"شرِّد الموتى يرتعد الأحياء"... ماذا يحدث في قرافة القاهرة؟
"القبور المهدّمة تعلّمنا طأطأة الرأس والخضوع الكامل". كيف نظر المصريون إلى عملية هدم المقابر التاريخية في القاهرة؟
مؤخراً، زحفت الجرّافات على شوارع القاهرة لتقتلع أشجارها، وطالت يد الإزالة عوامات النيل، التي كانت إحدى ملامح المدينة العتيقة. ربما لم يكتفِ القائمون على الأمر بالعبث بما هو فوق التراب أو أعلى سطح الماء، بل راحوا يرسلون جرّافاتهم مسنونة الحواف لتنبش بطون الأرض، باحثة عن قبور الموتى، بعد هدم المقابر فوق رفاتهم.
منذ فترة، تعالت الصرخات دفاعاً عن جبانات القاهرة التاريخية، وكثّف المهتمون بالآثار دعواتهم لوقف عمليات الهدم التي تشهدها المدافن هناك، ولا سيما في منطقتي السيدة عائشة والإمام الشافعي، وذلك بعدما عزمت الحكومة المصرية على إنشاء محاور مرورية جديدة للربط بين شرق وجنوب القاهرة، مروراً بتلك الجبانات التي عاشت لقرون وعرفت بـ "قرافة القاهرة".
الصور التي تداولها روّاد السوشال ميديا مصحوبة بكلمات مندّدة بعمليات الهدم، جاء أغلبها لجرافات تتكأ على أكتاف المقابر بعدما نهشت جدرانها ودمّرت شواهدها الأثرية، ومحت ما عليها من كتابة وخطوط نادرة. وعلى ما سبّبته الصور من غصة في قلوب من شاهدوها، إلا أنها أعادت الروح إلى تلك المقابر في نفوسهم ومن ثم راحوا يبحثون في تاريخها.
***
متى بدأ الهدم؟
جاء اختيار مكان القرافة أعلى سفح جبل المقطّم لبعده عن مياه فيضان النيل، إذ يقع المقطّم في الشرق بينما يجري النيل في غرب القاهرة، ومن ثمّ كان موقعاً مناسباً للحفاظ على الجثث بعيداً من مجرى الفيضان.
وبحسب ما صرّح به عبد العظيم فهمي، مؤسس مبادرة "سيرة القاهرة"، فإن ثمة عاملاً تاريخياً آخر يوجب الحفاظ على المقابر بدلاً من الاعتداءات المتكررة عليها.
ويؤكد في حديث مع "الميادين الثقافية" أن قرافة القاهرة كثيراً ما تعرّضت للتشويه والهدم. فقد حدث ذلك وقت إنشاء طريق الأوتوستراد، وطريق صلاح سالم، لكن ما يجري الآن تزامناً مع إنشاء المحاور المرورية الجديدة، ربما هو الأعنف والأشرس، إذ طالت أعمال الهدم قرافة الإمام الشافعي ومنطقة المجاورين ومنطقة السيدة عائشة.
بين الرفض والاستقالة... المصريون يعارضون هدم المقابر
كان لأعمال الهدم صدى واسعاً، وقد لاقت رفضاً قاطعاً من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، لما تحويه أماكن التخريب من مقابر لشخصيات وأعلام ومفكّرين، كانت لهم مكانة دينية وتأثير ثقافي وتاريخي كبير.
ومن بين من هدمت مقابرهم كان باشوات من عصر محمد علي وأسرته، التي وقفت مقابرهم لسنوات طوال، مزيّنة بشواهد قبور وتركيبات ورخام نادر، وأيضاً بطراز معماري فريد وكتابات لآيات قرآنية وأشعار موقّعة بأسماء أشهر الخطّاطين. الأمر الذي جعل مقترح الحكومة المصرية بنقل رفات هؤلاء إلى "مقابر الخالدين"، حلّاً غير مرضٍ لعلماء الآثار والمتخصّصين الباحثين عن الإبقاء على ما اعتبروه جزءاً من هوية مصر وتاريخها.
