دفاعاً عن الموسيقى العربية
هل الارتباط الواضح للموسيقى العربية بالكلمة هو نقيصة، أم هوية وميزة لها؟ وهل خلت أصلاً من الموسيقى الصرفة؟
محزنٌ جداً ما يكتبه بعض الكُتّاب والمفكّرين، وغيرهم من المهتمّين، عن الموسيقى العربية. تحاول تلك الآراء أن تخلق إجماعاً على خلوّ الموسيقى العربية من المضمون العقلي والفكري، واقتصارها على المضمون العاطفي والتطريبي، أي أنَّ هدفها الإمتاع فقط.
الخوض في أسباب ذلك يحيلنا إلى مناقشة أمورٍ كثيرةٍ، منها البنية النفسية الفردية لهؤلاء أولاً، والبنية النفسية الجمعية للنُخب العربية عموماً، والتي تأسَّست على مشاعر الدونيّة، بفعل عقودٍ طويلةٍ من استعمار العقل والأرض و الإنسان.
في البداية، من أجل الرد على دونيّة من يتّهمون الموسيقى العربية بأنّها "طبل وزمر"، على حدِّ تعبيرهم، وهو التعبير الذي يستخدمونه للدلالة على خلوّها من المعنى والفلسفة والفكر، نقول:
يمكنك فهم الحركة الأولى من "السيمفونية السادسة" لبيتهوفن، على أنّها تعبيرٌ عن الفرح بالطبيعة، وذلك لأنّك قرأتَ عنها هذا التحليل أولاً، ولأنَّ تركيبتها تعبّر بالفعل عن موسيقى نشطة ومرحة وغير معقَّدة الثيمة ثانياً. وبالتالي احتاج الكثير من الناس إلى القراءة عن ذلك لفهم معناه، كما أنَّ دلالة هذه الموسيقى الواضحة سهلة الفهم، فمن لا يعرف أنَّ الإيقاع السريع والنَّشط يدلُّ على الفرح؟ وأنَّ النوتات السريعة المتوالية تعبّر عن عاطفةٍ أقرب إلى الفرح؟ وأنَّ النوتات الطويلة تخدم إثارة الإحساس بالتأمّل، أو الشعور بالحزن؟ وبهذا يعتبرون أنَّ هذه الموسيقى راقية (وهي راقية بالطبع)، لأنَّها تنقل صورةً أو فكرةً يمكن إدراكها، فأين منها وصلة الراحل صباح فخري عندما يقوم بتنغيم الآهات و الليالي؟ كما فعل مثلاً في وصلة "حبيبي على الدنيا"، في مقطعٍ إيقاعيٍّ خلال الموّال "ليلي ليلي ليل يا عين يا ليل يا ليل".
فهل ما قدّمه صباح فخري هنا هو مجرّد "إمتاع"؟
إن مقطع صباح فخري المذكور أعلاه، كمثالٍ عن الموسيقى العربية، يقترب من التجريد بقدر ما يبتعد عن المعنى الواضح، بشرط المحافظة على عنصر الجذب أو الإمتاع، فالمسألة هنا ليست مسألة إثارة إيقاعية فقط، مع العلم أن الإيقاع بحدِّ ذاته له فلسفته الخاصّة أيضاً، بل هناك مقاميّة واضحة، وتنويع في هذه المقاميّة، وهناك منحنى لحني جميل، وهناك أداء خارق يحمل خصوصيّة الفنان، فهل جاء هذا كلّه من الفراغ؟
قد يقول قائل: ولكنَّ بيتهوفن قدّم في هذه "السيمفونية السادسة" موسيقى صرفة، لا أغانٍ وقصائدَ ملّحنة، أي أنَّه عبّر عن الفكرة التي يقدّمها من خلال الموسيقى فقط، وليس بالكلام. هذا صحيح، وهو متّصل بالتساؤل الأساس حول طبيعة الموسيقى أساساً، والتي اختلف بشأنها الفلاسفة والمفكّرون، وتحديداً فيما إذا كانت الموسيقى قادرةً على التعبير عن العواطف، أو الأفكار، أو كليهما معاً، أو أنّها عبارة عن بنية مجرَّدة لا مضمون لها، بحسب كانط، الذي قال إنَّ "الموسيقى أقرب إلى المتعة من كونها ثقافة".
