حسن حنفي وعلم الاستغراب
إن الاستغراب هو "العلم بالغرب"، والذي جاء كرد فعل عكسي ضد الاستشراق؛ وهو مصطلح يعني "العلم بالشرق". وفكرة الاستغراب في هدفها الأساسي هي محاولة القيام بأبحاث حول الغرب نيابة عن الغربيين.
مدخل
ليست قضية هويّة الأمّة، وتحديد موقعها الفكري والحضاري قبالة أو بموازاة الأمم الأخرى، قضية جديدة أو مستجدّة؛ بل إنها كانت -وستظل- مطروحة للنقاش والبحث في كلّ وقت؛ فهي قضية وجودية ومصيرية، كونها تحتمل أبعاداً جذرية ومتداخلة، ولا يمكن حسم الجدالات بشأنها من أي جهة أو دولة، مهما بلغ تأثيرها.
إن قضية التغريب والاستغراب، والتي تمسّ هويّة الأمّة في الصميم، من ضمن قضايا جوهرية أخرى، هي من تلك القضايا الشائكة التي لا تزال تشغل الأوساط العلمية والثقافية والسياسية في عالمنا الإسلامي والعربي منذ عقود، وخاصة في مراحل ما بعد التحرّر المباشر من الاستعمار الأجنبي في منتصف القرن الماضي.
في هذه الورقة البحثية سنتناول قضية التغريب والاستغراب، وعلاقتها الوثيقة بقضايا الأمّة، وتحديداً فيما يرتبط بهويّتها الأصيلة ومسارها الأيديولوجي والفكري والحضاري العام، وأهمية تحديد أطر علمية معاصرة لهذه القضية، كما سنتناول دور المفكر المصري الراحل البروفسور حسن حنفي باعتباه أحد مؤسسي علم الاستغراب.
التغريب لغة واصطلاحاً
في التعريف اللغوي، التَّغْرِيبُ هو: النَّفْيُ والإِبْعادُ، يُقال: أَغْرَبْتُهُ، وغَرَّبْتُهُ تَغْرِيباً، فتَغَرَّبَ، أيْ: نَفَيْتُهُ وأَبْعَدْتُّهُ، وغَرَّبَ الأَمِيرُ فُلاناً، أيْ: نَفاهُ مِنْ بَلَدٍ إلى بَلَدٍ. وأَصْلُه مِنْ غَرَبَ، أي: بَعُدَ، والغُرْبَةُ: البُعْدُ عَن الوَطَنِ. والغَرْبُ: الذَّهابُ والتَّنَحِّي عَنِ النّاسِ. ومِنْ مَعانِي التَّغرِيبِ أيضاً: التَّنْحِيَةُ والعَزْلُ والطَّرْدُ والتَّرْحِيل(1).
يقول ابن منظور: «… وغَرَّبَه، وأغْرَبَه: نَحّـاه... والتغْريبُ: النَّفْيُ عنِ البلد... ومنه الحديثُ: أنَّه أمَرَ بتَغْريب الزّاني؛ التَّغْـريبُ: النّفيُ عن البلدِ الذي وَقعَتْ الجِنايةُ فيه. يُقال: أغْرَبْتُه وغَرَّبْتُه إذا نَحَّيْتُـه وأبْعَدْته... وغَرَّبَه وغَرَّبَ عليْه: تَرَكَهُ بُعْدًا»(2).
أما اصطلاحاً، فيُطلَق «التغريب»، في الاصطلاح الثقافي والفكري المعاصر، غالبًا على «حالات التعلّق والانبهار والإعجاب والتقليد والمحاكاة للثقافة الغربية والأخْذ بالقيم والنُّظم وأساليب الحياة الغربية، بحيث يصبح الفرد أو الجماعة أو المجتمع المسلم الذي له هذا الموقف أو الاتجاه غريبًا في ميوله وعواطفه وعاداته وأساليب حياته وذوقه العام وتوجهاته في الحياة، يَنظر إلى الثقافة الغربية وما تشتمل عليه من قِيم ونُظم ونظريات وأساليب حياة نظرةَ إعجابٍ وإكبار، ويرى في الأخذ بها الطريقة المُثلى لتقدُّم جماعته أو أمّته الإسلامية»(3).
