رعد الآخرة
ها هي يافا تتراءى له وتدعوه ليكون ضيفها، تحضنه، تشمّه، تشكره على صنيعه، ولسان حالها يقول: "متى سنتخلّص من نير الاحتلال؟"
إلى روح الشهيد رعد حازم
تكاد الأمنيات تحتجب وهي في طريقها نحو مكابدة الوجع الذي استشرى في منعطفات الطريق. طريق معبّدة بألف خاطرة عن شبّان تخال أطيافهم من الماضي، يجلسون في المقهى، يتمازحون، يخططون لمستقبل تائه كلّما أرادوا جمعه انسرب من بين أصابعهم. والسؤال لماذا؟ أسئلة كبرى كانت تراودهم. لماذا كتب على فلسطيننا أن تغتصب؟ كيف استطاع "أبناء العمومة" أن يصمّوا آذانهم ولا يسمعون حسيسها ونجاواها؟
في المساء، تجلس الجدّة التي تحمل مفتاح بيتها في الكرمل، تتحسّسه، تشمه، تدنيه من شفتيها، وتهمس له بكلمات ثمّ تدسّه في كيسها المعلّق في رقبتها ليناغي وجيب القلب الهادر والمتسارع بعد عرض شريط الذكريات وكأنّ جرح السنين ما زال طريّاً، فاغراً فمه، يغلي على مرجل نصفه من تعب ونصفه أمل بالعودة.
إلى جانب جدّته كان الطفل الصغير يلهو ببقايا طلقات الرصاص المتناثرة على أرض المخيّم، يتباهى بما جمعه بين أترابه ويدفعه الفضول لسؤال جدّته:
ــ- احكي لي يا ستّي عن أرضنا اللي أخذها اليهود وكيف وصلنا لهون.
تنهّدت الجدّة ولم تتمالك نفسها، فدموعها سخيّة اعتادت أن تنحدر على وجنتيها وتسلك الأخاديد التي تركها الزمن عليها. بكت زوجها الذي قتلته عصابات "الهاغانا" بعد أن وقف بوجههم مفضّلاً الموت على ترك أرضه. لقد حثت عليه التراب وأودعته حبّها وشوقها واستأذنته بالمغادرة واعدةً إيّاه بعودة قريبة لتسقي الورود على قبره، فلطالما كان عاشقاً لها، يزرعها بيديه ويدللها ويغنّي لها لتعطيه أجمل الأزرار. هذه الورود التي تحافظ على نضارتها طالما كانت تتعهّدها يداه بالرعاية، كان يأنس بها يتنفّسها، يداعب بتلاتها بشيء من الحنوّ، واعدًا إيّاها بما يشبه العهد والميثاق أن لا تقطف إلا لترشّ على مواكب الشهداء الذين يسقطون غدرًا على أيدي العصابات الصهيونية.
وبكت الجدّة أبناءها الثلاثة الذين توزّعوا في مشارق الأرض ومغاربها باحثين عن الأمان والسلام ولكنّهم لم يجدوا للراحة سبيلا. فأيلول الأسود تكفّل باثنين منهم وآخر غرق مع مجموعة بعد أن صعدوا مركباً علّهم ينجون من فتك العصابات التي لم تفرّق بين كبير وصغير. لقد كان الرعب مسيطراً فالجرائم التي ارتكبت:
"تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي
عن خدام العقيلة العذراء"
غاص الطفل في ملامح جدّته طويلاً وكأنّه يتقرّى علامات الوجع المسفوح على محيّاها ويحاول سبر أغوارها. أيقن بفطرته أنّ سؤاله قد فتح جرحًا قديمًا لمّا تزل الأحداث تغذّيه كلّ يوم لتمنعه من الالتئام. فكيف لجرح أن يتصالح مع السكّين وما فتئت تزيده عمقاً واتساعاً؟
وبمحاولة بريئة حاول أن يلملم دموع جدّته الغارقة في ذكرياتها. كانت يداه الطريّتان كفيلتين بإعادتها إلى الواقع بعد استغراقها الطويل في تأمّلاتها. اقترب الطفل منها وحضنها بكلتا يديه هامسًا لها: "أعدك يا جدّتي بأن لا أسأل ثانية عمّا يكدّر خاطرك، فدموعك غالية وعزيزة عليّ".