لكن هناك تساؤلان آخران متعلّقان بالموضوع؛ التساؤل الأول هو: هل خلت الموسيقى العربية من الموسيقى الصرفة غير المرتبطة بالكلمة؟
أما التساؤل الثاني: هل الارتباط الواضح للموسيقى العربية بالكلمة هو نقيصة، أم هوية وميزة لها؟
من المعلوم أنَّ التراث الموسيقي العربي يضمُّ إرثاً كبيراً من الموسيقى الصرفة، التي تتمتع بقوالب مستقرّة وجميلة، كـ"السماعي" و"البشرف" و"التقاسيم" و"اللونغة"، بالإضافة إلى موسيقى الرقصات المتنوعة، فلماذا يتمُّ إغفال كلِّ هذا التراث وتجاهله؟
هذا من جهة الرد على أنَّ الموسيقى العربية هي مجرَّد أغانٍ فقط.
أما من ناحية المضمون الفكري والفلسفي، فلنأخذ مثالاً على تصدّي الموسيقى العربية للفكرة والعاطفة، بالإضافة إلى التمثيل والتجريد والإمتاع، وذلك من خلال أغنية السيدة فيروز "حبّو بعضن تركوا بعضن"، التي نجد فيها مثالاً واضحاً عن كلِّ ما سبق.
موضوع الأغنية هو مصير علاقات الحب الإنسانية، التي تنشأ بين رجلٍ وامرأة، وارتباط هذه العلاقات بمفهوم الحُبّ الكُلّي، وهو مفهومٌ فلسفي واضح، والنقاش ما زال قائماً حتى اليوم عن طبيعة الحب.
فكيف عالجت الموسيقى والكلمة مسألة الحب في هذه الأغنية، التي لحّنها الموسيقار زياد الرحباني؟
من وجهة نظر الفلسفة، الحب أساساً هو حب الله، أي أنّه سعيٌ نحو المطلق. والمطلق هو التوازن الكُلّي الذي لم يستطِع الإنسان الوصول إليه حتى الآن، فيما حياته برمّتها عبارةٌ عن محاولةٍ فاشلةٍ من أجل ذلك. فأين تقع علاقة الحب الإنساني في هذا الخضمّ؟
وما هو الحب الحقيقي؟
نجد من خلال التحليل الدقيق لهذه الأغنية أنَّ الموسيقى فيها أوجدت الكثير من الثنائيات المتقابلة، للدلالة على مفهومَي التقابل والتوازن، وبالتالي الإشارة إلى المطلق بما هو توازنٌ بين نقيضين أو متقابلين، للإشارة إلى أنَّ الحب هو بالفعل جمعٌ بين متقابلين، شيئين متَّفقين بالكمّية ومتعاكسين بالإشارة، لتكون محصّلتهما صفراً، والصفر هو المطلق المقصود هنا.
وتجسدياً لتلك المفاهيم، نجد في مقدّمة الأغنية جملة ممهِّدة للبيانو، يؤدّيها مرَّتين، مرَّةً في القرار، ومرَّةً في الجواب (تقابل)، وهذه ثنائية واضحة في بداية الأغنية. وفي مقطع "بيقولو الحب بيقتل الوقت"، ومقطع "بيقولوا الوقت بيقتل الحب"، نجد لحناً متماثلاً تماماً، وأداءً غنائياً متماثلاً كذلك، ولكنَّ التضادّ جاء من خلال الكلمة، فالمعنيين هنا متعاكسين تماماً، تمَّ تلحينهما بلحنٍ واحدٍ لوصف التساوي في القيمة والاختلاف في الإشارة، وهنا يمكن أن نلحظ ميزاناً مرسوماً بالموسيقى.
ونجد في عبارة "قبل الوقت وقبل الحب" تعبيراً بالغ الدلالة عن التناقض في طبيعة اللحن، فلحن عبارة "قبل الوقت" ينزل نصف درجة، أما لحن عبارة "قبل الحب" فيصعد نصف درجة.
وإذا أردنا البحث عن المطلق في معنى هذه العبارة، فسنجده في ذلك المكان الذي كان قبل الوقت وقبل الحب، اللذين لم يكن قبلهما شيءٌ سوى المطلق ذاته.