يتّخذ التغريب أشكالاً مختلفة، لعلّ أخْطرها «التغـريب الثقافي»؛ لأنه إبْدال ثقافي يتغيّى إحْلال ثقافة أجنبية محلَّ الثقافة المحلية الأصلية، مع ما يرافق ذلك من مظاهر التبدُّل والتغيير(4).
مراحل التغريب الثلاث
إن مصطلحات: الاغتراب والتغريب والاستغراب، إضافة إلى ما سبق أو لحق بها من مصطلحات مفردة أو زوجية، مثل: الاستشراق، والأصالة والمعاصرة، والقديم والجديد، والتراث والحداثة، جميعها جاءت ردّ فعل لصدمة الاحتكاك التي حدثت مع الغرب على مدار التاريخ الإسلامي. ويمكن تلمّس ثلاث مراحل احتكّ فيها الإسلام مع الغرب من مواقع مختلفة، تراوحت بين القوّة والضعف؛ وأفرزت كل مرحلة من تلك المراحل، نتائج ومؤشرات متباينة ومختلفة(5).
المرحلة الأولى:
الاحتكاك الذي حصل إبّان الدولة العباسية، خصوصاً في أوائلها، وفي مرحلة الترجمة من اللغات الأخرى بالتحديد، حيث تمّ التفاعل بين الغرب والإسلام. وعلى الرغم من الانتصار السياسي للإسلام على أرض الواقع، إلاّ أنه تأثّر بالفكر الإغريقي، وأثيرت العديد من الإشكاليات التي كادت أن تمزّق الأمّة. ويمكن تلمّس ذلك التأثّر من خلال أسماء مثل الرازي وكتاباته الإلحادية، وكذلك ابن المقفّع وابن الراوندي؛ لكن حيوية العقل المسلم، ونضج النسق المعرفي الإسلامي، في ذلك الحين، حال دون التفجير، وأمكن امتصاص الفكر الإغريقي وهضمه، وتحوّل إلى جزء من النسق المعرفي الإسلامي بمعناه الواسع(6).
المرحلة الثانية:
فترة الحروب الصليبية؛ ويلاحَظ فيها أنه على الرغم من التفوّق العسكري للغرب، إلاّ أنه تأثّر وبصورة قويّة بالمعرفة الإسلامية. وبدأ الانشغال الفكري بالمجتمع الغربي يؤتي ثماره بعد ذلك.
ويمكن تلمّس هذا التأثر بالإسلام في أوروبا ـ في القرون الوسطى ـ في ميادين كثيرة، وهيمنته على جوانب متعددة. وقد عمّ هذا التأثير بدرجة كبيرة أو صغيرة مستويات الحياة الأوروبية جميعاً، ونال أكثر المجالات والبنى اختلافاً وتباعداً، بما في ذلك النواحي المعيشية والتجارية والاقتصادية والتقنية والسياسية والآداب والعلوم والفلسفة والدين.
أما بالنسبة للعقل المسلم، فلم يحدث له أي نوع من الانهزام الفكري نظراً لضعف المحتوى الفكري الأوروبي في ذلك الوقت(7).
المرحلة الثالثة:
وهي المرحلة التي أعقبت الحملة الفرنسية على مصر وهي حملة عسكرية قام بها الجنرال نابليون بونابرت بين عامي (1798-1801م). ويلاحَظ هنا الضعف الحضاري العام والتدهور الفكري في العالم الإسلامي من ناحية، وقوّة النسق الحضاري الأوروبي من ناحية أخرى. فقد مثّلت هذه المرحلة لحظة نموذجية لتفاعل الاستلاب كقوّة نابعة من النسق الأوروبي، والقابلية للاستلاب كحالة يعيشها العقل العربي والمسلم.
