"توأمان حتى الشهادة": حين تلتقي الخطوات على رصيف الشهادة
تروي "توأمان حتى الشهادة" سردياً حكاية من حكايات المقاومة المجبولة بالعرق والدم والطرائف ومشاغبات الصبا والذكريات الجميلة، وتحكي عن عرى التقوى والإيمان، والتي هي الجذر الحقيقي لكل هذا الصمود وهذا التحدي وهذه الانتصارات.
في القصة الفلسطينية "توأما الجهاد والشهادة" التي تروي السيرة الجهادية للقائدين محمد أبو شمالة ورائد العطار، والصادرة عن الإعلام العسكري لكتائب القسام، قسم التاريخ العسكري عام 2022، نقرأ حقبة بارزة من حِقَب المقاومة الفلسطينية هي زمن بدايات تأسيس العمل العسكري في كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس.
وإذا كان رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، إسماعيل هنية، قال في مقدمته للكتاب: "لعل أعظم ما في هذه السيرة العطرة أننا أمام رجلين عاشا مرحلة البدايات التي عزّ فيها النصير ونضبت الموارد والسلاح، وتكالبت فيها على المقاومة ورجالها أرجاء الأرض كلها"، فإن الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، يقول عن هذا النوع الأدبي: "إن لم نؤرخ لهؤلاء الأبطال، فسوف يحولهم الكتبة المزورون مع الزمن إلى قطّاع طرق".
على غرار قصة "توأما الجهاد والشهادة" تأتي قصة "توأمان حتى الشهادة " لليلى عماشا، الصادرة حديثاً عن دار المعارف الإسلامية، لتروي قصة حسن زبيب وياسر ضاهر، فقد جمعت الأقدار بين حسن زبيب وياسر ضاهر، وعجنتهما الأيام وصهرتهما الأحداث حتى غدَوا اثنين في واحد، فلا تكاد تذكر أحدهما حتى يحضر الآخر بكل شخصيته. كان ياسر حيوياً صاخباً ضاجّاً بالحياة، يعيش اللحظة بحماسة منقطعة النظير، أمّا حسن فكان هادئاً وحَيِيّاً ودافئاً وحنوناً. هل المفارقة بين طبيعة حسن التأملية وشخصية ياسر الحيوية هي التي جذبت كليهما إلى الآخر، فوجدا تكاملهما في السير معاً في دروب هذه الحياة في رحلة تعشيق ومزج واندغام لكل واحدة من الشخصيتين في الأخرى.
لقد جمعت مقاعد الدراسة حسن وياسر من الصفوف الابتدائية إلى الإعدادية إلى الثانوية، حتى إذا ما أزفت ساعة التخصص الجامعية، تدخّل القدر مرة أخرى ليجمعهما في دراسة جامعية واحدة بعد أن حظيا بمنحة دراسية في إيران، ليدرسا سنة اللغة معاً في جامعة قزوين. وعندما اختارا دراسة الهندسة كان نصيب أحدهما في مشهد، والثاني في أصفهان. جاء وقع الخبر صاعقاً على الشابين، فاعترضا ورفضا هذا الفصل القسري، وحاولا عبر كل الوسائل إعادة اللحمة. وبعد مراجعات وأخذ ورد تنجح المحاولات ويعودان معاً ليستمتعا بدفء الأخوّة والصداقة.
بعد عودتهما يلتحقان معاً في صفوف المقاومة الإسلامية اللبنانية، ويكون عملهما معاً أيضاً، وعندما تندلع الحرب في سوريا يعملان معاً في مجاهدة التكفيريين، ويستشهدان معا في غارة صهيونية على سوريا، ويشيّعان معاً في الضاحية الجنوبية، ويواريان في الثرى معاً في روضة الشهيدين. إلى هنا تنتهي القصة تاركة القارئ في حيرة وذهول عن الأقدار التي جمعت هذين الشابين منذ سنوات الدراسة الأولى إلى الدراسة الثانوية والدراسة الجامعية، وما تخلل ذلك من مشاغبات الشباب وطرائف الصبا حتى لحظة الشهادة ومراسم التشييع والدفن في جبانة واحدة، وتسدل الستارة على مشهد عائلتي الشهيدين القادمتين، واحدة من الجنوب والثانية من البقاع، تلتقيان معاً في مشهدية مؤثرة تحت ظلال الهتافات والأرزّ المنثور على رؤوس المشيعين، تهطل الدموع غزيرة مدرارةً وتسبق الأرز إلى الأرض في شوارع الضاحية الجنوبية لبيروت، وصولاً إلى روضة الشهيدين، حيث ووريا في الثرى في لحظة واحدة تستدعي فيضاً من المشاعر، تترك الذهن شارداً إزاء كمّ التضحيات التي قدمتها المقاومة اللبنانية في وجه هذا الوحش ذي الوجهين الصهيو - التكفيري.
تغيب عن "توأمان حتى الشهادة" تفاصيل العمليات العسكرية والأسرار الأمنية التي يتشوق القارئ إلى معرفتها، ولا يخفى علينا أن هذه الأسرار ما زالت الى الحين طيَّ الكتمان في سِجِلات المقاومة، ولن يفرج عنها قبل مرور فترة من الزمن يغدو معها إمكان استفادة العدو منها مستحيلاً. وكي تعوض القاصّة هذه الفجوة في التفاصيل، عمدت إلى لغة التفافية طغت عليها إنشائية مغسولة بأمطار الشعر والحنين ولوعة الفراق، وهو كأس تجرّعه القارئ بمرارة وحزن وإحساس بالفقد على نحو لا يقل عن إحساس الكاتبة نفسها، وربما عن إحساس أهل الشهيدين.
تروي "توأمان حتى الشهادة" سردياً حكاية من حكايات المقاومة المجبولة بالعرق والدم والطرائف ومشاغبات الصبا والذكريات الجميلة، وتحكي عن عرى التقوى والإيمان، والتي هي الجذر الحقيقي لكل هذا الصمود وهذا التحدي وهذه الانتصارات.