- لا، يا حبيبي، أجابت الجدّة، عليك بالسؤال دائماً لأنّه مفتاح اليقين، وينمّ عن الذكاء والاهتمام، دائمًا يا ستّي الأسئلة أكثر من الأجوبة. خلق الإنسان ليسأل عن كلّ ما يقضّ مضجعه، الأسئلة الكبرى تولّد تأملات من مستواها، ولن يصل إلى الإجابات إلا من كان له باع طويل بإعمال فكره، منقّباً، باحثاً، وهذا يحتاج إلى طول أناة، وسعة حلم، وصبر عظيم. وأردفت قائلة:
- نحن يا ستّي من جبل الكرمل، من أرض مقدّسة، كنّا نعيش في "حديقة الله"، تخالها قطعاً من الجنان منثورةً على امتداد الأفق الواسع. كانت سهول عكا تتراءى لنا، وزرقة البحر تتلألأ وقد انعكست عليها أشعّة الشمس لتزيدها بهاء، وهناك مرج إبن عامر يمتدّ جنوباً وشرقاً، كنّا كالعقاب الذي يجلس في القمّة، مشرفين على ما تحتنا من سهول وقرى، الاخضرار في كلّ مكان، وأشجار السنديان والبلوط والصنوبر برائحتها الزكيّة تدلّ العابرين على مواطن الأنس والجمال، كنّا نسمع خطواتهم من بعيد فنتهيّأ لاستقبالهم بنثر الورود والعتابا والميجانا، كانت السهرات عامرةً قرب الموقد في فصل الشتاء، نستشعر الدفء الذي يسري إلى قلوبنا قبل دفء الموقد. ضيافتنا نقدّمها ممّا تجود به الأرض علينا: من تين مجفّف، وزبيب، ومغليّ الزّوفة والبابونج وأزرار الورد. واجتماعاتنا عابقة بالأنس. لم يكن الهمّ ليعرف طريقه إلينا، بل كان يضيع في المنعطفات ويتوه في المنحدرات قبل أن ينجح، بمؤازرة الموت، بخطف روح أحد من الأحبّة.
تنهّدت الجدّة قبل أن تكمل:
- الموت يا ستّي كان نادراً، والفقد أشدّ صعوبة، وكان الفقيد فقيد الضيعة كلّها، فالسواد يلفّ الجميع، والأبيض محرّم على كلّ من يمتلك قلباً مرهفاً وجميعنا كذلك. غالباً ما كانت تؤجّل الأعراس سنوات مراعاة لخاطر ذوي الفقيد، حتى طلاء الحيطان بالجصّ والكلس كان مشمولاً بلائحة الممنوعات التي يلتزم بها من دون طلب من أحد، إلى أن يبادر ذوو الفقيد بالتمنّي على الناس العودة إلى ممارسة حياتهم الطبيعيّة شاكرين مواساتهم.
توقّفت الجدّة للحظات وغاصت في ذكرياتها، كانت ملمّةً بكلّ التفاصيل وكأنّها حدثت بالأمس. تحفظ لليوم أسماء أهل القرية وأسماء أولادهم وأحفادهم وتشير إلى بعضهم بلقبه الذي يغدو ملازمًا له نتيجة حادثة أو طرفة مرّ بها، تضحك حيناً ولكنّها لا تلبث أن تقطّب حاجبيها حيناً آخر عندما تدرك أنّها قريبة من "الفردوس المفقود"، ولا تفصلها عنه سوى بضعة كيلومترات هي المسافة من مخيّم جنين إلى الكرمل شمالاً.
عدّلت الجدّة جلستها وكانت تحمل في يدها سبحتها التي لا تفارقها، وتتوكّأ على عصا باليد الأخرى مسندةً ظهرها إلى الجدار، وأردفت قائلة وهي تهزّ رأسها:
- إيه ياستّي، كان الموت ضيفًا ثقيلاً ونادراً ما يزورنا، فللميّت قيمة وحرمة والعزاء يمتدّ إلى كلّ بيت، كنّا نشارك في إعداد الولائم التي تمتدّ لأيّام حيث كانت تزحف القرى القريبة والبعيدة للتعزية. أمّا اليوم فإنّنا لا ننتهي من تشييع شهيد حتى يرتقي آخر. صرنا من كثرة المصائب والحوادث التي غذّتها معتادين ولا "تدمع لنا مقل".