لحظة الاحتكاك أو الاصطدام تلك، خلقت حالة من الاهتزاز في تحديد ماهيّة الذات. وتباينت الدعوات التي أفرزها هذا الاهتزاز؛ فهي إما دعوة للتخلّي عن الذات وتقمّص الآخر وتطوير الذات طبقاً لمعايير الآخر؛ أو هي دعوة لإيجاد صيغة توفيقية تشتمل على الذات والآخر معاً بحيث لا يكون لها معنى ولا ماهيّة. وفي مقابل ذلك ردود أفعال نكوصية مرتدّة إلى الوراء للتعلق بأهداب عصور زاهية في التاريخ(8).
الاستغراب في مواجهة الاستشراق
التغريب، كما عرّفه البعض، هو تيّار فكري ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية، يرمي إلى إضفاء الطابع الغربي على حياة العرب والمسلمين، مما يؤدي إلى إلغاء الهوية الوطنية والاستقلال ويجعل البلاد والشعوب أسرى التبعية الكاملة لدول الغربية. ويُعتبر التغريب امتداداً للاستشراق في البلاد العربية والإسلامية.
يقول حنفي إن التغريب Westernization هو نوع من الاغتراب Alienation بالمعنى الاشتقاقي للفظ، أي تحول الأنا الى آخر. ويرى أن "قضية الهوية بالنسبة لنا هي إحدى قضايانا الرئيسية في مواجهة التغريب، نتفاوت فيها من منطقة الى منطقة تبعاً لشدة الاستعمار وتغلغله في النفوس وما تبقى منه في العقول. إذ تتفاوت المجتمعات الإسلامية فيما بينها في حدة المشكلة. فالمجتمعات التي داهمها الاستعمار كانت إحدى وسائل المقاومة فيها إثبات الهوية في مقابل التغاير، والأنا في مواجهة الآخر، والأصالة في مواجهة التحديث والاغتراب المرتبط به". ويضيف: "بعد الاستقلال الوطني عاد المستعمر من خلال الثقافة. وانتشر التغريب. استقلت البلاد ولكن احتلت الأذهان. وقد ولّد الفعل، وهو التوجه نحو الآخر في رد فعل وهو الرجوع الى الأنا كما هو الحال في الثورة الإسلامية في ايران والحركة الإسلامية المعاصرة في شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي(9).
ويشير حنفي إلى التحديات السبعة التي تواجهها الأمة حالياً وهي: تحرير الأرض من الغزو الخارجي، الاستعمار والصهيونية، الحريات العامة ضد صنوف القهر والتسلط والطغيان الداخلي، العدالة الاجتماعية في مواجهة هذا التفاوت الضخم بين الأغنياء والفقراء. وحدة الأمة في مواجهة التجزئة والتشتت والتشرذم، التنمية الشاملة في مقابل التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، الهوية ضد التغريب والتبعية والتقليد، وأخيراً تعبئة الجماهير وحشد قواها وتجنيد طاقاتها في مقابل اللامبالاة والفتور وعدم الاكتراث"(10).
يعتبر حنفي أن التغريب، وإن كان متفاوتاً في قوته من قطر الى قطر، ومن طبقة الى طبقة، لكنه كان أكثر انتشاراً في الطبقة العليا منه في الطبقات الدنيا. لكن بفضل تطور وسائل الإعلام والانترنت والهواتف الذكية والتكنولوجيا، فقد بدأت الطبقات الدنيا تخضع لتأثير الغرب ووسائل الرفاهية. وهو يعتقد أن معظم تياراتنا الفكرية الحديثة كانت أقرب الى التغريب منها الى الأصالة. فالإصلاح الديني(مع جمال الدين الأفغاني) والليبرالية السياسية(رفاعة الطهطاوي) والعقلانية العلمية (شبلي شميل) كانت كلها ترى الغرب نمطاً للتحديث ونموذجاً للتقدم.. حتى أحزابنا السياسية وخاصة العلمانية منها تصوغ القضية السياسية على نحو مغترب، وتجد الحل عند الآخر وليس بتحليل الأنا. ويرى حنفي أنه ينبغي إيقاف التغريب، بداية من خلال إعادة بناء الأنا على نحو يقضي على اغترابها، ولوقف التغريب الذي حدث للفئة التي انفصلت عن التراث العربي والإسلامي لأنها لم تجد نفسها فيه، بل قبلت الفكر الغربي كبديل لتراث الأمة(11).
