ثقافة الخيانة أم خيانة الثقافة؟
لم يبق أمام هذا المشهد الكرنفالي في مهرجاناتنا بينما شعب غزة يذبح، إلا التعويل على ثقافة المقاطعة لدى شعوبنا. ذلك أن على الشعوب المساهمة في تصحيح بوصلة مشهد ثقافي خانه مبدعوه.
بدأت المهرجانات الصيفية في تونس وفي الوطن العربي كافة بالإعلان عن برمجة سهراتها لتنشيط الحركة الثقافية خلال فصل الصيف، وتحركت أبواق الدعاية للإعلان عن تعاقد هذا المهرجان أو ذاك مع أسماء لامعة في عالم الفن بمبالغ ضخمة أحياناً، لتعد الجماهير بإحياء سهرات "ممتعة".
لا أريد الخوض في تفاصيل الأسماء، أو التجريح في من اختار الإشراف على تنظيم المهرجانات، في هذا التوقيت الذي يخوض فيه الشعب الفلسطيني ملحمة تاريخية ضد المحتل. لكن من حقي أن أتساءل على الأقل: هل يجوز لنا أن نفرح ونرقص فيما يذبح إخوتنا في فلسطين؟ هل يجوز لنا أن نضحك على مواقف كوميدية ركيكة فيما يموت أطفال غزة جوعاً وعطشاً ولا من منقذ أو مغيث؟ هل يكفي المهرجان أن يعلن أن شعاره هذا العام "التضامن مع غزة "، ليعبر عن هذا الشعار المعلن عبثاً من خلال برمجة سهرات غنائية راقصة، ومسرحيات فكاهية سخيفة بلا عمق ولا مضمون؟
ما أعرفه وما يكرره أهل الثقافة والفن والإبداع أن الثقافة التزام إنساني وأخلاقي، وأن الفعل الثقافي يجسد انفعال المبدع وتفاعله مع ما حوله ليؤرخ الواقع بلمسات إبداعية ترتقي بالذائقة العامة، وتسهم في تحقيق الوعي بقضايا الأمة بما ينير العقول ويصحح المفاهيم.
فالثقافة مجال للاشتباك مع المحتل لنقل المأساة الفلسطينية إلى كل العالم وعلى كل المسارح والشاشات، والانتصار للحق الفلسطيني المشروع يستدعي من كل نخب الأمة وفنانيها ومبدعيها تجاوز الخلافات أو العقبات المادية، للالتقاء حول مشاريع فنية تدافع عن السردية الفلسطينية لاغتصاب الأرض وتقتيل الشعب وتهجيره، وتجذر الشعور بالانتماء لدى الشعوب، وتعزز معاني الصمود والفداء لدى المقاومة.
إن كانت الأنظمة العربية خذلت غزة وتركت شعبها ومقاومتها في مواجهة المصير المحتوم، أي النصر أو الشهادة، فأين نخب هذا الوطن العربي الكبير ومبدعوه؟ إن لم تلزمهم عساكر الأنظمة على الصمت، فلماذا اختاروا طواعية أن يكونوا خارج التاريخ؟ لماذا اختاروا الاستقالة عن رسائلهم الفنية والثقافية في هذا التوقيت، ليتركوا المجال فسيحاً للمهرجين والبارعين في دق الطبول وهزّ الخصر؟
ما أعرفه أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمثقف الذي يألف مشاهد التقتيل والإبادة ولا يحرك ذلك في سواكنه أي رغبة في فضح المحرقة ونصرة المستضعفين، فهو مجرد مرتزق يتحرك بأوامر أسياده أو بطلب ممن يدفع، وغيابه في هذه المواجهة التاريخية أفضل من وجوده لكونه خائناً للقضية وخائناً للثقافة الحق.
أما من اختار الاستقالة طواعية وإدارة الظهر لمعركة الإنسانية ضد العنصرية الصهيونية، فقد تقاعس عن أداء رسالة ثقافية وواجب أخلاقي وديني أشبه بالصلاة التي فرضت على المؤمنين كتاباً موقوتاً.
كنت أنتظر أن تكون برامج المهرجانات متناسقة مع الشعارات المعلنة في دعم القضية الفلسطينية. كنت أنتظر مشهداً ثقافياً يجسد في العمق ثقافة الالتزام لا البلاهة أو البذاءة. مشهد ثقافي يقدم أعمالاً فنية تحرك السواكن وتزلزل العروش وترعب المحتل. غير أننا نجد أنفسنا أمام مشهد أقل ما يقال فيه إنه يروج لثقافة الاستهلاك والتسطيح الفكري ويؤسس لثقافة الخيانة أو خيانة الثقافة.
وعليه، لم يبق أمام هذا المشهد الكرنفالي في مهرجاناتنا بينما شعب غزة يذبح، إلا التعويل على ثقافة المقاطعة لدى شعوبنا. ذلك أن على الشعوب المساهمة في تصحيح بوصلة مشهد ثقافي خانه مبدعوه.