بقيت حكايا الجدّة المسوّرة بألف غصّة محفورةً في رأس الطفل الصغير مكوّنةً مادّة التفكير الأولى التي يجب أن يتعلّمها، مغذّيةً أفكاره وخياله بكثير من القصص عن الأبطال الذين مرّوا بأرض جنين واتّخذوها مركزاً لانطلاق أعمالهم القتاليّة في مواجهة الإنكليز، ومن بعدهم شذّاذ الآفاق من الصهاينة واليهود. استذكر الطفل كلام جدّته حول المناضل عزّ الدين القسّام الذي وجد في جنين حاضنة لمقاومته في وجه الإنكليز والذي ما لبث أن سلّم الرّاية إلى "فرحان السّعدي". هذه القصص كانت ترافق الطفل إلى وسادته وهناك كان يبني منها عالمه الخاصّ، يحاكيها ويمثّل فيها دور البطل المنقذ الذي يدسّ سلاحه تحت ثيابه كما تفعل جدّته بمفتاح العودة. أدرك منذ تفتّح وعيه أنّ طريق العودة لا يدشّن إلا بالجهاد. كان يحلم بالعودة إلى الكرمل متتبّعًا خريطة خياله الجامح الذي غذّته بها حكايا جدّته.
ذات صباح ربيعي، وعلى غير عادته في مثل هذا الوقت من السنة، كان الطقس ماطراً، أصرّ الطفل ذو السنوات التسع على الخروج كدأبه في لملمة ما تيسّر له من الطلقات الفارغة، فهي سبيله الوحيد لتمضية الوقت وللعب دور "الطفل والمحتلّ"، وإذ بهدير الدبابات يسمع من بعيد، مطلقةً قذائفها المدفعيّة تمهيداً لاقتحام المخيّم، ناشرة الموت والدمار في كل مكان، هرب الطفل من كثافة النيران محاولاً الالتجاء إلى أحضان جدّته، باحثاً عن الأمان الذي تعوّده منها ليجدها تلفظ أنفاسها الأخيرة نتيجة الشظايا التي استقرّت لجهة القلب بفعل القصف العشوائي للمخيم. رمى بنفسه على جسدها، حضنها، بكى كما لم يبك من قبل. موت الجدّة يعني له موت الحلم، موت الوطن، موت الذكريات والقصص الملحميّة. "قومي يا ستّي، لا تموتي، بعد بكير". كلمات صدّرها قلب طفل أصيب في الصميم ولكنّها كانت عاجزةً عن ضخّ الحياة في جسد الجدّة النازف. ودّعها بكثير من الدموع، استأذنها في الاحتفاظ بالمفتاح بعد أن وعدها بالمحافظة عليه، وغادر المخيّم على عجل قبل أن تستشرس القوات الإسرائيليّة، وتسوي المخيّم بالأرض، وتهدمه على رؤوس ساكنيه.
كانت الأخبار تصل تباعاً، المخيّم "الشهيد" يلفظ أنفاسه الأخيرة، فلا ماء ولا دواء ولا طعام، وحده الرصاص كان سيّد الموقف. رائحة الموت والدمار تثقل الهواء لكثافتها، تتقدّم الجرافات، التي يسبقها قصف مدفعيّ كثيف، لتجرف البيوت بمن فيها بعد أن سوّيت بالأرض. الذخيرة بدأت تنفد من المقاومين، استغلّوها حتى الطلقة الأخيرة، فلا استسلام للعدوّ، إمّا النصر أو الشهادة.
لقد اعتمدوا سياسة الإيقاع بالعدوّ عبر استدراجه لكمائن محكمة نالت من هيبته، وجعلته يتلوّى ألمًا ممّا دفعه إلى رفع منسوب الإجرام، اشتدّت الغارات على المخيّم المحاصر والمعزول عن العالم في ظل صمت عالميّ أجوف. نسي العالم ضميره معلّقًا في كهف الظلمات، وتناسى ما يجري على أرض المخيّم، في إشارة واضحة إلى كسر إرادته والنيل من عزيمته.
