رحلة في تاريخ باكستان
لم يكن محمد علي جناح يرغب في البداية في خلق باكستان منفصلة عن بقية الهند بل تصور أن باكستان والهند تشكلان اتحاداً هندياً.
ترجمة وإعداد: المبارك يحيى صالح |
يعد الدكتور أحمد فاروقي محللاً في شؤون الدفاع والاقتصاد وله اطلاع واسع وخبره جيدة في التاريخ، عمل أستاذاً في جامعات كراتشي وكاليفورنيا. ومنذ عام 1999 قدم مراجعات لكتب عن باكستان منذ استقلالها عام 1947 حيث كانت هذه الدولة الناشئة موضوعاً متجدداً لمؤرخين وعلماء سياسة واقتصاديين وكتاب وصحافيين. من الأعمال المنشوره لأحمد فاروقي كتاب (إعادة نظر في الأمن القومي لباكستان) الصادر عام 2020.
يرى فاروقي فى مراجعته لكتاب "الحيوات التسع في تاريخ باكستان"(2020) لمؤلفه ديكلان والش ظاهرتين تميزان ثقافة هذا البلد هما الحنين الى الماضي والإنكار ولا يمكنهما حجب أحوال القسوة والشراسة والرعب السافرة في باكستان حيث العدالة أداة بيد رأس المال ويمكن للأغنياء وذوي النفوذ اللجوء إلى السرقة والقتل والتهرب من سداد الضرائب من دون التعرض للقصاص. هذا بالإضافة إلى جرائم مروعة بحق النساء والفقراء والأقليات الدينية. ولا تجد أخبار تلك الجرائم طريقاً الى الصحافة إلا عبر سطور قليلة. لكن الدولة تذكّر الناس كل يوم أن البلاد محاطة بأعداء وهكذا تشيع نظريات المؤامرة والمشتبهون المعتادون هم الهند و"إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية.
خلال عقود تشكلت صلة قوية بين باكستان والصين وبعد أحداث ساحة ميدان تيانانمين في بكين كان الديكتاتور العسكري لباكستان جنرال ضياء الحق من بين قلة من قادة العالم الذين أظهروا دعماً لبكين. كذلك أطلق ضياء الحق لنفسه العنان في الوقوف مع ملك الأردن الرحل حسين ضد الفلسطينيين في عملية تعرف باسم "أيلول الأسود".
ولاحظ أحمد فاروقي رؤية ديكلان والش الى محمد على جناح الذي رفض بعد استقلال باكستان أن يبيع منزله الفخم في بومباي آملاً العودة المنتظمة الى الهند بل وربما تمضية شتاءه هناك. لكن رؤيته لديموقراطية مدنية ماتت معه بعد ثلاثة عشر شهراً حكم فيها باكستان.
قام فاروقي بمراجعة لإصدارات الجنرال أسعد دوراني وأجرى حواراً معه. دوراني بعد اعتزاله العمل مع وكالة الأمن الباكستانية عمل سفيراً لباكستان في المانيا ثم في السعودية وألف كتاب بعنوان "باكستان في مهب الريح: الإبحار في المياه المضطربة" (2018)، وشارك في تأليف كتاب "يوميات جاسوس" مع رئيس وكالة الاستخبارات الهندية. وكلا الكتابين يضمان معرفة عميقة بمجال جهاز الأمن القومي الباكستاني.
يعد الجنرال دوراني عليماً بكل القائمين في السلطة ومن هم خارجها في التاريخ الباكستاني حيث التحق بالجيش بعد تولي الجنرال أيوب القياده كأول قائد له.
يقول فاروقي: أتيحت لي فرصة الحوار مع الجنرال دوراني حول قضايا واجهتها باكستان في إدارة أمنها القومي منذ حصولها على الاستقلال عام 1947، وسياسات الأمن القومي تنطوي على موضوعين هما الهند وكشمير. ويضيف: توجهت اليه بسؤال الى أي مدى يعود التوتر المزمن لباكستان مع الهند لخطأ من الهند أو لخطأ من باكستان؟ ورد الجنرال دوراني قائلاً إن توجيه اللوم أو اتهام طرف آخر بخلق مشاكلك لا يفيد في فهم المشكلة. وأوضح أن التقسيم البريطاني لشبه القارة الهندية عام 1947 أطلق العنان لحراك سياسي أدى، وعلى نحو حتمي، الى احتكاك وامتعاض شديدين. وهكذا صارت كشمير تجلياً قوياً لمنافسة بين قريبين.