وكان للوسط الثقافي أيضاً موقفه الرافض لما يجري من أعمال هدم للمدافن التاريخية، وهو ما ظهر مع وضع علامة الإزالة (x) على مقبرة الشاعر محمود سامي البارودي، ما يعني أنها ضمن خطة الهدم، وكذلك حالة الغضب التي انتابت الكثير لما حدث من أعمال سرقة وتكسير لمقبرة الشاعر أحمد شوقي، الأمر الذي جعل البعض يستنكر الأمر مستشهداً ببيته الشعري الشهير:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني في الخلد إليه نفسي
إلى الآن، تزحف الجرّافات داخل قرافة القاهرة التاريخية، تعبث بكل ما جاء ضمن مخطّط الهدم، لكنّ صوتها العالي تعدّدت أمامه أصوات أخرى رافضة لما يجري. من بين هؤلاء، من اقترحوا حلّاً عاقلاً، داعين إلى تحويلها إلى مزار سياحي، أسوة بما يفعله الغرب بمقابر العظماء، وهي دعوة قديمة ذات جذور عربية، ظهرت في ما عرف بكتب المزارات، التي ظهرت في العصور الأيوبية والمملوكية والعثمانية، لتبقى كتباً للإرشاد السياحي، توضح أماكن مدافن ومقابر العظماء، كما يوضح فهمي.
وهناك من أعلن موقفه بشكل أكثر وضوحاً، ونقصد الدكتور أيمن ونس، الذي تقدّم باستقالته إلى محافظ القاهرة، من رئاسة اللجنة الدائمة لحصر المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميّز في المنطقة الشرقية، "احتجاجاً على التدمير الذي يحدث لمقابر القاهرة التاريخية"، بحسب قوله.
وجاء في نص الاستقالة، الذي نشر ونس صورة منه على صفحته على موقع "فيسبوك"، أن قراره جاء: "لعدم جدوى عمل اللجنة من التسجيل للمباني المتميّزة ذات القيمة التراثية بغرض الحفاظ عليها نظراً لقيمتها المنصوص عليها في القانون رقم 144 لسنة 2006، وهذا في ظل ما يحدث الآن من أعمال هدم وإزالة للمقابر التراثية ذات القيمة المعمارية والعمرانية والتاريخية بالقاهرة".
ورأى ونس أن ما يحدث الآن: "ليس فقط إهداراً لمباني المقابر التاريخية التراثية فحسب، ولكنه إهدار لنسيج عمراني تاريخي ذي قيمة متفرّدة على مستوى العالم، ويمثّل جزءاً هاماً من التراث العالمي"، مضيفاً أنه "إهدار لثروات تاريخية ذات قيمة لا يمكن تعويضها، وهو الأمر الذي لا يستقيم مع الاستمرار في عملي رئيساً للجنة".
وفي الوقت الذي ما زال فيه الصراع قائماً بين الجرافات والأصوات المعارضة لهدم المقابر التاريخية، رأى الكاتب والشاعر فتحي عبد السميع، الفائز بجائزة الدولة التقديرية في دورتها الأخيرة، أن ثمة رمزية في مشاهد القبور المهدّمة، حيث "تزرع في أعماقنا تأكيداً لسطوة السلطة وطبعها الغاشم وعدم اكتراثها بأي عزيز".
وأضاف عبر صفحته على "فيسبوك" أن: "القبور المهدّمة تعلّمنا طأطأة الرأس والخضوع الكامل، وتعمل على تمكين الخوف في نفوسنا بشكل فني غير مباشر، وكأنها تغيّر شعار "اضرب المربوط يخاف السايب" بشعار، "شرِّد الموتى يرتعد الأحياء".
"بني قرافة" هم من سكنوا تحت سفح المقطّم
"القرافة" هي لفظة فريدة تتميّز بها القاهرة عن غيرها من البلدان، أصلها جاء اشتقاقاً من قبيلة "المغافر" التي نزلت إلى مصر مع عمرو بن العاص، وكانت بطنٌ من بطونها تسمّى "بني قرافة" هم من سكنوا تحت سفح جبل المقطّم.
يحكي عبد العظيم فهمي أن أول من مات منهم كان رجلاً اسمه "عامر"، فدفن فيها، وقال الناس "عمرت القرافة"، لتصبح أول مدينة خاصة بالأموات والأحياء، باسم "القرافة الكبرى".
بعد ذلك، ولما مات الإمام الشافعي (767- 820م) ودفن في مكانه بتربة أسرة ابن الحكم، تمدّدت المقابر حول قبّته، ومن ثم ظهرت "القرافة الصغرى"، ومن ذلك يتضح أن "القرافة" تسبق مدينة القاهرة تاريخياً، إذ جاءت نشأتها مع الفتح الإسلامي لمصر.