ولكن هيهات أن يفتّ هذا الصمت الدولي، ترافقه رعونة ووحشيّة العدوّ، من عزيمة المجاهدين الذين أعلنوها حرباً مفتوحة على كلّ الجبهات لتخفيف الضغط عن المخيّم. وحدهم أبطال "جنين" يقاومون بالسلاح لا بالحجر، وهذا تحدّ واضح من قبل جيل حرم العيش كما باقي الناس. حرم من التمتّع بالطبيعة، من ضوء الشمس، كان يتوق للانعتاق من القيود التي تكبّله روحاً وجسداً، ألعابه ما تيسّر من أعواد خشبيّة يصنع منها بندقيّة لقتال العدوّ، وهوايته جمع الرصاص المتناثر بكثرة في أزقّة المخيّم التي لا تتّسع لمرور سيّارة فيها، جيل آمن بأنّ من يصفعك على خدّك الأيمن، لا تدر له خدّك الأيسر بل هشّم وجهه وأذقه مرارة الخوف وعدم الأمان واشغله بنفسه لتأمن شرّه.
كان الطفل متسمّراً أمام شاشة التلفاز، يتابع لحظة بلحظة أخبار المخيّم، وطيف جدّته المسجّاة على الأرض غارقةً بدمها لا يفارق تفكيره. وعلى عادة جدّته، حمل المفتاح، أدناه من فمه، قبّله، شمّه، ثمّ دسّه في ثيابه. كان يشمّ فيه رائحة جدّته، رائحة الأرض في الكرمل والذكريات العابقة، رائحة الحريّة.
تتوالى أخبار المخيّم النازف، الجثث متفحّمة في الشوارع تسحقها جنازير الدبابات والآليّات العسكريّة، إعدامات ميدانيّة طاولت العشرات، ومثلهم ما زالوا تحت أنقاض منازلهم، رجل امرأة بحذائها النسوي في زقاق والرجل الأخرى على بعد عدّة أمتار. هنا، أشلاء متفحّمة غابت عنها الملامح فلا تقدر على تمييز جنسها. وهناك يد وأصابع تعود لطفل صغير غضًّ طريّ لم تشفع له براءته أمام حقد العدوّ. كلّ من بقي في المخيّم كان مشروع شهيد ولم ينج منهم إلا القليل.
انتهت العمليّة العسكريّة بعد أن تكبّد العدو خسائر كبيرة في صفوف وحداته الخاصّة، وبعد أن سوّى المخيّم بالأرض وهدّمه على رؤوس قاطنيه ظنًّا منه أنّه بذلك يقضي على "عشّ الدبابير" الذي عانى كثيراً من لسعاته الموجعة. وقبل انسحابه عمد إلى سحب عشرات الجثث لشهداء قضوا ليدفنها في مقابر جماعيّة ليخفّف من "هول الصدمة" لدى المجتمع الدولي بعد دخول المنظمات التابعة له إلى المخيّم المنكوب. لقد ظنّ العدوّ أنّه كسر شوكة المقاومة، ولم يدر أنّه شكّل بهمجيّته معينًا ثرياً غذّى به ذاكرة جيل فتيّ نشأ على التحدي والعنفوان مقسماً على الأخذ بالثأر ممّن حرمه براءة الطفولة ومتعة الحياة.
عاد الطفل إلى المخيّم الذي تغيّرت معالمه واختفت تفاصيله وكأنّ زلزالاً على مقياس التوحّش اللا بشريّ قد ضربه، فلا الساحة بساعتها الكبيرة استطاعت التأشير للوقت على وقع القذائف والطائرات، ولا مئذنة الجامع بقيت لتؤذّن لصلاة الفجر. وما حاجتهم للساعة والمئذنة عندما تؤذّن البنادق على وجيب القلوب النابضة عكس عقارب الزمن العربيّ العبريّ المصاب بالخنوع؟
تجمّدت الدمعة في عيني الطفل وهو يشاهد هذا المنظر المرعب الذي رافقه في أحلامه، كان صامتًا هادئاً و"الأفكار فيه تجول"، ابتلع حزنه وغضبه، أودعهما صدره الصغير الكبير، تنهّد عميقاً، وضع يده على صدره يتحسّس مفتاح جدّته وكأنّه يستحضرها، تمتم هنيهةً ومضى.
