رحلة عابرة في رأس يوسف إدريس... من كان هذا "المجنون"؟
يوسف إدريس... من كان هذا "المجنون" الذي لُقّب بــ "تشيخوف العرب"؟
منذ بضع سنوات التقيتُ مصادفةً طبيبةً كانت تتلقّى تدريباً في مستشفى العباسية للصحة النفسية بالعاصمة المصرية أواخر سبعينيات القرن العشرين... حينها زار كاتب القصة العربي الأشهر، يوسف إدريس، المستشفى لطلب العلاج والدعم النفسي، لكن تفاصيل حالته ظلت رهن الغيب احتراماً لخصوصيات المريض، ورفضت الطبيبة بالطبع سرد تفاصيل ما عاناه إدريس نفسياً على وجه التحديد... لكن رحلتنا في عقله عبر تصريحاته ومواقفه ومعاركه لا تزال ممكنة، وبها يمكننا أن نتبّأ بمن كان هذا "المجنون"، الذي يلقبّونه بـ "تشيخوف العرب".
اليتيم في حضور أبويه
ربما مع تلمُّس خطاه وما تضمّه ذاته من ألم وعبقرية وآراء حادة يمكننا أن نتتبّع كيف كان هذا الرجل الذي حكى لمجلة "المجلة" في عددها رقم 169 الصادر عام 1971 أن "السعادة في حياته كانت قليلة": "لقد كانت طفولتي تعسة، عشتُ بلا طفولة، نشأتُ في بيت جدتي الفقيرة في قرية البيروم بمحافظة الشرقية، وكان جميع أهل البيت من الكبار، وكنتُ الطفل الوحيد، ولم يُسمح لي أن أزاول طفولتي، لأنهم كانوا يعاملونني على أنني كبير مثلهم، مسؤول، والعقاب ينتظره لو أخلّ بمسؤوليته".
عاش إدريس، الذي تحلّ ذكرى مولده رقم 96، طفولته يتيماً في حضور أبويه، وصار مسؤولاً عن أخيه الأصغر وهو في سن الثانية عشرة، وكانت أحلام اليقظة مَهرَبه الأمثل من محيطه الثقيل على طفولته وهشاشته، التي كان مطلوباً منها أن تكون قوية بالقدر اللازم.
كان إدريس الأولَ على أقرانه في المرحلة الابتدائية من الدراسة... كان مستمعاً للحكايات من حوله كأنه كاميرا مراقبة... كل ذلك كان ينذر بتفوّق مبكر لموهبة متفجّرة بالحزن والغضب، ليكون بعد سنوات، وهو يدرس الطب، أحد أبناء ما سمّي لاحقاً "الواقعية الجديدة" في الأدب المصري، والتي ضمّت إلى جواره صلاح حافظ وعبد الرحمن الشرقاوي وعبد الرحمن الخميسي وأحمد رشدي صالح ومصطفى محمود.
وداعاً للاستقرار... أهلاً بالقلق
الدارس لعلم طويل السنوات، كالطب، يجدر به أن يغرق فيه حاضراً ومستقبلاً، لكن الذي جرى لإدريس أنه علّق كل شيء في حياته بأمل كتابة القصة، حتى وهو منضمّ إلى تنظيم سري تشرّب خلاله النظر إلى العالم بصورة أخرى غير التي اعتادها، فضلاً عن تجربة الاعتقال التي جرت له في عام 1954 في بدايات عصر جمال عبد الناصر، والتي بالتأكيد زادت كتلة الغضب بداخله وفجّر معظمها في أبطاله شظايا من الإنسانية المعذبة عبر قصص أنتج منها إدريس نحو 800 قصة على مدار حياته.
يقول عبد العظيم الخضراوي، وهو اختصاصي في الطب النفسي والعصبي، لـ "الميادين الثقافية" إنّ: "تغيير خط سير المستقبل المهني من دراسة كالطب إلى فن من الفنون مثلاً يحتاج إلى شخصية غير تقليدية لديها القدرة على كسر المعتاد والمتوقّع واختيار الصعب، لا المريح".
وأكد أنّ أيّ شيء غير تقليدي "يحمل في داخله بذور الخلل، لأنّ صاحبه في نظر المنطق والمجموع لا يفكّر بنهج سليم نفسياً"، لافتاً إلى أن الخلل عموماً إما يخرج في شكل إبداع أو في شكل أمراض نفسية، فالأدباء مثلاً ينتشر بينهم مرض اضطراب ثنائي القطب، كما أن إبداعهم مقترن بنوبات الهوس والاكتئاب"، بحسب قوله.