وذلك دعا فاروقي أن يسأل الجنرال دوراني عما أنجزته باكستان في ظل الحكم العسكرى للمارشال أيوب خان حينما جرى إرسال محاربين باسم مقاتلي الحرية الى كشمير عام. 1965، فكان رده أن الهجوم كان سيء التدبير ومتعجل الإعداد وغير جاد في الأداء بما أضعف من موقف أيوب.
جاء في كتاب سيرة حياة الجنرال المتقاعد محمد أحمد سرداً موضوعياً عن افتقار الجيش الباكستاني لقوة الأداء في حرب 1965. ثم حظر الجيش نشر الكتاب، وقال الجنرال محمد أحمد معلقاً على الحدث: "هل لا يريد الجيش التعلم من تجاربه؟ إن المؤسسات تعاني من جنون الارتياب والعسكريون كارهزن للإقرار بالقصور خاصة فى مسائل القيادة".
قال دوراني: "لماذا يحكم العسكريون باكستان لأطول فتره من تاريخها.. إن قوة الجيوش جرى احترامها تاريخياً أو التخوف منها في مناطق كثيرة شملت الآن باكستان التي قام فيها العسكريون بدور حاسم فى تعزيز العلاقة مع الولايات المتحدة التي صارت تحالفاً عسكرياً ساعد على معالجة اختلال التوازن ضد الهند. يضاف الى ذلك حالة عجز القيادة المدنية على حكم البلاد. ثم تساءل قائلاً: لماذا لم يتدخل العسكريون الهنود قط في الشأن السياسي؟ وأجاب: إن الإداره المدنية فة الهند تعد قوية جداً حيث الهند دولة متنوعة للغاية يصعب على العسكريين إخضاعها بسهولة. وجواهر لال نهرو رئيس الوزراء كان من الوجهة الأيديولوجية رجلاً اشتراكياً يميل لحل المنازعات بالطرق السلمية واستمر في قمة السلطة من عام1947 حتى عام 1964، بما سمح له أن يوطد من خضوع العسكريين للدولة. وربما كان بمقدور محمد علي جناح أن يؤدي نفس الدور لو لم يرحل عام 1948 بعد سنة من تقسيم شبه القارة الهندية.
كيف أمكن لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن التخفي في مكان عادي على مسافة ميل من الأكاديمية العسكرية في باكستان من دون أن يكتشف؟
أجاب الجنرال دوراني أنه دائماً ما شعر بعلم باكستان في تواجد أسامة بن لادن داخل أراضيها فى مرحلة ما، لكنها لم تشأ طرده. بل كانت أكثر سعادة أن تدع أميركا تفعل ذلك. وقد اصطنعت باكستان جهلها بتواجد إبن لادن لأسباب سياسية.
وذلك يؤكد ما قاله ذات مرة الملحق العسكري الباكستاني في الرياض للجنرال دوراني إن هذا الإرهابي كان يعد بطلاً في نظر الملايين من الباكستانيين.
وسأل فاروقي دوراني فيما لو كان تواجد أسلحة نووية لدى الهند وباكستان قد أدى الى تدني احتمال وقوع حرب في شبه القارة الهندية، ووافقه على ذلك، وقال إن حرباً تقليدية كبيرة في ظل تواجد نووي صار أمراً متدني الاحتمال الى حد بعيد. وكان الحوار صريحاً وكاشفاً وأبرز الكثير من التحديات التي تواجه باكستان ويمكن التغلب عليها بقيادة حكيمة.
ضم كتاب سيرة حمداني فصلاً عن حياة محمد علي جناح حيث عمل محامياً ثم تحول الى سياسي، داعياً منذ وقت مبكر الى وحدة الهندوس والمسلمين، لكنه اتجه فيما بعد الى الاعتقاد بأن الطرفين يمثلان شعبين. وما أن أدرك أن المسلمين الهنود سيخضعون لأغلبية هندوسية دائمة سعى لدعم موقفه لدى الساسة البريطانيين من حزب المحافظين ووجد حليفاً في شخص ونستون تشرشل الذى توافق مع فكرة وجود دولة باكستان، وتحادثا مطولاً في ضيعة تشرشل.
لاحظ حمداني أن جناح حتى ذلك الحين لم يرغب في خلق باكستان منفصلة عن بقية الهند بل تصور أن باكستان والهند تشكلان اتحاداً هندياً. كذلك أشار حمداني الى أن جناح لم يتبنَّ ولو لمرة واحدة فكرة الدولة الدينية لباكستان بل عارض دعاوى حركة الخلافة خلال فترة تبعية الهند لبريطانيا، تلك الحركة التى سعت لإعادة الخلافة العثمانية إلى السلطة في تركيا. والحقيقة أن جناح كان معجباً بالزعيم العلماني كمال اتاتورك الذي ظهر بعد زوال العثمانيين.