أنّى لطفل العيش بسلام ووالده مصاب ومعتقل، وعمّه مطارد، وخالاه شهيدان وولدا خالته أيضًا وأخيرًا جدّته. طفل بمثل عمره يبكي إذا فكّت عرى قميصه ولم يستطع لها رتقًا، يبكي إذا ضاع قلمه أو إذا لم يعجبه لون قميص من اختيار أمّه، ويصاب بالهستيريا إذا لم يأخذه والده، بسيارته الفارهة، إلى مدينة الألعاب أو "المول" للتسوّق على مزاجه، ويقضّ مضجع أهله إذا لم يحصل على آخر إصدار من الأجهزة الخلوية أو الألعاب التكنولوجيّة. وحدهم أطفال فلسطين تخلّوا عن رفاهيّتهم المعدومة أصلاً فلا وجود لها إلا في مخيّلتهم، لقد صهرتهم التجارب فصاروا رجالاً قبل أن يتفتّح وعي الآخرين.
أيقن الطفل باكراً أن لا سبيل للخروج من النفق المظلم سوى المقاومة، كيف لا، وهو سليل أسرة مقاومة لها تاريخ ضارب في الجذور. فانكبّ على دراسته متّخذاً منها سلاحاً مستقبليّاً يقاوم بها عدوّه. تنبّه إلى وجوب مقاومة العدوّ بأساليب متطوّرة وغير تقليديّة فكان أن برع في مجال الالكترونيات والكهربائيّات ونظم المعلومات فصار يلقّب بالـ"سيبرانيّ".
كبر الطفل وكبرت أحلامه، احتفظ بـ"حقده" الجميل، صار وسيماً،الكلّ ينتظر أن يزفّه عريسًا لبيته المستقبلي، شاب كفلقة القمر تتمنّى كل فتاة أن يكون فارس أحلامها، ولكنّ حساباته كانت مختلفة تمامًا، استيقظ فيه الطفل الذي اختزن في ذاكرته كلّ تفاصيل المجزرة الوحشيّة، هدير الدبابات بجنازيرها التي تصمّ الآذان، دويّ المدافع وأصوات الغارات التي لا تنتهي، أصوات الشهداء بضحكاتهم التي نسوها على وجوههم، معاناة الأسرى الطويلة وكفاحهم لانتزاع الحريّة. لقد سعى لإعادة النّسغ لشريان الحياة للخلاص من يباس اللحظة الراهنة.
اختزن الشاب كلّ بأسه وإيمانه بصمت عجز الكثيرون عن فهم كنهه، وقرّر أن يتقن لغةً يفهمها العدوّ جيّداً. إنّها لغة الرصاص! كان يقلّب الرصاصات بين كفّيه، يشحنها حقدًا وغضبًا داخليًّا مع الاحتفاظ بابتسامته المعهودة، كان متصالحاً مع نفسه ومع الآخرين، فالغضب يجب أن يكون مجلجلاً في وجه العدوّ لا غيره. تمرّن غير مرّة على إصابة الأهداف يسعفه في ذلك ما يتمتّع به من هدوء وقدرة على التحكّم بانفعالاته وكأنّه مبرمج ذاتيّاً على إخفاء مشاعره التي تضجّ بها نفسه مع المحافظة على كاريزما خاصّة تظهر للآخرين من خلال شكله الخارجيّ.
عشرون سنة تتابعت على جثّة المخيّم المقاوم، نفخ فيها أبناؤه النجباء من أرواحهم فعاد حيًّا، يكسوه الزّغب فينمو من جديد بجناحين ويحلّق عالياً كطائر الفينيق الذي يخرج من تحت الرماد. إنّه زمن الانبعاث، زمن الانعتاق من كلّ ما يكبّل "الحمأ المسنون" وما يضغط على الروح.آن لعشرين سنة من الكبت والصمت أن تخلع هدوءها وتقيّتها، أن تفجّر نار حقدها وتنفث لهبها المقدّس في وجه العدوّ.
يجلس الشاب على مائدة الإفطار، وعلى عادته، يرخي الستارة على لواعج نفسه ليضيء وجهه بشراً، هذه ليلته الأخيرة بين أهله وخلانه، يحاول الامتلاء من وجوههم، الاستغراق في تعابيرهم، الأنس بحركاتهم، وسكناتهم وكأنّه يودّعهم فردًا فردًا، محافظًا على رباطة جأشه، انسحب بهدوء، استأذنهم بالمغادرة ومضى.
