توماس مان: رسول الحضارة الألمانية إلى العالم

عُرِف بمعارضته الشرسة للنازية، وركّز في أدبه على قضايا شعبه ومشاكله وانشغل بمستقبله. في الذكرى السنوية لوفاته، ماذا تعرفون عن الكاتب الألماني توماس مان؟

  • سعى مان إلى تحرير بلاده من خلال الكتابة مع علمه أنها لا تكفي وحدها لفعل ذلك
    سعى مان إلى تحرير بلاده من خلال الكتابة مع علمه أنها لا تكفي وحدها لفعل ذلك

لم يستوطن بلدٌ وجدان أديب أوروبي كما فعلت ألمانيا بتوماس مان (1875-1955)، الذي تحلّ في 12 آب/أغسطس ذكرى وفاته الـ67، إذ احتلّت بلاده تفكيره بالكامل، وكل ما كتبه أثناء وجوده فيها، وكذلك خلال السنوات الطويلة التي عاشها في المهجر بعيداً عنها، كان على صلةٍ مباشرةٍ بألمانيا وشعبها الذي استوطن قلبه وفكره وأحلامه، ولا سيما الناس المقهورين الذين عايشوا الهزيمة في حربين عالميتين، زاد من وَقْعِها 12 سنة من حُكْم النازية وتعصُّبها الأعمى. 

سيلاحظ المتتبّع لأعمال مان روايةً وقصةً ورسائلَ، أنَّ أدبه نابعٌ بالكامل من تاريخ ألمانيا وحاضرها، ومتطلّعاً إلى مستقبلها، حتى لو كانت أحداث بعض رواياته تدور في إيطاليا أو سويسرا، أو تستند إلى الأساطير اليونانية أو الحكايات الشعبية، مع أنَّ الوطن شكَّل بالنسبة إلى الحائز جائزة نوبل عام 1929، في بعض الأوقات، "كابوساً مُفزعاً، لا يسهل التغلُّب عليه أو إخراجه من الدم الذي يجري في العروق"، كما قال في مناسبة للاحتفال بالشاعر الكبير غوته، عام 1949.

لذا سعى "الساحر"، كما يلقّبه بعض النُّقاد، إلى تحرير بلاده من خلال الكتابة، على الرغم من اقتناعه بأنّها غير كافية أمام المدافع والطائرات والقنابل، وفي سبيل ذلك عَمِل على تحويل ما تخطُّه يده، التي فضَّلها على الآلة الكاتبة حتى أواخر حياته، إلى مشعل فكري، مُكرِّساً إبداعه لكشف حقيقة النفس البشرية، ولا سيما خلال الحروب، جاعلاً من أدبه محاولةً لتبصير شعبه بما يدور حوله، ودعمه من أجل أن يصبح مشاركاً في صنع القرارات التي تخصّ مصيره. 

الضحك أثمن ما في الحياة

  • آمن مان بأنَّ النازية كانت الوباء الذي جثم على صدر ألمانيا طيلة 12 سنة
    آمن مان بأنَّ النازية كانت الوباء الذي جثم على صدر ألمانيا طيلة 12 سنة

لم يُحقِّق مان أهدافه المذكورة أعلاه بلغة وعظية مباشرة، أو بأسلوب خشبي، بل ببناء سردي حيوي، وشخصيات آسرة ذات أبعاد نفسية واجتماعية مركّبة، والأهم، من خلال سخرية لاذعة قادرة على تحرير الروح من ضغوطاتها الكثيرة، وتمرير الرسائل السياسية التي يريدها بشكل ضمني، كل ذلك بتماهٍ كبيرٍ مع ما قاله مرةً عن أن "الضحك لأسباب عميقة داخل النفس، هو أثمن وأجمل ما في هذه الحياة"، إلى جانب ما أعلنه في مقالته "تأملات رجل غير سياسي"، التي نشرها عام 1918، من أنه "لم يعد يؤمن بأنَّ السياسة لا تهمّ الفنان، بل اعتبرها أخلاقاً عامّةً، وشيئاً يُحتِّم على الفنان أن يشترك فيه للمحافظة على المجتمع الذي يسمح له بالخَلق الفني".