حسن حنفي وتأسيس علم الاستغراب
وبحسب حنفي، فإن الاستغراب يعني حرفياً "العلم بالغرب"، والذي تمّ تناوله من قبل العرب والمسلمين كرد فعل عكسي ضد الاستشراق؛ وهو مصطلح يعني "العلم بالشرق". وفكرة الاستغراب في هدفها الأساسي هي محاولة القيام بأبحاث حول الغرب نيابة عن الغربيين، وهو الأمر الذي فعله الغرب بالشرق من خلال الاستشراق(12).
لقد أسّس حسن حنفي لعلم الاستغراب في مواجهة علم الاستشراق، معتبراً أن الاستشراق الأوروبي زوّد العقل الغربي بمركّب غرور باعتباره ذاتاً دارسة جامعة للمعلومات والتحليل عن المشرق، فكراً وإنساناً وحضارة. كما أنه أيضاً ولّد مركّب نقص عند المشرقي باعتباره ذاتاً مدروسة. لقد درس حنفي الاستغراب باعتبار أثره الشديد على الذاكرة والذائقة العربية، حيث أصبح الغرب النموذج المؤثّر بقوّة في مختلف مدارس الإصلاح. فليس الإصلاح الديني الذي تقدّم به جمال الدين الأفغاني، ولا الإصلاح المدني والثقافي الذي تقدّم به رفاعة الطهطاوي، ولا الإصلاح العلماني الذي تقدّم به شبلي شميل ومن يرى رأيه، أكثر من رجع صدى للانبهار المشرقي بالذات الغربية وقِيمها وثقافتها، ومنجزاتها الواقعية(13).
ويدفع حنفي بضرورة التخلص من وهم الفوقيّة الغربيّة، أو اتخاذ الغرب مصدراً وحيداً للمعرفة، معتبراً أن ذلك الوهم جزء أساسي من الاستعمار الثقافي وتضخّم الآخر في نظر الأنا العربية. وفي سبيل ذلك يدفع مقولات التكامل والتشابه بين الثقافة العربية والثقافة الغربية؛ بل يرى أن التضاد والتعارض بينهما في الأصول والقِيم والمآلات هما الحقيقة التي ينبغي أن يصل إليها النظر الفكري السليم(14).
وإذا كان "التغريب" يتمثّل في محاولات إخضاع الثقافة الإسلامية والعربية للهيمنة الثقافية الغربية، فإنّ أبرز أهداف الاستغراب هو مواجهة التغريب. وبحسب حنفي، فإن علم «الاستغراب» يهدف إلى إقالة الثورات الحديثة من عثراتها، واستكمال عصر التحرّر من الاستعمار، والانتقال من التحرّر العسكري إلى التحرّر الاقتصادي والسياسي والثقافي، وقبل كلّ شيء التحرّر الحضاري. فطالما أن الغرب قابعٌ في قلب كلّ منّا كمصدر للمعرفة، وكإطار مرجعي يُحال إليه كلّ شيء للفهم والتقييم، فسنظلّ قاصرين وفي حاجة إلى أوصياء(15).
إن مهمة علم الاستغراب هي القضاء على المركزية الأوروبية، وبيان كيف أخذ الوعي الأوروبي مركز الصدارة عبر التاريخ الحديث داخل بيئته الحضارية الخاصة. ومهمة هذا العلم الجديد ردّ ثقافة الغرب إلى حدوده الطبيعية بعد أن انتشر خارج حدوده إبّان عنفوانه الاستعماري، من خلال سيطرته على دور النشر الكبرى ومراكز الأبحاث العلمية؛ ومهمته أيضًا القضاء على أسطورة الثقافة العالمية التي يتوحّد بها الغرب، ويجعلها مرادفة لثقافته، وهي الثقافة التي على كل شعب أن يتبنّاها حتى ينتقل من التقليد إلى الحداثة(16).