على أبواب المخيّم، تلمّس جدرانه، جال بنظره على بيوتاته وأزقّته، أسند ظهره إلى أحد الجدران، أخرج "المفتاح"، أمسكه بكلتا يديه، قبّله ثمّ أعاده ليستقرّ بجوار قلبه وانطلق في رحلته الأخيرة متسلّحًا بقهر عاشه تسعاً وعشرين سنة. أراد أن يترك بصمته الفريدة والمميّزة بتنفيذ عمليّة توجع العدوّ وتظهره على حقيقته "تنيناً من ورق". خطّط بدقّة، وسار خطوات ثابتةً نحو هدفه وكأنّ الأرض طويت له ليصل إلى قلب "المدينة التي لا تنام". صخب ومجون وسهر وليال ملاح وكأنّك على كوكب آخر. مدينة من الطراز الأوروبيّ تضجّ بكلّ ألوان الحداثة على أرض مغتصبة. ترى بماذا يتميّز هؤلاء المستوطنون لينعموا بكلّ هذا الرخاء وعلى الجانب الآخر صورة مناقضة تمامًا له؟ أوليس من حقّ الفلسطيني العيش بأمان وسلام؟ أن تكون له دار كدار "سيدي" وأرض فسيحة لا تشعرك بضيق الأفق ولا بمحدوديّة التفكير اللامنطقي؟ أسئلة كثيرة اصطخبت في رأس الشاب، ولكنّه غلّق دونها الأبواب، هذه المرّة لن يسمع كلام جدّته ولن تتناسل الأسئلة تباعاً "زمن الأسئلة الكبرى يا ستّي انتهى، وصار وقت الأجوبة الأصعب".
جلس عشر دقائق على مقعد متأمّلاً، مراقباً، لم تكن ملامحه لتشي بما يخبّئ، تمتّع بطلّة بهيّة، ياقة مرتّبة، هدوء وكثير من التركيز. اختار أهدافه بدقّة وأعلن اللحظة الحاسمة. وقف بثبات، سحب مسدّسه وأطلق ماتيسّر له من رصاصات أدّها على وقع سورة "الرّعد"، صابّاً جام غضبه، مستحضرًا دموع جدّته ونكبة مخيّمه في شريط من الأحداث طويل. وسط الهرج والمرج الذي سبّبه، انسحب قليلاً، جلس لدقائق على الكرسي مراقبًا الوضع، مقيّمًا الأداء، ثمّ خرج.
انتشر خبر العمليّة كالنار في الهشيم، آلاف الجنود على الأرض، يبحثون، ينقّبون عنه، كان "مفرداً بصيغة الجمع". أمّا هو فكان يتمشّى على أرض فلسطين، يغمره الرضا، يتنشّق الهواء العليل، ويسير مطمئنًّا في مجال مفتوح وأفق واسع حرم منه منذ نعومة أظفاره عندما فتح عينيه وأطلق صرخته الأولى في المخيّم على خبر توقيع اتفاقيّة "أوسلو". ضحك في قرارة نفسه وتابع سيره كيلومترات عدّة، لقد دبّ الرّعب في قلوب الصهاينة فعميت عيونهم وقلوبهم وزاد تخبّطهم كلّما طال أمد البحث عن الشاب ولم يجدوه. ساعات امتدّت حتى الصباح، والمنفّذ مجهول.
ها هي يافا تتراءى له وتدعوه ليكون ضيفها، تحضنه، تشمّه، تشكره على صنيعه، ولسان حالها يقول: "متى سنتخلّص من نير الاحتلال؟". قبل الشاب دعوتها وتوجّه إلى بيت الله يؤدّي ورده وصلاته، ارتاح قليلاً، ناجى ربّه وتضرّع إليه، إنّها الجمعة الأولى من شهر رمضان، يوم مبارك وشهر كريم، ضجّت نفسه، لم يشأ البقاء جالساً أراد التخلّص من ثقل الطّين ليحلّق بروحه نحو عزّ القدس الأرحب، عقد نيّة صومه وخرج.
يا لها من جرأة! "وكر الدّبابير" الذي جهد العدوّ في محاولات طمسه ما زال يخرّج آلاف الفدائيين الذين يتحدّون كلّ الإجراءات والتقنيات ليصلوا إلى قلبه المنهار عند أوّل لسعة. أراد الشاب اغتنام الفرصة واصطياد المزيد من الفئران الخائفة إلا أنّه صادف دوريّة للعدوّ، أيقن أنّ لحظة الشهادة قد اقتربت، تشهّد، سمح لمسدّسه أن يرعد في وجههم، حزم بطولته لترافقه ذكراً طيّباً، وارتقى شهيداً.