تميّز أدب مان ببناء سردي حيوي، وشخصيات آسرة ذات أبعاد نفسية واجتماعية مركّبة، وبسخرية لاذعة قادرة على تحرير الروح من ضغوطاتها الكثيرة، وتمرير الرسائل السياسية التي يريدها بشكل ضمني.

لم يكن ذلك ليتحقق لولا بوصلة توماس مان المتعلّقة بأخلاقه السياسية، التي جعلته يقف في صف بلاده في الحرب العالمية الأولى، وضدّها في الثانية، إذ كان يؤمن بأنَّ النازية كانت الوباء الذي جثم على صدر ألمانيا طيلة 12 سنة، وبأنّها السبب في وقوعها تحت الاحتلال الأجنبي الأكثر سوءاً وخطراً، والأكثر إيلاماً وإذلالاً، والأثقل وطأة على النفوس، والذي كان سبباً في تقسيمها إلى مناطق مبعثرة، لا تُقارب مفهومه لوطنه الأم، وهو ما أوضحه ضمن خطابٍ له في فرانكفورت عام 1949، قال فيه: "أنا لا أعترف بهذه المناطق وطناً لي، وأقوم بزيارة ألمانيا كاملةً لا محتلة. تُرى من سيضمن لي إعادة توحيدها، غير كاتب حرّ يعُدّ ألمانيا وطنه الحر الحقيقي الوحيد، ويكتب بلغته الحرة أيضاً التي لم تخضع لعبث المحتلين والاحتلال؟".

معارض شرس للنازية

  • يرى مان أنَّ مهمة المثقف أكبر وأخطر من مجرّد تسلية القرّاء
    يرى مان أنَّ مهمة المثقف أكبر وأخطر من مجرّد تسلية القرّاء

هذه المواقف والمجابهات السياسية القوية، ومعارضته الشرسة للنظام النازي، وللاحتلال الأميركي والسوفياتي لبلاده، سبّبت له الكثير من المتاعب، إذ أُجبر على الرحيل عن ألمانيا، وتوجَّه بدايةً إلى سويسرا عام 1933، ثم سُحِبَت منه الجنسية عام 1936، لينتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية التي عاش فيها فترة طويلة، وعندما أثارت سخطه وحشيّتها في إذلال الشعوب، غادرها في العام 1952 ليستقرّ في سويسرا مجدّداً، ومنها أعلن رفضه العودة مرةً أخرى إلى ألمانيا. 

مهمّة المثقّف، كما يراها الأديب الألماني، أكبر وأخطر من مجرّد تسلية القرّاء، وكان يردِّد دائماً أنَّ الكاتب لا يمكن أن يقف موقف المحايد إزاء المشكلات الاجتماعيّة والسياسيّة المحيطة به، ومن واجبه أن يرفع صوته مدافعاً عن الإنسانيّة. فالفنّ بالنسبة إليه ليس مجرّد تزجيةٍ للوقت، بل هو صوتٌ عالٍ في وجه الجهل والبطش والبربريّة، وهو ما التزمه طيلة مسيرته الأدبيّة، منذ أولى مجموعاته القصصية "منزل السيد فريدمان"، مروراً برواياته القصيرة والطويلة، مثل "تريستان"، "صاحب الجلالة"، و"بودن بروكز"، وجميعها أظهرت شغفه بمشكلات المجتمع البُرجوازي، وصلة الفنان بالمرض، والحياة والموت، والسخرية من العقول الميتة. 

الفنّ بالنسبة إلى مان ليس مجرّد تزجيةٍ للوقت، بل هو صوتٌ عالٍ في وجه الجهل والبطش والبربريّة، وهو ما التزمه طيلة مسيرته الأدبيّة، منذ أول كتابٍ أصدره.

