني.
طبعاً تم إخلاء المغارة مع بداية الحرب.
كانت أم حسن ترجو في نفسها لو أنها تجد أحداً فيؤنسها ويساعدها. نادت فسمعت صدى صوتها الضعيف.
دخلت المغارة.
المكان مظلم
أخذت تتلمس الأرض بيديها فعثرت على مصباح قديم بالكاد يضيء.
مشت وهي تسند يدها على الحائط، فظهرت صور الشهداء الملصقة عليه، عندما مر ضوء المصباح وهي تمرر كفّها على الصور كأنها تمسح على رؤوسهم، حتى وقع بصرها على صورة جعلتها تجفل وتدمع ثم تستعيد مشهداً من ذاكرتها.
كانت في الدار تخبز على الصاج، بينما يهمّ شاب بالخروج.
- معاش يا حسن تحب تنام بالبيت اللي حضنك ورباك؟! وعند هالمسكينة اللي حملتك تسع شهور؟!
يبتسم.
- ليش في بالدنيا متل حضنك وحنانك يا روحي وعمري؟!
- الظاهر حضن المغارة أحن.. مش عم إفهم كيف عم تنام على الأرض وبالبرد وبين الحيايا (الأفاعي) والعقارب.
- لو بقدر آخدك معي شي يوم ع المغارة.. لتشوفي أديش دافية وحنونة علينا.
- والله عم فكر روح شي يوم وشدّك من دينتك ورجعك ع البيت.
يرفع حسن حاجبيه مدهوشاً.
- عم بمزح معك يمّي.. روح الله يرضى عليك ويحميك.
- يمّي أنا بالبيت بكون حد اللي بحبهن، وبالمغارة كمان (فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته). ادعيلي يمّي..
ترفع يديها عن الصاج وتتمتم بالدعاء.
يخرج حسن ويغلق الباب خلفه، ليعود ويُطرق من جديد يوماً ما.
تفتح أم حسن ويدها على قلبها المنقبض، تنظر في عيني رجل تعرفه وتعرف مهمته.
- مبارك لكِ يا أم حسن.. صرت أم شهيد.
مسحتْ دمعتها بكمّها وهي تنظر إلى الصورة القديمة.
- المغارة دافية يمّي .. وكأن صدى صوت حسن يتردد في المغارة.
- دافية يمي هالمغارة.. والأرض متل الأم لما تحضن ولادها. أجابت الصوت الذي في عقلها.
- (فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته) قرأت هذه الآية وهي تجلس على الأرض ودمعاتها ملأت مقلتيها.
مسحت دموعها وفتحت عينيها من جديد... كانت حقيبة كبيرة أمامها وعليها رسم الهلال ...
استعادت عزمها وهي تفكر:
- لا بدّ من أنهم سيجدون كل ما يحتاجون في هذه الحقيبة الضخمة.
نظرت إلى صورة حسن المبتسم، وكأنها تودعه.. ثم خرجت من المغارة.
لو كان للعصا السنديانية أن تتكلم لأقسمت بأنها شهدت معجزةً ذلك النهار، ولشهدت على نفسها بأنها تعبت ولم تتعب أم حسن وهي تصعد الجبل تحمل على ظهرها حقيبة كبيرة ثقيلة تُرهق أكتاف الرجال.
كان المقاومون قلقوا على غيابها كامل النهار وبدأت تساورهم الأفكار المؤلمة بشأن مصيرها.
في طريق العودة سألت أم حسن نفسها كيف مال قلبها الضعيف شطرَ المغارة. هي حتى لم تدرك أنها اتخذت هذا القرار. هي أصلاً لم تقف على مفترق طريقٍ لتخيّر نفسها بين دواء قلبها العليل وقدم المقاوم الجريح. لم تشعر بنفسها إلا وهي عند باب المغارة.
- "يا سبحان الله"... كان ذلك التسبيح كل ما خرج من فمها وقلبها معاً، مع ابتسامة رضىً أعادت الحياة إلى وجهها الذابل النحيل.
وصلت بشقّ الأنفس. لم تنبس بحرف. وضعت الحقيبة أمامهم. وتمدّدت على فراشها الصغير.
- ولكن أين دواؤكِ؟ سألها الجريح.
لم يسمع سوى شخيرٍ ضعيفٍ كأنه يُخرج معه بهدوءٍ حمماً ملتهبةً من قلبٍ مثقل بالجراح والتعب.
في صباح اليوم التالي، ودّع الرجال الحاجة أم حسن شاكرين. لم ترضَ إلا بأن وضعت في جعبهم نصف مونتها على قلّتها. ورحلوا.
لم ينسوا أن يحضروا دواءها من قرية مجاورة، ولكنهم في اليوم التالي عندما حاول أحدهم العودة إلى منزلها كانت الطريق قد قطعت بالغارات الاسرائيلية المتتالية فاضطروا للإنتظار.
انتهت الحرب. أسرع الرجال أنفسهم إلى ذلك البيت الصغير على أطراف القرية، وقد حضروا بالإسعاف لأنهم يعلمون أنّ المرأة بقيت أياماً طويلة من دون الدواء والغذاء الكافي.
وصلوا إلى البيت. ما زال الباب مخلّعاً. دخلوا. كانت الحاجة أم حسن ممدّدةً على باب الدار وبقربها المكنسة نفسها تحسّباً لأي صهيوني "ابن كلب" يمكن أن يدخل.
في اليوم التالي زفّت المقاومةُ شهيدةً من شهدائها، من أولئك الذين لم تكن أسماؤهم مدرجةً في السّجلات التنظيمية الرسمية للمقاومة.