أشكال الاستغراب
توجد عدة أشكال أو أنواع من الاستغراب الذي عرفته أو طبّقته بعض فئات الأمّة في مراحل ما بعد تحرّرها من الاستعمار الغربي المادي أو العسكري. فهناك استغراب اجتماعي، يدرس بيئة المجتمع الغربي وعاداته وتقاليده، وعلاقاته الأسرية، والتفرقة العنصرية والجريمة وغيرها من الظواهر الاجتماعية. ويرى ياسين أقطاي أنه يوجد أيضًا استغراب اقتصادي، يبحث في النظم الاقتصادية للدول الغربية وأحوالها الاقتصادية، واستغراب سياسي، يدرس النظريات السياسية الغربية، ويحلّل الأنظمة السياسية الحاكمة في دول الغرب، وسلوكها السياسي وأثرها في المجتمع، واستغراب ديني، يتناول الاعتقادات الدينية في الغرب، والشعائر والعبادات والطقوس والقِيم الأخلاقية المّتصلة بها، والكتب المقدّسة، والحركات أو الطوائف الدينية في الغرب(17).
وهذا التنوّع في المجالات يستوجب تعدد الوسائل التي تعين المستغرب في أداء مهمته؛ ومن هذه الوسائل: إرسال البعثات العلمية إلى بلاد الغرب، لدراسة علومه وثقافته وبيئته ودياناته. ومن الوسائل أيضاً الترجمة حيث يمكّن لمراكز الترجمة أن تضطلع بمهمة الاستغراب، من خلال نقل التراث الغربي إلى اللغة الأمّ، ثمّ يقوم المختصّون بدراسته وتحليله ونقده(18).
خلاصة
لقد رحل المفكّر المصري حسن حنفي وفي قلبه غصّة وحسرة على مصير "علم الاستغراب"، الذي اعتقد أنه وضع أسسه وبيانه النظري في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. لكن لم ينتشر هذا العلم، ولم نرَ له أي استمرارية، على عكس "علم الاستشراق" الذي لا يزال مستمراً إلى حدّ اليوم، حتى ولو أنه أخذ عناوين أخرى. فإن كان علم الاستشراق قد وضعه الغرب لدراسة شعوب الشرق وتراثها لمعرفتها أدق المعرفة من جهة حتى يسهل التحكم فيها سياسياً، أي هو علم في خدمة الاستعمار. كما أنه استهدف أيضاً غرس الاعتزاز بالذات وعقدة التفوّق والتعالي لدى الإنسان الغربي في مواجهته للآخر، وهو الشرق. وقد حلّل إدوارد سعيد الاستشراق بشكل مستفيض، مبيّناً أنه أداة للسلطة والسيطرة على مقدّرات شعوب الشرق؛ ويبدو أن حسن حنفي انطلق من المنطلق نفسه، لكن بشكل معكوس، بحسب تعبير صادق جلال العظم في كتيّبه الناقد لإدوارد سعيد "الاستشراق معكوساً"(19).
لكن، وعلى الرغم من عدم تحوّل الاستغراب إلى علم قائم بذاته، يمتلك مقوّمات نجاحه واستمراريته، في مواجهة علم الاستشراق الذي لا يزال، مع كل عيوبه وإخفاقاته، مهيمناً على الساحات الفكرية والثقافية في منطقتنا، فإن بلورة علم الاستغراب، وتحديد أطره ووسائله غير المتأثرة بعلم الاستشراق المعادي، يبقى هدفاً سامياً وضرورياً في ظل تصاعد التحديات السياسية والإيديولوجية الغربية للشعوب العربية والمسلمة، كما كانت عليه الحال قبل عقود، وربما أشد وأقسى. واليوم، يجثو الغرب فوق صدورنا وتنهمر علينا قنابله وصواريخه، وهو يتدخّل في أدقّ تفاصيل حياتنا، والأنظمة الحاكمة لا تريد أن تساهم في دراسة الغرب(20).