يبدو لنا إذاً من مساره المنزعج والمزعج أن إدريس القلِق اختار لنفسه ما يلائمها من مغامرة... فهو رجل ضد الاستقرار... ضد الرائج المعتاد... صاحب معارك... لا يرتاح إلا إذا تكسّر على جسده نصلٌ أو اخترقه رمحٌ أو عاد شبه ناجٍ من غابة موحشة.
الماركسي المؤمن!
لعلّ أبرز ما يشير إلى عقلية يوسف إدريس "المجنونة" هو موقفه العدائي من العقائد التي رآها "تقيّده"، فيما هي داخله تملك عليه عقله، فهو يحارب القيود الدينية والشعائر، لكنه يعظّم فكرتَي "الإله" و"الدين" في آنٍ، وهنا نتذكّر ما رواه الكاتب سليمان الحكيم لجريدة "صوت الأمة" عن يوسف إدريس، إذ وصفه بأنه رجل "ديّن" عكس ما يراه الناس "كملحد".
يروي الحكيم أنه ذهب مع إدريس لأداء العمرة عام 1978، و"عند الكعبة تعلّق إدريس بأستارها وظل يبكي بعمق، كأنما لم يبكِ من قبل! هل هذا هو إدريس الماركسي؟ بدا كأنه نادم وضعيف وقوي اﻹيمان وقريب من الله"، يقول الحكيم إن دموع إدريس "انهمرت بغزارة هناك، كأنما يبث حديثاً أسرّه في نفسه إلى الله، يحاكيه بلا صوت"، ولما فرغ نظر إلى صاحبه وقال: "ﻻ تخبرْ أحداً بما رأيت مني".
هذا التأرجح بين الإيمان ونقيضه يضع إدريس في خانة المجانين بالمعنى الدارج، لكنه أيضاً يضعه في خانة المبدعين القلائل، الذين تستعصي بواطنهم على القراءة الظاهرية العابرة، ولعل المسافة بين الإيمان ونقيضه تساوي صفراً في ظروف إبداعية خارج حدود عقل كعقل يوسف.
بحثاً عن صدمة
في العام 1971 توقّف يوسف إدريس عن كتابة القصة لمدة 10 سنوات. هذا التوقّف جدير بالتحليل الذي يحيلنا بالتأكيد إلى نظرة إدريس إلى الأدب عموماً، وإلى الأدب المصري والعربي خصوصاً، فمن خلال مجموعته الأولى "أرخص ليالي" قدّم نظرة مبتكرة إلى العالم والإنسان بطرق لم يعهدها الأدب المصري: تركيز على المشاهد القصيرة وسرد الملاحظات الحيّة من الواقع، والتقاط الحكايات الحياتية المألوفة البسيطة وتشريحها بمشرط جرّاح دقيق بطيء.
وربما كان اختلاف إدريس، الذي يُشار إليه دائماً نقدياً ولا يمكن احتواؤه بحسم، نابعاً من تلقّيه تعليماً لغوياً عربياً غير تقليدي. إذ لم يكن أسير الصياغات الكلاسيكية، فضلاً عن معرفته بالنفس البشرية وأسرار الكيان/الجسد البشري، بناء على دراسته الطب.
انبهر إدريس بالأدب الروسي، خاصة أعمال ديستويفسكي وتولستوي وتشيخوف، وكان قد استقرّ في أعماقه أن القصص التي يكتبها العرب ليست على المستوى الفني المطلوب.
من هنا تحديداً يمكن تفسير توقّف إدريس لــ 10 سنوات عن كتابة القصة بأنه كان بحثاً عن صدمة وعن تقنيات جديدة، وهذا بالضبط الذي وجده ربما في مجموعته "نيويورك 80"، التي تستعصي على التصنيف بين الرواية والمسرحية والموضوع العام... عمل عابر للنوع الأدبي... حتى يوسف لم يستطع أن يقف على ملامحه، لكنه أخيراً عاد به إلى حياة الكتابة.
من حسن حظ الجمهور أن المبدعين مصابون في صميم استقرارهم، فها هو إدريس الذي ظلّ يرتقي سلّم التحوّلات في مجتمع يفكّر بعقلية الثابت بحسب نظرية الشاعر السوري أدونيس، هوى في قاع سحيق من العقد النفسية أشبه بقاع المدينة، تلك التي ترفض المجانين من أمثاله، فيما هي تعيش على جنونهم المُنير.