رؤية إدوارد سعيد للصراع العربي - الصهيوني
كتاب "القلم والسيف" شهادة مزدوجة على فكر إدوارد سعيد، فالشهادة الأولى تكشف عن موضوعية الفكر ومصداقيته.وشهادة ثانية، تعلن اتساق المفكّر، والتزامه بالحقيقة.
هل ما زال القلم سلاحاً ضدّ السّيف، أم أنّ السّيف هو الذي يحكم على مرّ العصور،سواء بمفهومه التقليدي، أم بمفهومه التكنولوجي الفتّاك. فما نعيشه الآن وما يحكم السّاحة الدوليّة لا شكّ هو نظام البطش. واللا إنسانية، أما القلم فقد تنحّى قليلاً. وعلى الرّغم من ذلك فرؤيتي المتواضعة تقول: إنّه مهما انكفأ القلم قليلاً، إلّا أنّه سيبقى المحرّك الأساسي للعقول التي تفهم الكلمة وتشعر بصداها،وتؤمن بتأثيرها كما تأثير قطرة الماء التي تحفر تجويفاً في صخرة الحياة.
يكشف كتاب القلم والسيف، شخصية إدوارد سعيد نفسه، فمعظم كتاباته هي من النوع التحليلي والبحثي وتتميّز بالجرأة. ويحضرني رأيه رغم مرضه المضني، عندما سُئل عن: أنّ معظم الناس هم بحالة قلق شديدة عليك وعلى صحتك فبماذا يمكنك الردّ عليهم، أجاب "أنا مستمرٌ. ولديّ مرضٌ مزمنٌ هو اللوكيميا وله لحظاته الصعبة... وأحاول ألّا أفكّر بالمستقبل كثيراً... لديّ الكثير لأقوله وأكتبه، كما أشعر، وأريد بالضبط أن أستمرّ في ذلك". كان أدوارد يعمل لثماني عشرة ساعة يوميّاً ويعمل على إلقاء محاضراته بانتظام، ويدرّس،ويذهب لحضور الأوبرا. ويقيم الحفلات مع الأصدقاء والأسرة.
ما نهدف اليه في طرحنا لهذا الكتاب في الوقت الراهن، هو ما يتضمّنه من رؤية نضالية تتعلّق بالقضية الفلسطينية وكيف ينظر إليها الكاتب، لكونه كان منهمكاً بالنضال المباشر لمنع ياسر عرفات من توقيع الاستسلام. الذي بنظره مهين للمصالح الفلسطينية. وهو المثقف الوحيد من المثقفين العرب الذين فهموا أن عرفات قد دخل في عملية هي ليست عملية سلام، بل استسلام،وقد حذر عرفات باستمرار أنه بدأ المسار في طريق الانهزام. كما ناضل نحو فكرة أنّ السياسة يجب أنْ تكون الأداة الأساسية للتحرير. ويتابع الصحافي دافيد بارساميان سؤاله: لقد طالبت عرفات بالاستقالة. فلماذا تريد من الرّجل الذي مثّل القضية الفلسطينية طوال هذا الزمن أن يتنازل عنها؟
يجيب إدوارد: هناك العديد من الأسباب وليس الأمر موجّهاً إلى ذلك الحد كلّه ضدّ الرجل بقدر ما هو موجّه ضدّ الأسلوب والقيادة اللذين يمثّلهما، لقد ضحّى بمصلحة مئات الآلاف إن لم نقل ملايين الفلسطينيين، ودخل بمفاوضات علنيّة لم تدرس جيّداً أو لم يحضّر لها جيّداً. فمع "إسرائيل" في مدريد عام 1991، ضلّل عرفات شعبه في الضفة الغربية، وختم هذه المفاوضات بمفاوضات سريّة كارثية وغير شرعية ضمن إطار عمل المجتمع المدني الفلسطيني وذلك مع "إسرائيل" في أوسلو. وقد قرّر نهائياً مصير أكثر من نصف الشعب الفلسطيني، وتنازل عن كلّ شيء إلى الاحتلال على أساس اعتراف هشّ جدّاً من قبل "إسرائيل" بأن منظمة التحرير هي ممثّل للشعب الفلسطيني.