يقول الباحث أسعد أبو خليل في دراسة له عن علم الاستغراب: "إن عصر التواصل التكنولوجي يُحتّم فهماً أكبر للعالم من حولنا، خصوصاً لذلك الجزء من العالم الذي لا ينفكّ عن شن الحروب ضدّنا. وإذا كان الاستشراق (ولا يزال) هو رافد للاستعمار الغربي ضدّنا، قد يكون «الاستغراب» رافداً لمقاومته"(21).
وأخيراً، يمكن الاستنتاج بأن عملية مواجهة التحدي الغربي بكلّ أبعاده وتأثيراته، ومن ضمنها الحفاظ على هويّة الأمّة وثوابتها والنهوض بها، حضارياً ومادياً، هي عملية متكاملة وعميقة وبعيدة المدى؛ وبالتالي، فإن قضية الاستغراب ومواجهة التغريب ليستا قضية هامشية أو مستقلة بذاتها، بل هما قضية أساسية تتكامل مع قضايا الأمّة الكبرى، مثل طبيعة الأنظمة الحاكمة في المنطقة وتبعيّتها للمستعمرين الجدد، وقمعها للحريّات الشخصية والعامة، وكيفية إدارة تلك الأنظمة لموارد ومقدّرات بلدانها، وعلاقاتها بالقوى الأجنبية المهيمنة، إلى الصراع مع الكيان الإسرائيلي المحتل لفلسطين، والذي يمثّل أكبر تهديد لهويّة الأمّة الإسلامية ومستقبلها.
الهوامش
(1) -مقالة "التغريب"، مقالة منشورة في موقع الجمهرة.
(2) -محمد فريد أمعضشو، "التغريب مفهوماً وواقعاً"، مجلة الداعي الشهرية، دار العلوم ديوبند، يناير- فبراير 2016، العدد 4، السنة 40.
(3) -المصدر نفسه.
(4) -المصدر نفسه.
(5) -"نزعة التغريب"، مقالة منشورة على موقع شبكة النبأ المعلوماتية، 26/12/2018.
(6) -المصدر نفسه.
(7) -المصدر نفسه.
(8) -المصدر نفسه.
(9) -حسن حنفي، «الاستغراب» في مواجهة «التغريب»، مجلة الاستغراب، العدد: 1، السنة الأولى، خريف 2015.
(10)- المصدر نفسه.
(11)- المصدر نفسه.
(12)- المصدر نفسه.
(13)-ياسين أقطاي، الاستشراق كأداة الغرب الأيديولوجية، مقالة منشورة على موقع الجزيرة نت، بتاريخ 12/11/2022.
(14)-المصدر نفسه.
(15)- حسن حنفي، «الاستغراب» في مواجهة «التغريب»، مصدر سابق. أنظر أيضاً: عبد الله قدري، "ما هو علم الاستغراب الذي أسسه المفكر الراحل حسن حنفي؟"، مقالة منشورة في موقع صحيفة الشروق المصرية بتاريخ 21-10-2021.
(16)-أنور محمود زناتي، مصطلح الاستغراب، شبكة الألوكة الثقافية، مقالة منشورة بتاريخ 3/12/2012.
(17)- أم العلا الحسني، "الاستغراب.. أنواعه ومشكلاته والدافع لدراسته"، مقالة منشورة في موقع السبيل بتاريخ 18/3/2021.
(18)-المصدر نفسه.
(19)- رابح لونيسي، ماذا بقي من -علم الاستغراب- لحسن حنفي؟، مقالة منشورة على موقع الحوار المتمدّن، بتاريخ 9/11/2021.
(20) أسعد أبو خليل، الاستغراب: نحو دراسة جادّة للغرب، موقع صحيفة الأخبار اللبنانية، 4/10/2014.
(21) -المصدر نفسه.