وبتأمل الأحداث الصاخبة التي وقعت منذ بزوغ دولة باكستان، قال حمداني: "أخبر جناح طبيبه أن باكستان كانت أكبر حماقة في حياته وأنه أراد الذهاب الى دلهي كي يقول لجواهر لال نهرو أن يعود صديقاً".
صار الدين جزءاً من اللغة المتداولة الثابتة بل إن العلماني ذو الفقار علي بوتو الاشتراكي المتشدد تعاون مع حزب "الجامعة الإسلامية" المعارض لتأسيس دولة باكستان وأعلن اعتبار الطائفة الأحمدية جماعة غير إسلامية. وجرى تطوير السلاح النووي في باكستان لمنع غزو هندي، وبعد سنوات تم اللجوء الى قوانين تكفيرية لتحريض الحشود الغوغائية ضد أي شخص يشتبه انتهاكه لمبادىء العقيده الأساسية.
إن كارثة الهزيمة العسكرية التي حلّت بالجيش الباكستاني والتي أدت الى الإطاحه بحكومة نواز شريف الثانية في تشرين الأول / أكتوبر من عام 1999، تعد مهمة من حيث عواقبها السياسية. وعن ذلك لفت أحمد فاروقي الانتباه الى ما ذكرته الكاتبة نسيم زهراء عن تلك الأحداث فى كتابها الصادر عام 2018 تحت عنوان "من كارجيل الى الانقلاب". وجاء فيه أن الجنرال بيرويز مشرف قائد الجيش الباكستاني طار مع رئيس الوزراء في أيار / مايو إلى مواقع الأسوار الدفاعية بالقرب من كارجيل. وردت القوات الهندية على هجوم الجيش الباكتاني بإطلاق 2500 قذيفة وقنبلة وصاروخ على المواقع الباكستانية، مما أجبر الباكستانيين على إعادة نشر مدفعيتهم بعد نفاد ذخيرتهم في يومين، وليس بحسب تقديراتهم السابقة. وهنا فقد مدير العمليات العسكرية الباكستاني أعصابه وأخذ يتوجه الى الله راجياً العفو ومعترفاً بارتكابه خطأ وطلب من الجميع الصلاة.
مرة أخرى تأكدت للجيش مقولة مارشال الجو أصغر خان عزيز أن باكستان لا تتعلم أي شيء من التاريخ. وجاء في كتاب زهراء قول الجنرال شاهد عزيز إن الخطة العسكرية لم تكن سليمة وقامت على فرضيات خاطئة وبدأت بتحضيرات قليلة ومن دون اعتبار للتوجهات الإقليمية والدولية ومن ثم كان محكوماً عليها بالفشل.
ذكر كتاب نديم الحق "كيف تتحول باكستان الى نمر آسيوي بحلول 2050"، أنه في مطلع عام 1960 صارت باكستان مؤهلة أن تصبح نمراً آسيوياً حيث كانت في مرحلة صعود، فلماذا أخفق الصاروخ على منصة الانطلاق؟
كانت الحرب مع الهند أحد الأسباب بالإضافة الى تزايد التوزيع غير العادل للثروة. وهكذا عمل جيش ضعيف المعنويات على وضع زعيم شعبي في موقع القيادة حيث انشغل في برنامج ضخم للتأميم خرب الاقتصاد وأعطى الجيش المبرر لتولي السلطة مرة أخرى. وبعيد الغزو السوفياتي لأفغانستان سعت حركة المتطرفين في باكستان الى خلق دولة قوية عبر فرض نظام متشدد، مما أسفر عن إرهاب مرير أضر بنوعية الحياة وأفزع الاستثمارات الاجنبية والسياحية. في ذات الوقت تحولت الدول المتباطئة خلف باكستان الى نمور آسيوية أولها كوريا وتايوان ثم هونغ كونغ وسنغافورة وأخيراً الصين.
كان العامل الأساسي الذي ميّز الديكتاتوريات الباكستانية عن نظيرتها الآسيوية، فهذه الدول الآسيوية لم تدخل في حروب مع جيرانها خلال تطورها ووجدت الأفضل أن تتعايش وتتاجر معهم.
ترجمة وإعداد: المبارك يحى فضل المولى صالح