يقول إدوارد: لم يكن لعرفات مستشارون قانونيون لمساعدته، حتى إنه لا يعرف الإنكليزية ليتفاوض بها وقد تفاوض معهم بها، وأبرم صفقة تمّ تنظيمها بسرعة إذ ترك كلّ القوة بأيدي الإسرائيليين، أيّ الجيش والمستوطنات والأراضي والسيادة والقدس،ولم يحسّن من حال الفلسطينيين. وقد نقل عن لسانه أنه أعلن للصحافة الإسرائيلية أنه "لو كان معي 50 مليون دولار لتخلّصت من مشكلاتي ولن تكون هناك معارضة". لقد غرّب أيّ شخص لا يتكل عليه تمام الاتكال في معيشته، وقد تخلّى عنه كلّ شخص ذي كفاءة ومبادئ مثال محمود درويش، وشفيق الحوت. إنّ المفاوضات مع "إسرائيل" هي فضيحة من حيث التنظيم، وعرفات هو الذي يتحكّم بالأموال وهو الوحيد الذي يوقّع الشيكات وهو الذي يعرف أين هي الشيكات.
عندما سئل أدوارد عن منظوره نحو الثقافة والإمبريالية:
قال: إنها دمج منظور المستعمر في ذاتك،حتى تصبح غير قادر على فعل أي شيء من دون وصايته ودعمه، وإن ذلك التشريع يأتي من مجتمعك ومن قيمك وليس من مجتمعه وقيمه هو، وهذا مهلك جداً. لقد اخترعت أميركا هذه الجملة "عملية السلام"، فالكثير من المثقفين اليساريين الذين كانوا جزءاً من المقاومة ضد الإمبريالية، ومؤمنين عرباً منذ عقود، قد تحوّلوا الآن ليصبحوا علماء اجتماع يتحدّثون لغة جديدة، وهذا استثنائي جداً. كذلك يعرج أيضاً بقوله، إن منظمة التحرير وُلدت كحركة تحرير، وهي حركة التحرير الوحيدة في القرن العشرين،وحوّلت نفسها إلى متعاون مع القوة المحتلة.
والسؤال المهم الذي يثير الانتباه هو: هل تتطلّع إلى، كما يقول إليوت، "إلى ذلك الصدى الذي يسكن الحديقة". يجيب إدوارد: هذا أمر صوفي. لكنني أفكّر أنّ ما يحتاج إليه المرء هو الاستيقاظ على حقائق وصعوبات الوضع الحالي. ولكن إن لم نستطع فعل ذلك، عندها كمثقف عليك أن تستمرّ رغم التهميش والوحدة اللذين نشعر بهما.
ومن وجهة نظري بعد قراءتي الشغوفة لهذا الكتاب، أنّه يظهر بوضوح ما كان خفيّاً عن البعض وراء وجود منظمة التحرير الفلسطينية من خلال عناوينه المثيرة؛ ا-الاتفاقية بين "إسرائيل" ومنظمة التحرير "تقييم نقدي". 2– الثقافة والإمبريالية. 3- الاستشراق مجدّداً. 4- السّياسة والثقافة في المنفى الفلسطيني. 5- فلسطين خيانة للتاريخ.
في ملخّص مستقطب للقارئ وضع على صفحة الغلاف: يعرّف هذا الكتاب بأنّه شهادة مزدوجة على فكر إدوارد سعيد،فالشهادة الأولى تكشف عن موضوعية الفكر ومصداقيته. والأمور التي أرّقت سعيد يوماً باتت كابوساً ثقيلاً، وشهادة ثانية، تعلن اتساق المفكّر، والتزامه بالحقيقة لأن ما كان يدافع عنه أدوارد قبل أكثر من عقدين من الزمن لا يزال يدافع عنه اليوم. لذلك يعدّ هذا الكتاب مرآة واسعة لوحدة الأخلاق والمعرفة لدى المفكّر الفلسطيني الكبير، ومرآة أيضاً على قراءة المستقبل اعتماداً على معطيات الحاضر.
وأخيراً: ليس من السّهل اختزال مثل هكذا كتاب بمعانيه الصادقة، بقليل من الكلمات عن قضية، ملأت عقول العالم لعقود طويلة نحو مصير هذا الشعب، ولا يغيب عنّا التكثيف الواضح لتلك المعطيات التاريخية التي تناولها كاتب مرموق وعالمي بمستوى إدوارد سعيد مع مُحاور من الطراز الرفيع -دافيد بارساميان- مؤسس ومدير "الراديو البديل" الذي كانت تذاع برامجه على أكثر من 100 محطة يرعاها المستمعون في الولايات المتحدة الأميركية، ومؤلف كتاب "كاتبو الاختزال إلى السلطة – وتاريخ متسلسل للمعارضة".