كما سبرت رواياته مختلف أوجه الحياة في عصره؛ ففي رواية "آل بودنبروك" يصف مان، على مدى 4 أجيال، انهيار أسرة ألمانية قامت ثرواتها على تجارة الحبوب، راصداً مجمل المظاهر الحياتية والاجتماعية، التي عاشتها تلك الأسرة. أما روايته "موت في البندقية"، التي حوّلها المخرج الإيطاليّ لوتشينو فيسكونتي إلى فيلم عام 1971، فتحكي عن روائي عجوز يدعى أشنباخ، يسافر إلى مدينة البندقية الإيطالية، ويتعرّف إلى أسرة جاءت بغية التنزّه، لكنَّ الطاعون يسيطر على المدينة، وهناك يلتقي الفتى المراهق تادزيو، وينفجر جموحه تجاهه، ليعيش فترة من التشاؤم، ثم يصاب بالمرض اللعين ويموت. وتكمن رمزية هذه الحكاية، كما فسَّرها النقّاد، في أنَّ ظهور مكوّنات اجتماعية جامحة ضمن البُرجوازية الألمانية سيؤدي إلى انحلالها.  

خيارات محتومة

  • كتب مان رواياته متنقّلاً بين ألمانيا وسويسرا والولايات المتحدة
    كتب مان رواياته متنقّلاً بين ألمانيا وسويسرا والولايات المتحدة

يكتشف بطل رواية "الجبل السحري"، التي كتبها مان في العام 1924، السبيل إلى تحقيق إمكانيات حياته وسط المرض والموت، اللذين يسودان مصحة بين الجبال السويسرية، ورأى النقّاد في هذه الرواية الضخمة ترجمة صادقة للخيارات المحتومة، التي واجهت أوروبا عقب الحرب العالمية الأولى. أما ثلاثية "يوسف وإخوته"، التي كتبها بين ألمانيا وسويسرا والولايات المتحدة خلال 10 سنوات (1933- 1943)، فتتناول النازية، عبر صياغة مختلفة لقصة النبي يوسف، تكشف كيف أنَّ البشر يملكون غالباً عقليات بدائية وقبلية، تتفجر معها غرائزهم المكبوتة.

من جهتها، أظهرت رواية "الدكتور فاوست" أنّه ليس هناك اختلاف بين فاوست (الخيميائي، بطل الحكاية الشعبية الألمانية، وبطل عدد من الأعمال الأدبية أشهرها مسرحية غوته) وأدولف هتلر، فكلاهما تعاقد مع الشيطان من أجل الوصول إلى الخمر الأبدي، وكلاهما يحمل جنونه الداخلي كي يصبّه على العالم من حوله. وفي قراءته المعاصرة للأسطورة، استطاع مان أن يُقدِّم موسوعة في الموسيقى واللاهوت والفلسفة، ما جعل هذه الرواية، بحسب النقاد، "أطروحة في الثقافة الألمانية". 

أظهرت رواية "الدكتور فاوست" أنّه ليس هناك اختلاف بين فاوست وأدولف هتلر، فكلاهما تعاقد مع الشيطان من أجل الوصول إلى الخمر الأبدي، وكلاهما يحمل جنونه الداخلي كي يصبّه على العالم من حوله.

وتعزيزاً لتلك الثقافة، فقد استند في روايته "الآثم المُقدَّس" إلى ملحمة من القرن الـ12 كتبها الشاعر هارتمان فون اوه، والتي تعتبر مزيجاً من عدة حكايات ميثولوجية، تبدأ بأوديب اليوناني، وتستمر عبر بروميثيوس سارق النار، وتنتهي بالخلاص المسيحي والغفران الذي يناله الخاطئ. 

أما آخر روايات توماس مان فهي "اعترافات المحتال فليكس كرل"، وهي سرد لحياة رجل معاصر لتاريخ ألمانيا، قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، وهو من زمرة أبطاله الروائيين الذين يحملون دوماً هموم عصرهم فوق كاهلهم، وهم مستعدون لتوقيع عقدٍ مع الشيطان من أجل تحقيق أهدافهم.

وهكذا، فإنَّ توماس مان، الذي اعتبر نفسه رسول الحضارة الألمانية إلى العالم، بقي أميناً على رسالته حتى لحظاته الأخيرة التي قضاها على فراش المرض في مستشفى في زيورخ. 

مساء الـ 12 من آب/ أغسطس من العام 1955، طلب من ممرضته وضع نظارته بجانب سريره، حتى إذا استيقظ أمكنه شغل وقته بالمطالعة، لكن في غمرةٍ من النوم، توقّفت دقّات قلبه، التي ظلَّت طيلة 80 عاماً مشغولة بألمانيا ولها.